وقد جرتهم عقيدة التناسخ إلى عقيدة أخرى تضاهيها في الفساد والشر. وهي تحريم ذبح الحيوان وأكل لحمه مخافة أن يكون ذلك الحيوان قد حلت فيه روح أحد أجدادهم. فلا يجوز عندهم قتل أي حيوان وإن كان مؤذيا كالقرد مثلا. ولذلك ترى القردة تسير في مدن الهند أسرابا وتتسلق جدران البيوت وتنزل إلى السطوح وتخيف النساء والصبيان وتفسد كل ما وصلت إليه أيديها من طعام وثياب وغير ذلك. وقد اتفق أني حين كنت في الهند ساكنا في مدينة لكناو طبعت خمس مائة غلاف بعنواني وكانت موضوعة في غرفة فجاءت القردة وفتحت نافذة الغرفة فدخلت واخذ كل واحد منها قبضة يده من الغلافات وخرجوا بها وألقوها في الهواء فتشتت في كل مكان من المحلة التي كنت أسكنها فجمع أهل المحلة ما أمكن جمعه منها وجاءوني به.
ومن أذاها للناس أنها تجتمع بالمئات عند قبة صنم لتنال من صدقات الزائرين من عباده. ولما كان المستمعون الكرام لا يعرفون الأصنام، لأنهم لم يشاهدوها أرى من المستحسن أن أصف لهم هذا الصنم فهو تمثال رجل واقف على قدميه عليه ثيابه وعمامته وله لحية وافرة سوداء ووجهه أبيض مشوب بحمرة يظن الرائي أنه حي. وقد جلس عنده ناسك وهو عريان أسود الجسم نحيل جدا. حتى كأنه هيكل عظمي. فيجيء الزائر ويسجد لذلك الصنم سجدة واحدة ثم يقوم ويقدم النذر أو الصدقة لذلك الناسك وينصرف فيتصدق على القردة بما تيسر له من الطعام. وهذه القردة تقطع الطريق على المارة، فمتى رأت شخصا يحمل طعاما. والعادة جارية بأن الموظفين …(غير واضح في الأصل)… وقت الظهر، متى رأت القردة شخصا يحمل طعاما وليس عنده ما يدافع به عن نفسه هجمت عليه وخمشته بأظفارها وانتزعت منه ذلك الطعام. ولا يستطيع المسلمون أن يمسوا القردة بسوء خوفا من نقمة الوثنيين الذين يدافعون عن كل حيوان ويمنحونه حمايتهم ورعايتهم مخافة أن يكون أحد أجدادهم قد تقمص جسمه. ولذلك لا يستطيع أحد أن يظهر لحم الحيوان لأن الهنادك لا يستطيعون رؤيته. ومن أجل ذلك صارت المجزرة في بلدانهم يحيط بها سور، ولكل باب من أبوابها دهليز طويل، حتى لا تقع عين هندكي على لحم يقطع أو يباع.
ومما يتصل بهذا ويحسن ذكره هنا عبادتهم للبقرة وتقديسهم لها. فمتى بلغهم ولو كذبا أن المسلمين أو النصارى ذبحوا بقرة أعلنوا عليهم الحرب وأزهقت بسبب ذلك نفوس كثيرة. والبقرة تشعر بذلك لا تسير إلا في الرصيف. ولا تسير في قارعة الطريق كالحيوان. ومتى مرت بصاحب دكان وقفت ونظرت إليه فإن كان وثنيا خرج إليها وقدم إليها الحلوى وقبلها وتمسح بها. ومن عادة المتمسكين بالدين عندهم أنهم يخلطون خثيى البقرة بتراب مقدس عندهم ويضعونه خطا على جباههم للتبرك والحفظ. أخبرني بذلك المسلمون حين سألتهم عن تلك الخطوط التي كنت أراها على جباه المشركين.
وهذه العقيدة ليست قديمة جدا عند الوثنيين من أهل الهند، فقد ثبت في التاريخ أن راما وهو أعظم آلهتهم كان ملكا وكان يصيد الحيوان. وقد بلغ من تعظيمهم لرام أنهم جعلوا اسمه تحية. فمتى التقى اثنان منهم …(غير واضح في الأصل)… بقوله (رام) فيجيبه الآخر بمثل ذلك.
وكان أبو العلاء المعري على هذه العقيدة، فإنه لم يأكل اللحم أربعين سنة. وزعم أن ذبح الحيوان وأكل لحمه وبيضه وشرب لبنه كل ذلك عدوان وظلم. وهذا يدل على جهله بالسنن الكونية. وذلك أن الله جلت قدرته وبلغت حكمته جعل استمداد الحياة من الحياة، فجعل غذاء الحيوان من الحيوان ومن النبات في البر والبحر ولن تجد لسنة الله تبديلا. وكل ما يأكله ويشربه الإنسان والحيوان مملوء بأنواع الحيوان من الجراثيم التي لا ترى بالبصر. فكل حيوان آكل ومأكول، والإنسان الذي هو أشرف الحيوان يأكله الدود وهو من أحقر الحيوان. وليس في قدرة الإنسان أن يمتنع من استهلاك الحيوان. فتورع أبي العلاء عن أكل لحم الحيوان تورع باطل وفلسفة فاسدة. فالأنبياء هم أعلم الناس وأرحمهم وأورعهم كانوا يأكلون اللحم. بل الله وهو أرحم الراحمين أباح لجميع الناس أكل اللحوم والانتفاع بلبن الحيوان وبيضه وصوفه ووبره وشعره وجلده. فمن أراد تعطيل تلك المنافع فقد سفه نفسه وأراد تغيير سنة الله ولن يجد إلى ذلك سبيلا.
وقد أخبرني المسلمون في الهند أن كثيرا من الهنادك يأكلون اللحم سرا، فيكلفون أصدقائهم من المسلمين أن يشتروا لهم اللحم ويأتوهم به خفية. وهكذا كل من أراد أن يبدل سنة الله أهلك نفسه ولم يحصل على طائل:
كناطح صخرة يوما ليوهنها *** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
جريدة الميثاق: عدد 1 محرم 1382هـ موافق 4 يونيه 1962م. ص: 2