مناظرة في مسألة القبور والمشاهد: (1) (2) (3) (4) (5) (7)
(المقام السابع والعشرون) قوله: ومن جاء بعدهم قوم لم يتدبروا معاني الحديث، ولم يتفطنوا لما عليه أسلافهم فشددوا النكير على تشييد القباب والبناءات حول القبور زعمًا منهم أنهم فهموا من الأحاديث ما لم يصل إليه أئمة المسلمين وهيهات ذلك.
أقول: وددت أن هذه المغالطة القبيحة لم تصدر من السيد مهدي – والمقدر كائن- وما أدري كيف طاوعه ضميره ولم ينهه عن عكس القضية، فناشدتك الله الذي هو عند لسان كل قائل: من أحق بهذا الكلام ؟ في الاستدراك على السلف، والحكم عليهم بالجهل، والرغبة عن الخير، وعدم الفطنة لفضيلة بناء القباب مع أنهم زعموا أنها من أعظم القربات.
الذين ابتدعوا بناء القباب وزخرفها، وزينوا للغافلين الجاهلين الغلو فيها، ولم ينصحوهم حتى وقعوا في الكفر البواح، وعصوا الرسول، وضربوا بنصوصه المستفيضة عرض الحائط، وجاءوا بموبقة لم تخطر ببال أحد من السلف؛ سلف جميع الطوائف فضلاً عن أن يقولوا بها، بل أجمعوا على تركها.
ولو كانت خيرًا ما قصر عنها السلف، وسبق إليها الخلف، أم الذين تلوا نصوص نبيهم، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وأجروها على ظواهر دلالتها بلا تأويل ولا تحريف ولا تعسف، وفهموا منها ما فهمه الأسلاف، فانتهوا عما نهتهم عنه كما انتهى سلفهم، فوافقوا السلف علمًا وفهمًا وعملاً، ولم يبتدعوا بعدهم مثقال ذرة، فهذه أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف وأفعالهم وفيها هدم ما يبنى على القبر وتروكهم، ومنها ترك بناء القباب وغيرها على القبور كلها مع المانعين من القباب، وليس مع المجيزين لها حرف واحد عن الرسول، ولا لهم سلف به في بدعتهم ألبتة إلا من هو مثلهم أو قريب منهم، أو زلة صدرت من غير معصوم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحدث الناس بالأغاليط حتى تلتبس أحاديثه على الأفكار، وتتضارب فيها الأفهام، وكيف وهو أفصح الفصحاء وأقدرهم على إيصال مراده إلى الأذهان السليمة والقلوب البصيرة الطاهرة من البدع بكل سهولة، فكل من له أدنى معرفة بلغة العرب، ورأى نصوص الباب، وتلقاها بقلب سليم من العصبية تبين له كالشمس مراد الرسول فيها بلا كلفة لا يختلف في ذلك اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان.
ثم لو سكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، وسكت السلف لكان محرمًا بلا شك لأدلة (منها) أنه بدعة وكل بدعة ضلالة على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه حدث، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، (ومنها) إجماع السلف على تركه، (ومنها) أنه باب جهنمي من أبواب الشرك ما قرت عين إبليس بمثله، وما ولجه أحد إلا ارتطم في قعر هاوية الكفر كما هو مشاهد بالعيان، ولا يحتاج إلى إقامة برهان، (ومنها) اتفاق العقلاء، (ومنها) أنه من سنن المشركين وقد أمرنا بمخالفتها إلى غير ذلك.
(المقام الثامن والعشرون) قوله: مع أن هؤلاء ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، ومعرفة الحلال والحرام بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد، والأخذ بقول أحد الأئمة الأربعة [1].
أقول: لقد حجرت واسعًا، وما أنصفت علماء أهل السنة إذ أبحت لنفسك ولعلماء فرقتك الاجتهاد وحظرته عليهم، ولا أدري لم فعلت ذلك ؟ أظننت أن جمهور علماء المسلمين من أول المائة الرابعة إلى اليوم ما وجد فيهم أحد يعرف حكم الله ويقوم بحجته ؟ إني لأربأ بك عن تصور هذا فضلاً عن تصديقه، وما المانع لهم من الاجتهاد بعد التبحر في علوم الشريعة والتضلع من موارد أدوات الاجتهاد ؟ وهل منعهم من الاجتهاد بعد ذلك إلا تحكم محض، وتلك إذا قسمة ضيزى ؟ ولو فرضنا أن علوم الاجتهاد انمحت ودرست معالمها عند جميع المسلمين ما عدا الشيعة؛ ما جاز على علماء أهل السنة أن يقتنعوا بالجهل في تلك القرون المديدة، وليس بعزيز عليهم أن يرحلوا إلى علماء الشيعة من جميع الأقطار، ويتلقوا عنهم من العلم ما يؤهلهم لمعرفة الحلال والحرام بالدليل وذلك أهون عليهم من درس فلسفة اليونان والتبحر فيها، واستنباط العلوم الرياضية الدقيقة كعلم الجبر والمقابلة ودقائق الهندسة وعلم النحو وغيرها.
وإن أمة مضى عليها ألف سنة إلا قليلاً، وليس فيها أحد يعرف حكم الله بدليله، ويقوم لله تعالى بحجته ويحمل ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ويبثه في الناس، ويدعو إلى الله على بصيرة لفي خسران مبين.
وإن كنت معترفًا بأن علماء أهل السنة يعلمون من علوم الاجتهاد ما يعلمه علماء الشيعة أو أكثر، فكيف تختلف النتيجة عن المقدمات الصحيحة، ويتجرد الملزوم بلا مانع عن لازمه ؟
وقوله: (ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد) فيه نفي لأهلية الاجتهاد عنهم وحجره عليهم حتى لو وجدت أهلية وما بعد هذا تحكم !
وقوله: (في استنباط الأحكام ومعرفة الحلال والحرام) أدهى وأمر لأنه لم يقتصر على نفي استنباط الأحكام عنهم، بل نفى عنهم معرفة الحلال والحرام، ويلزم منه أن قضاتهم ومفتيهم جميعًا في تلك الأعصار كانوا يسفكون الدماء، ويبيحون الفروج [2] ويتصرفون في الأموال غير عالمين بحلالها وحرامها، وأي قدح أعظم من هذا ؟
قوله: (بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد).
(أقول): متى تقرر هذا الإجماع ؟ وأين تقرر ؟ ومن هم المجمعون ؟ ومن هم الناقلون له ؟ فهذه أسئلة أربعة يجب الجواب عنها، والحق الذي لا شك فيه هو أن علماء أهل السنة مجمعون على تحريم التقليد، والقول على الله بلا علم، وأجمعوا أيضًا على أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد ليس بعالم ولا هو من أهل الإجماع، فلا يعتد بوفاقه ولا خلافه، بل هو بمنزلة الصبيان، حكى ذلك ابن عبد البر في كتاب العلم وأبو شامة وابن حزم وابن القيم والسيوطي والشوكاني والفلاني ونقلوه عن أئمتهم نقلاً يفيد العلم النظري، وهذه كتبهم شاهدة بذلك، وقد ألف في رد التقليد كثير من السلف والخلف قال الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) في ص42 ط الجزائر (الباب الثالث) في ذكر من حث على الاجتهاد وأمر به وذم التقليد ونهى عنه: اعلم أنه ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه، وينهون عن التقليد ويكرهونه ويذمونه، وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد، فممن صنف في ذلك المزني صاحب الإمام الشافعي ألف كتاب (فساد التقليد) نقل عنه ابن عبد البر في كتاب العلم والزركشي في البحر، ولم أقف عليه، وألف ابن حزم ثلاثة كتب في إبطال التقليد وقفت عليها، وألف أبو شامة في ذلك كتابه خطبة الكتاب (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) وقفت عليه، وألف ابن دقيق العيد كتاب (التسديد في ذم التقليد) لم أقف عليه، وألف ابن قيم الجوزية كتابًا في ذم التقليد وقفت على كراسين منه، وألف المجد الفيروزآبادي صاحب القاموس كتاب الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد ولم أقف عليه، وهذه نصوص العلماء في ذم التقليد. ا هـ.
ثم ذكر أقوال العلماء ومنهم الأئمة الأربعة في تحريم التقليد، فأين إجماع أهل السنة على جواز التقليد فضلاً عن وجوبه ؟ فمن الورع اللائق بالناس عامة وبالعلماء خاصة أن لا يسارعوا إلى الحكم في مسألة، ولا سيما إن كانت أجنبية عنهم إلا بعد تمحيصها.
(المقام التاسع والعشرون) قوله: (وقد فات المنار ومكاتبه أن يطعنا بمثلها على أهل السنة حيث شيدوا بناءات القبور وقبابًا منذ أكثر من تسعمائة سنة، ومن المعلوم بالوجدان أن القبور التي شيدها أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف ومصر والشام والعراق وغيرها من الأقطار أكثر بكثير مما شيده الشيعة.
(أقول): لم يفت صاحب المنار انتقاد ما صنعه من ينتسبون إلى السنة من بناء القباب وعبادة القبور، بل رد عليهم بما لم يرد بمعشار عشره على الشيعة، وهو معروف بعدم التعصب والمجاملة والتساهل ما لم يفض إلى تضييع الواجب، وهو مسالم للشيعة متودد إليهم حتى إن جماعتهم بالقاهرة يدعونه لحضور المأتم السنوي فيجيبهم إلى الحضور [3] فإذا قيل له في ذلك أجاب بأنه ارتكب أخف المفسدتين لأن ما ينشأ عن عدم إجابتهم من التقاطع والتدابر بين المسلمين أعظم فسادًا من حضوره بمكان تعمل فيه بدعة، وله أصدقاء كثير من علماء الشيعة، ولو عرفتموه حق المعرفة لرفعتموه عن وصمة التعصب للمذاهب والوقوف مع المشارب، ولا أدعي فيه العصمة فلا معصوم إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
من ذا الذي ما ساء قط… ومن له الحسن فقط؟
غير محمد الذي… عليه جبريل هبط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها… كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه………
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
الهوامش:
(1) سبب هذه الفرية على أهل السنة أن بعض المقلدين الذين ينعقد الإجماع باتفاق أمثالهم قالوا ولم يوافقهم سائر علماء عصرهم بوجوب تقليد الجمهور، ولا سيما الحكام لبعض المذاهب المدونة وعللوا ذلك بالمصلحة وهذا ليس بإجماع كما زعم الشيعي تعصبًا كما ترى في رد مناظره وإنما ذكرت هذا لأقول إن الشيعة يكثرون من التبجح على أهل السنة بزعمهم أنهم انفردوا بالقيام بفريضة الإجماع دونهم، وهو زعم مردود بالبداهة فإنهم أشد من أهل السنة تعصبًا لمذهبهم والاجتهاد والتمذهب ضدان لا يجتمعان.
(2) اللزوم في هذين الأمرين على إطلاقهما غير مسلم فإن تحريمهما من المعلوم من الدين بالضرورة لا بالاجتهاد.
(3) أي في بعض السنن لا دائمًا.