وأما الطبقة المنبوذة فأمرها أدهى وأمر. فلا يجوز لأهلها أن يسكنوا في مدينة ولا قرية. وإنما يتخذون أكواخا بعيدة من المدن ويسكنون فيها ويحفرون آبارا يشربون منها، وإن كان يقربهم نهر عظيم تسير في السفن، لأنهم لا يسمح لهم بأخذ الماء منه، لئلا يتنجس. وبحكم هذه العزلة والإستقذار الذي حكمت به الآلهة بزعمهم لا يجد المنبوذون عملا. مع أن عددهم ثمانون مليونا. فإن قلت وبم يعيشون؟ فما بجواب أنهم يعيشون بنقل النجاسات من بيوت الخلاء في جوف الليل ويخرجونها إلى مكان بعيد من المدينة فيحرقونها. ويأخذون أجورا على ذلك، يأتيهم بها شخص في كل شهر فيعطيهم إياها.
ولعل المستمعين الكرام لا يعلمون أن أهل الهند حتى في المدن الكبيرة ليس عندهم مراحيض إلا في النادر. فترى الديار الكبيرة الجميلة من بيوت الأغنياء المترفين، فإذا سألت عن بيت الخلاء يدلونك عن بيت الخلاء يدلونك على مكان قد بني فيه شبه الكوانين التي توقد فيها النار، وفي كل واحد منها إناء عليه غطاء يكشفه المتخلي ويتخلى فيه ثم يغطيه، ولهذا المكان بابان، باب إلى داخل الدار وباب إلى الشارع. وهذا الباب الذي إلى الشارع له قفل ومفتاح، يكون دائما عند المنبوذ، ليأتي في جوف الليل ويفتح ذلك المكان ويخرج كل ما فيه ويجعله في عربة النجاسات ثم يغسل الأواني ويردها إلى مواضعها. وهذا شيء عام في جميع بلاد الهند. وسبب منع المنبوذين من دخول المدن نهارا هو نجاسة أجسامهم التي بلغت إلى حد أن ظل المنبوذ ..(غير واضح في الأصل).. وهذا الأمر ليس مفروضا على المنبوذين من قبل الطبقات العليا فقط، بل المنبوذون أنفسهم يعتقدون أنه أمر مبرم حكمت به الآلهة عليهم، للذنوب التي ارتكبوها في التجسدات السالفة، ولا مرد لحكمها.
وقد حاول غاندي أن يغير هذه العقيدة ويطهر المنبوذين وزعم أنه نزل عليه الوحي يأمره بذلك. وكرر القول في مقالات نشرها في الصحيفة التي كان يصدرها واسمها (هارجان). وقال فيها فإن طلبتم مني دليلا على أن الله أوحى إلي بذلك أجيبكم. ليس عندي دليل، ولكني لا أشك في ذلك أبدا. ومع أن غاندي كان من الطبقة المقدسة، وهي البراهمة. وكان وطنيا مخلصا متعبدا زاهدا في الدنيا، قضى جل حياته في سجون الاستعمار، لم يقبل منه الهنادك هذه الدعوى لأنها تفسد عليهم دينهم وتأتي بنيانه من القواعد وتجعل عاليه سافله. وحاول الدكتور امبدكار وأصله من المنبوذين وقد كفر بعقيدتهم وتعلم حتى حصل على شهادة الدكتورة. حاول أن يقنعهم ببطلان عقيدة التجنس ويفهمهم أنهم بشر كسائر البشر فلم يفلح. ولا يزال الدعاة من المسلمين والنصارى بدعوتهم إلى تغيير عقيدتهم فيستجيب لهم من قدر له منهم أن يخرج من ذلك الشقاء، إلا أن دعوة المسلمين أكثر نجاحا، لأن المنبوذ إذا اسلم يمتزج مع المسلمين في الحين و يستطيع أن يخالط جميع المسلمين في مساجدهم ومدارسهم ومجالسهم، لا يرتفع عليه أحد منهم وإن كان ملكا أو أميرا. أما النصارى فقد يستقذر بعض الأوربيين مجالسة المنبوذين والصلاة معهم في كنيسة واحدة فيأمرونهم ببناء كنائس خاصة بهم. ومما حدث من قبيل دعوة المسلمين المنبوذين إلى الإسلام أن أحد علماء المسلمين عكف على دعوة جماعة من المنبوذين وأقام عندهم زمانا طويلا يشرح لهم فضل الإسلام وبطلان ما هم عليه حتى هداهم الله جميعا فأسلموا واحتفلوا بيوم إسلامهم فخرجوا من أكواخههم رجالا ونساء وصبيانا وقد حمل كل واحد منهم قلة وانطلقوا إلى النهر وهم يكبرون الله أكبر الله أكبر حتى ملؤوا القلل وحملوها على أكتافهم ورجعوا إلى بيوتهم فرحين مستبشرين، يحمدون الله الذي أزال عنهم تلك اللعنة وطهرهم وهداهم إلى الإسلام.
(يتبع)
جريدة الميثاق: عدد 15 ذو الحجة 1381هـ موافق 20 ماي 1962م. ص: 2