ومن ذلك الترهب بترك التزوج وتعاطي أسباب المعيشة للمتفرغ إلى عبادة الله بزعم المنتحلين لذلك. وهذا من الجهل بسنة الله وفطرته ومحاولة تغييرها. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبادة الله ليست منحصرة في الصيام والصلاة، بل كل قول أو عمل يراد به وجه الله عبادة. وقد أوجب الله على عباده واجبات كثيرة، فمن ضيع بعضها كمن ضيعها كلها. عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر. وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. رواه البخاري. وإنما غضب النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك الرجال لأمور، منها أنهم جهلوا الأصل العظيم، وهو أن كل قول وعمل يراد به وجه الله فهو عبادة. وذلك خطأ عظيم يجر صاحبه إلى الضلال. ومنها أنهم ظنوا أنهم أقوى على العبادة وأقدر عليها من النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا الخطأ أعظم مما قبله.
ومنها أنهم إذا شغلوا أنفسهم بنوع واحد من العبادة ضيعوا واجبات وحقوقا أخرى، فكانوا كمن قضى الدين بالدين، وما أحسن قول الشاعر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن *** قضاء ولكن ذاك غرم على غرم
يوضح هذا المعنى حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو ذر إن ناسا قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرايتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم.
وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق. رواه مسلم. وعنه أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة. رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الإثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، رواه البخاري ومسلم. وفي حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك. والآثار في هذا المعنى كثيرة. اقتصرنا منها على ما يتسع له المقام.
وإذا تأملنا أنواع البر الواردة في هذه الأحاديث وحدها نجدها كثيرة. أولها ذكر الله بالقلب واللسان. وثانيها الأمر بالمعروف، وهو كل أمر مستحسن شرعا. وثالثها، النهي عن المنكر، وهو كل أمر محرم كالظلم والعدوان وتعدي حدود الله. ورابعها التزوج ومباشرة الأهل، لأن فيها طلبا للولد ومنعا للزوجين من الوقوع في المحرمات والإستغناء عن الحرام بالحلال. وخامسها حق الضيف والزائرين كما في حديث سلمان وأبي الدرداء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له. “إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه”. وهناك حقوق كثيرة كحق الأولاد والوالدين وسائر ذوي القربى واليتامى والمساكين والأصحاب وابن السبيل إلى غير ذلك. والترهيب يضيع كل هذه الحقوق، وقوله عليه الصلاة والسلام. يصبح على كل سلامى من الناس صدقة. السلامى العضو من أعضاء الجسم. ففي كل صباح تكون على الإنسان واجبات اجتماعية بقدر عدد أعضاء جسمه، فإذا وجد اثنين متخاصمين فأصلح بينهما بالعدل فقد أدى واجب عضو من أعضاء جسمه. وإذا وجد إنسانا يريد أن يركب دابته أو سيارته أو سفينته أو يحمل عليها متاعه وأعانه على ذلك فقد أدى واجب عضو آخر. وإذا وجد في طريق الناس ما يؤذيهم فأزاله فقد أدى واجب عضو آخر. والأنواع التي تؤذي الناس في طريقهم كثيرة. منها الشوكة والحجر والنجاسات وقطاع الطريق والسباع وكل ذوات السموم. ويدخل في هذا بناء القناطر والسدود وتعبيد الطريق أي تسويته وتبليطه وإزالة الأوحال والثلوج وغير ذلك. ومن القربات جمع المال من طريق الحلال حتى يغني الإنسان نفسه وأهله ويترك لورثته ما يغنيهم. ومنها ملاطفة الزوجة باختيار لقمة شهية أو ثمرة ووضعها في فمها كما مضى في الحديث. والمتبتل المنقطع للصلاة والصيام المعتزل عن الناس يفوته ذلك كله وغيره من التعلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتشييع الجنازة وغير ذلك من القربات الاجتماعية.
وهذا الموضوع واسع لايستوعبه مجلد. فنمسك عنان القلم ونكتفي بهذا القدر.
جريدة الميثاق: عدد 15 محرم 1382هـ موافق 18 يونيو 1962م. ص: 2