وهي المحاضرة التي ألقاها بمكناس تحت إشراف وزارة التهذيب الوطني
بسم الله الرحمن الرحيم أيها المستمعون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
دين الحق لا يتنافى ولا يتعارض أبدا مع السنن الكونية، لأن مصدرها واحد وهو مشيئة الله وحكمه الذي لا معقب له. فمن أراد أن يحارب السنن الكونية باسم الدين كانت عاقبته الهزيمة. ومن الأمثلة على ذلك سنة التزاوج والتناسل التي سنها الله للحيوان والنبات، فمن أراد أن يعطلها زاعما أن تعطيلها من الدين ومما يتقرب به إلى الله يعجز و يقهر ولا يتم له ما أراد أبدا. ويجني على نفسه وعلى من اتبعه شقاء عظيما في جسمه وعقله دون أن يحصل على طائل. ولا تنحصر الجناية في من انتحل ذلك ولا في اتباعه، بل تعم شعبه. فقد زعم النساك من قدماء أهل الهند أن ترك الدنيا والزهد فيها هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفس ويزكيها ويرفعها إلى الملأ الأعلى. فتركوا العمل والتزموا الجوع والعري واعتزلوا الناس واستوحشوا منهم وسكنوا القفار مع الوحش وهجروا الأمصار وأطالوا الفكرة. وكانت أفكارهم عقيمة، نتائجها سلبية.
فمن هنا القول بتناسخ الأرواح، وحاصله أن الأرواح محدودة، لاتزيد ولا تنقص، سواء في ذلك أرواح الحيوان الناطق وأرواح الحيوان الأعجم. فمتى مات موجود حي انتقلت روحه من ذلك الجسم الفاني إلى جسم ناشئ يولد ساعة خروجها من الجسم الفاني. فكأنهما كانا على ميعاد. ولما رأوا أن العدالة الربانية التي عليها تقوم السموات والأرض، والتي هي مقتضى حكمة الله وعلمه وقدرته، فكروا كيف يكون هذا الجزاء، فلم يجدوا حلا للمعضلة إلا أن يدعوا دعوى كل حياة من الحيوات التي يحياها الإنسان ويعبر عنها بالتجسدات تترقى فيها الروح في الدرجات العلى أو تهبط إلى الدركات السفلى، على حسب عملها. فإن عملت في الحياة الأولى أي التجسد الأول عملا صالحا بحسن معاملتها للإنسان والحيوان وتجنبت السيئات والآثام تنتقل بعد فناء جسمها إلى طبقة من طبقات البشر هي أجل وأعلى من الطبقة التي كانت فيها جزاء حسنا ومثوبة على عملها الصالح في الحياة المتقدمة وتفوز برضوان الآلهة. وإن اقترفت السيئات وخرجت عن شريعة الآلهة تعاقب في حياتها التالية بأن ترجع إلى الدنيا في جسم من طبقة منحطة وحقيرة. وإن استمرت في ارتكاب الموبقات يستمر عقابها حتى تصل إلى دركة المنبوذين. وإن زادت في غيها تنحط حتى ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان شريف كالفرس مثلا. فإن لم تنته عن جرائمها ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان حقير وهكذا دواليك حتى تصل إلى دركة الفئران. وربما انحطت إلى دركة الخنافس.
والطبقات عند الهنادك كثيرة. أعلاها طبقة البراهمة. فهؤلاء يولدون مقدسين من بطون أمهاتهم. وكل ما عملوه فهو حق. لا تكتب عليهم سيئة واحدة طول أعمارهم. وإذا ماتوا تلتحق أرواحهم بالملأ الأعلى. وليت شعري، إذا كان عدد الأرواح محدودا، فمن أين يجيء المدد الذي يخلف الطبقة العليا التي لا ترجع إلى الدنيا. وأسفل الطبقات، طبقة المنبوذين. ولا يجوز أن تخالط طبقة عالية طبقة أخرى أسفل منها. فلا تؤاكلها ولا تشاربها ولا تجالسها ولا يجمعها معابدها. ولا يجوز للطبقة السفلى أن تتزوج بأفراد الطبقة العليا ولا أن تأكل أو تشرب في آنيتها ولا أن تمس طعامها. والمسلم عندهم يعتبر نجسا، إذا مس طعاما تنجس ذلك الطعام.
وأذكر أني كنت متجولا في أسواق دهلي عاصمة الهند في أول سفرة سافرتها إلى الهند فرأيت في حانوت كوما من الزبيب الذي ليس له نوى، ويسمى عندهم (كشمش). فأهويت بيدي لألمس ذلك الزبيب. وقبل أن تصل يدي إليه جذبت من خلفي جذبة قوية حتى سقطت على ظهري. فقمت وسألت الطالب الذي كان يرافقني من جذبني؟ فقال لي أنا جذبتك، خوفا عليك من أن تقع في مشكلة عويصة يعسر عليك حلها أنظر إلى صاحب الحانوت فهو غضبان يصيح ويشتم. ولو وقعت يدك عليه لألزمك بثمنه كله. وكنت مرة أخرى في مدينة بمبي. وهي مدينة مشهورة بناحية كجرات. وكان الوقت ليلا، فرأيت قلة منتصبة فلمستها بيدي، فغضب صاحبها و صاح صياحا كثيرا. ورأيته أخذ القلة وصب الماء الذي كان فيها، مع أني لم ألمس إلا جانبها. ولا أدري هل كسرها أو إنتفع بها بعد غسلها.
ومما يدل على الأول أن المتصدقين بالماء البارد من الهنادك في محطات السكة الحديدية يعدون آنية صغيرة بقدر ما يشرب الشخص الواحد من الخزف ويصبون الماء فيها لكل من يحتاج إليه من غير أهل طبقتهم، ومن شرب في إناء منها، إن شاء أخذه وإن لم يرده ألقاه، لأن ذلك الهندكي لايمسه بعد ذلك. فإن انقضت تلك الأواني وجاءه شخص من غير أهل طبقته يصب له الماء في يديه.
جريدة الميثاق: عدد 1 ذو الحجة 1381هـ موافق 06 ماي 1962م. ص: 2