وقال في مقال نشر في مجلة الأطلس في جزئها الصادر بتاريخ فاتح أبريل 1963 أن الشبان الثلاثة المحكوم عليهم بالإعدام لم يرتكبوا جريمة ولم يعتدوا على حرية أحد، ولم يتآمروا على الدولة المغربية، كل ما اعتمدت عليه المحكمة من براهين في معاملتهم بهذه القسوة المرهبة، هو أنهم (مسوا بالإيمان الديني). أقول، بلی، إنهم ارتكبوا أعظم الجرائم بنقض العهد وخيانة الأمة وتكذيب الرسول والقرآن. قوله ولم يعتدوا على حرية أحد. أقول، بلى، إنهم اعتدوا على جميع المسلمین عموما. وعددهم نحو خمسمائة مليون واعتدوا على المغاربة خصوصا وعددهم اثنا عشر مليونا بالطعن في دينهم، وهم يعيشون في بلادهم ويذعنون إلى دستورهم وقوله، ولم يتآمروا على الدولة المغربية إذا كنا نعني ما نقول، ونقول ما نعتقد فإنهم اعتدوا على الدولة والشعب أجمعه في أعز المقدسات التي تبذل دونها المهج والأرواح فضلا عن المال والجاه. وقوله، كل ما اعتمدت عليه المحكمة الخ. إن كان الإيمان الديني يعد عندك من سقط المتاع، فإن ملايين كثيرة من أبناء الشعب المغربي وبناته عزيز عليهم إيمانهم يفدونه بأنفسهم وأموالهم ولا يبيعونه بثمن وإن غلا وعلا. قوله، إدانة جماعة من خلق الله جهل باللغة، إنما يقال دانه يدينه دينا. قال الحماسي،
فلما صرح الشــ ** ـر فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوی العد ** وان دناهم كما دانوا
وقال تعالى في سورة النور (25 يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق وتعلمون أن الله هو الحق المبين) فمحكمة الناضور دانت ثلاثة رهط ووفتهم دينهم لا إدانتهم. قوله لا يناصبون العداء لدين النبي محمد، بل يعترفون برسالته. وكم من مسيحي ويهودي اعترف بالدين المحمدي على يدهم الخ. أقول، هذا جهل أو تجاهل وتضليل، وقد تقدم إبطاله. ولو كانوا مسلمين أو حتى مرتدين ثم تابوا ورجعوا إلى الإسلام لم تمسهم محكمة الناضور بسوء، لا سجن ولا قتل ولا غيرهما، فقد استمرت محاكمتها، كما جاء في صحيفة الميثاق من يوم الاثنين 10 – 12 – 62 م إلى العاشرة ليلا من يوم الجمعة الموافق 14 – 12 – 62 م. فلو لم يصرحوا بكفرهم وطعنهم في الإسلام المخل بالأمن العام ويصروا على ذلك ما صدر عليهم الحكم. ثم عاد الكاتب على ما قاله بالنقض والإبطال فقال عقب ذلك مباشرة. لكن ضمائرهم وهي أغلى ما يكسبونه. متأكدة بأن الإلهام الإلهي مستمر. وإن الله يزرع روحه القدسي في عباده المخلصين وضمائرهم تحتم عليهم أن يصدقوا ما جاء به بهاء اللاه أقول: ضمائرهم لو كانت شريفة وحرة لما باعت دینها بلقيمات ودريهمات تقبضها من يد داعيتها الذي يقبضها من أعداء الإسلام خارج المغرب، فلا هو حړ الضمير ولا هم وليس عندهم من الإيمان مثقال ذرة، وإنما يبثون الشر والفساد والفتنة مأجورين بأجور زهيدة. ثم قال:
فهل من الحكمة والعقل والرجولة أن نعدمهم لأنهم غير منافقین؟. أقول وهل من الحكمة والعدل والرجولة أن نجعل دولة النبي وما بعدها من الدول والشعوب إلى هذه الدولة العلوية المباركة التي هي امتداد لتلك الدول كلهم منافقین، لأنهم كلهم يحكمون على المرتد بالقتل، لأنه خان الله ورسوله والمؤمنين وخان وطنه وباعه بلقيمات، فلا أشبع الله له بطنا. فهلا عاش بكد يده وصان دينه وشرفه ولم يمد يده إلى الأجنبي المأجور. أرجو أن يكون هذا الكاتب جاهلا بحكم المرتد في الإسلام، فإن كان كذلك فعليه أن يبادر إلى قراءة مقالي المشار إليه في دعوة الحق، وإن كان عالما بذلك الحكم فقد سب الله ورسوله وجميع المسلمين من أولهم إلى آخرهم ونسب إليهم التعطش إلى سفك الدماء البريئة وجاء بإحدى الكبر؛ إن في المغاربة رجالا يمنعهم دينهم ومروءتهم ورحمتهم وشفقتهم من سفك دم أي حيوان غير مأذون في ذبحه أو قتله، ولا يرضون أن يمس أي موطن، كيفما كان دينه بسوء وما بالعهد من قدم، فقد اقتص إمامهم وملكهم محمد الخامس وحكومته من الذين قتلوا الفرنسيين المواطنين في مكناس عقب اختطاف طائرة الزعماء الجزائريين، ولم يعذرهم بحرارة تلك الفاجعة لما رآهم قد تعدوا حدود الحق وسفكوا الدماء بغير إذن شرعي. وقد قتل في هذه الأيام مواطن فرنسي بيد لص مجرم فنزل قتله على قلوب المغاربة نزول الصاعقة. وبلغنا أن جلالة الملك الحسن الثاني أدام الله توفيقه كان حينئذ متأهبا للسفر إلى أمريكا فامتنع من السفر حتى قبض على الجاني. فالرحمة والشفقة إنما تستحسن في حق المعصومين الذين عصموا دماءهم وأموالهم بالوفاء بعهودهم، ولم يتعدوا حدود الشريعة المطهرة. أما من حكمت عليه المحكمة بحكم يستند إلى القانون الذي يثبت إجرامه فلا يشفق عليه إلا مجرم مثله. قوله ما كان الإيمان بالإكراه قوة وصولة، وما كان له قيمة في الدنيا. أقول، هذه كلمة حق أريد بها باطل، فإن الإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه. وفي المغرب مواطنون من غير المسلمين لم يكرههم أحد على الإسلام حتى في زمان الفوضى فكيف بزمان النظام ولكن من دخل في الإسلام. والتزم عهد الله وميثاقه، ثم نقضه يقتل شرعا وقانونا، وليس ذلك من الإكراه في شيء، راجع مقال (حكم المرتد في الإسلام) والمشار إليه أعلاه، فقد بسطت القول في هذا المعنى من الوجهة القانونية العالمية.
طالما تغنى هذا الكاتب بمحبة البشرية والعلم والصفح، فلم يلبث أن انهال بالشتائم على علماء الأمة وحكامها ووصفهم بالجهل والنفاق والسخافة والطغيان والكذب والجهالة العمياء. فمن هو أحق بهذه الأوصاف الجميلة الصادرة من قلب طاهر نقي يحب الضمير الأعلى القدسي ويمطر عباد الله المخلصين بأقذار الشتائم التي لا تصدر ممن يحترمون أنفسهم ويدعون إلى الإصلاح. ثم قال الناس أحرار، فبأي مقیاس نحكم على هذا الشخص حكما نهائيا بأنه مصيب وهذا الآخر أنه مخطيء، هل أتى الله معلنا لنا بكل وضوح كذب هذا الدين وصدق هذا الدين الآخر. أقول، أولا، تعالى الله عن قولك علوا كبيرا. لقد قالها الذين من قبلك قال تعالى في سورة الفرقان (21-22 وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) ما أكثر تناقضه، ألم يقل، أن البهائيين يؤمنون بالنبي محمد، وقد دخل على أيديهم في الإسلام كثير من اليهود والنصاری وهذا يقتضي أن دينهم هو الإسلام، وأن عقيدتهم لا تنافيه. وسرعان ما نسي فأثبت هنا أن البهائية دين مستقل مناف للإسلام مناقض له وأنه لا يستطيع أن يحكم على أحدهما بالخطأ والإصابة أو بالصدق والكذب حتى يأتي الله تعالی ويعلن بوضوح أن أحدهما صدق، وأن الآخر كذب، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فنقول لك أن البهائية ليست بدين، وإنما هي نصب وتدجيل، فأین الأمة التي آمنت بها وأين الشعوب التي اهتدت بها؟ ثم إن الله قد قال لنا على لسان رسوله محمد الذي زعمت أن البهائيين يومنون به ويدعون إلى دينه، وقد أدخلوا فيه كثيرا من اليهود والنصارى قال لنا في سورة آل عمران (19 إن الدين عند الله الإسلام) وقال تعالى (86 ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقد آمنت الشعوب الإسلامية، ومنها الشعب المغربي بكتاب الله وبرسول الله ودينه الحق وبايعت على ذلك، ومن شذ شذ في النار. قوله، لأن جميع العقائد لا تستطيع مقاومة المناقشة، ولأن فيها من المتناقضات ما يدع (كذا) لضمير الإنسان النزيه عمره كله ليتأملها ولعل عمره ينتهي دون أن يصل إلى معرفة المطلق. إن المسلمين لا يناقشون أحدا في عقيدته ولا يخافونه، قال تعالى في سورة العنكبوت (46 ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) ويدعون الناس إلى الإسلام بالموعظة الحسنة. ولكن من نقض عهدهم وارتد عن الإسلام ينفذون فيه أمر الله ويحكمون فيه بحكم رسول الله وبحكم القانون العالمي، كما تقدم بيانه.
قوله: ونحن على عتبة الحضارة سنرجع ببلدنا الحبيب إلى القرون الوسطى. أقول هذا كلام جاهل بالتاريخ وبتطور الأمم وارتقائها وانحطاطها، لا توجد في تاريخ الإسلام قرون وسطى، وإنما هي قرون ارتقاء وعز ومجد وقوة ونصر وعلم ونور، وهي من بعثة محمد إلى زمان الاستعمار، وقرون انحطاط، وذلة، وضعف، وانحلال وتخاذل وجهل، وخنوع وفقر وهي من ابتداء الاستعمار إلى يومنا هذا. وما دام فينا من يفكر بمثل تفكير هذا الكاتب الألمعي فإننا سنبقى في انحطاطنا دهرا طويلا، لأننا لا نزال نهوي ولم نصل بعد إلى الحضيض. وسأسوق هنا واقعة لم تحدث في زمان بلوغنا قمة المجد، أعني زمان الدول الاسلامية العظام التي خلفت لنا هذا التراث العظيم الذي لم نحافظ عليه، وإنما أذكر هنا حكاية وقعت في زمان الملك محمد بن عبد الله العلوي قدس الله روحه. وكان المغرب في ذلك الوقت آخذا في التقهقر وقد قطعت أطرافه وفقد كثيرا من قواه ولم يبق بينه وبين زمان الاستعمار إلا قليل. هذه الحكاية ترينا كيف كنا في زمان الإسلام حين لم يكن أحد يتجرأ أن يدافع عن الخائنين فضلا عن أن يطعن في الدين على صفحات المجلات. كنت أنقب في خزانة معهد المشرقيات من جامعة بون أيام كنت مشتغلا بالدراسة هناك، فوجدت كتابا يشتمل على وثائق فوجدت بينها كتابا بعث به الملك المذكور إلى ملك جنوة بخط مغربي جميل مختوم بالختم الملكي فأخذت صورة فوتوكرافية لذلك الكتاب وبعثت به إلى مجلة الفتح المصرية مع تعليق طويل فنشر فيها سنة 1937، وحاصل الحكاية هي أن المعاهدة التي كانت بين المملكة المغربية وبين جميع الدول الأوربية التي كانت لها مراكب تخر عباب البحر تقضي في جملة ما تقضي به أن من حمل من أهل تلك المراكب حجاجا مغاربة إلى جدة من مرسی مغربي يجب عليه أن يردهم إلى ذلك المرسی بعينه، فاتفق أن مركبا جنوبيا حمل حاجا مغربيا، فلم يرده إلى المرسى الذي حمله منه فرفع المغربي الأمر إلى الملك، فكتب ملك المغرب إلى ملك جنوة يخبره بأن بعض رعيته من أصحاب السفن قد نقض العهد وأنه قد اعطى أمره المطاع إلى قائد الأسطول المغربي في سلا أن يقبض كل سفينة جنوية يجدها في البحر. فجال قائد الأسطول المغربي جولة وأسر عددا من المراكب الجنوية وجاء بها إلى شاطيء سلا.
تقي الدين الهلالي
(يتبع)
جريدة الميثاق: عدد 15 جمادى الثانية 1383هـ موافق 2 نونبر 1963م.