للعلامة المقري في هذا المعنى حكاية طريفة ننقلها لقراء مجلتنا لعلمنا بأنهم يحبون الاطلاع عليها. ولكن قبل أن نذكر هذه الحكاية لا بد لنا من التعريف بالمقري وإن كان في ذلك طول فلا يخلو من فائدة، فنقول: قال السوداني في النيل: هو محمد بن محمد بن أحمد القرشي التلمساني شهر بالمقري بفتح الميم و تشدید القاف المفتوحة، كذا ضبطه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه (العلوم الفاخرة) وكذا الونشريسي وزاد أنها قرية من قرى بلاد الزاب من إفريقية – يعني المغرب الأوسط المعروف الآن بالجزائر- سكنها سلفه ثم تحولوا إلى تلمسان و بها ولد ونشأ وقرأ. وضبطه ابن الأحمر في فهرسته والشيخ زروق بفتح الميم وسكون القاف، الإمام العلامة النظار المحقق أحد مجتهدي المذهب وأکابر فحوله قاضي الجماعة بفاس ترجم له ابن فرحون في الديباج وابن الخطيب في الإحاطة وابن خلدون في التاريخ وغيرهم وأثنوا عليه، توفي سنة 758.
ثم قال: ومنها أنه كان يحضر مجلس السلطان أبي عنان ليث العلم، وكان مزوار الشرفاء – أي نقيبهم والمزوار مأخوذة من أمزوارو باللغة البربرية ومعناها الأول أي المقدم – إذا دخل مجلس السلطان قام له السلطان وجميع من في مجلسه إجلالا له إلا الشيخ المقري فلا يقوم معهم، فأحس المزوار من ذلك، وشكاه للسلطان ، فقال له السلطان، هذا رجل وارد علينا نتركه على حاله حتى ينصرف فدخل المزوار يوما، فقام له السلطان وغيره على العادة فنظر المزوار إلى المقري، فقال له: أيها الفقيه، مالك لا تقوم كما يفعل نصره الله وأهل مجلسه إكراما لجدي وشرفي؟ ومن أنت حتى لا تقوم لي؟ فنظر إليه المقري فقال له: أما شرفی فمحقق بالعلم الذي أبثه ولا يرتاب فيه أحد. وأما شرفك فمظنون. ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة عام. ولو قطعنا بشرفك لأقمنا هذا من هنا، وأشار للسلطان أبي عنان وأجلسناك مجلسه، فسكت المزوار اهـ.
تعليق
أقول يالله للعجب! كيف وقع هذا العجر والبجر من ذلك العالم بحضرة السلطان أبي عنان ومن اشتملت عليه من العلماء ونقل ذلك جماعة من الفقهاء و سلموه ولم ينتبه أحد منهم إلى ما فيه من الخطأ والخطل؟ مع أن هذا لا يروج على صبيان أهل الحديث النجباء فضلا عن شيوخهم. وخطأ كل من نقیب آل البيت النبوي والشيخ المقري واضح لا إشکال فيه، ولنبدأ ببيان خطأ الشيخ أولا لأنه أعظم وأهم. فنقول: قوله “شرفك مظنون ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة عام؟” کلام فاسد شرعا وطبعا، أما شرعا فآل الحسن بن علي بن أبی طالب موجودون في المغرب بكثرة وتواتر ولله الحمد. فإن مجيء إدريس الأكبر إلى المغرب أمر متواتر لا شك فيه. أجمع عليه أهل عصره وهم من السلف الصالح. وأما تناسل أبناء إدريس الأصغر وتكاثرهم حتى صاروا قبيلة عظيمة نسبها متواتر في الجملة فهو من الضروريات عند من له أدنى إلمام بالأنساب بل عند العامة أيضا. وقد يدس نفسه فيهم بعض من يرغب في أن تكون الجنة عليه حراما (1) ولكن ذلك الدس لا يخفى بل يفتضح صاحبه و يخزى. فما معنى قولهم إن القرشي في ذلك الزمان وهو أواسط القرن مظنون؟ وليت شعري ماذا عنى المقري بقوله: “ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة عام؟” فكأنه يريد أن نسب آل البيت في أوائل القرن الأول للهجرة كان صحيحا ثم بطلت صحته. ففي أية سنة يا ترى بدأ الشك يطرأ على نسب آل البيت النبوي الكريم؟ وفي أي يوم وفي أي شهر انقضت صحة نسبهم وانتقلت من اليقين إلى الظن؟ على أنه لا يطلب اليقين في باب الأنساب إلا جاهل بالشرع؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الولد للفراش وللعاهر الحجرة” رواه البخاري من حديث عائشة مرفوعا ومعناه الولد ثابت نسبه للرجل الذي ولدته زوجته أو سريته على فراشه. والزاني لا حق له في الولد و إنما نصيبه الحجر يرجم به حقيقة إن كان محصنا وإلا فهو كناية عن العقاب والحرمان من أن يكون له في الولد حق. وقد أجمع العلماء على هذا المعنى، ووردت فيه أحاديث كثيرة. وبعض الجهلة يزيد هنا كلمة خبيثة تقشعر منها الجلود فيقول: “ليس على فروج النساء أقفال”. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا. ولو ذهبنا هذا المذهب المرذول المخالف للمعقول والمنقول، لم يثبت نسب أحد أصلا وامتد الشك إلى أنساب الأنبياء والصديقين والصالحين والعياذ بالله. ثم هو قول فاسد فإن على فروج النساء المؤمنات الطاهرات ما هو أمتن من الأقفال وهو الصون والعفاف. وقد قالت العرب في أمثالها: “تموت الحرة ولا تأكل بثديها” فكيف تأكل بفرجها. ولا شك أن هذه القولة صدرت من ديوث لا غيرة له ولا شرف ولا عرض فقاس من لا يعرف على من يعرف.
وهناك في المغرب من آل البيت النبوي كثير ولله الحمد وإنما اقتصرنا على آل إدريس لأن الزمان الذي جاء فيه إدريس إلى المغرب كان بنو هاشم وسائر أفخاذ قریش معروفين لا يشك فيهم أحد؛ فإنه دخل المغرب سنة 172هـ. وتناسل أبناء إدريس بلغ التواتر لكثرتهم فصاروا قبيلة من القبائل المتواتر نسبها من زمان الجاهلية بل نسبهم أجلى وأوضح.
وقوله: ولو قطعنا بشرفك لأقمنا هذا من هنا وأجلسناك مكانه وأشار إلى أبي عنان، زلة عظيمة فإن إجلاس أبی عنان على عرش المغرب لم يكن بالشورى والاختيار. ولم تدع إليه ضرورة عدم وجود الهاشمي وإنما كان بالتسلط و التغلب كما كان أمر الملوك من معاوية بن أبی سفیان وابنه يزيد إلى ذلك الزمان، بل كان الطامعون في الملك يتعقبون آل البيت النبوي قتلا وتشريدا في البلاد خوفا من اجتماع الناس عليهم. وذاك سبب فناء كثير منهم. ولو وجد القرشي المحقق على مذهبه هل كان يقدر حقيقة أن ينزل أبا عنان المريني من عرشه و يجلس عليه القرشي؟ كلا! إنها مغالطة ظاهرة حمله علیها حب الدفاع عن الهوى بالباطل وقد كان في زمان أبي عنان بل في حضرته من أهل البيت النبوي الأطهار المحققين الذين لا يرتاب في نسبهم أحد، لا أبو عنان ولا غيره وكانت شروط الخلافة غير القرشية فيهم متوفرة كالعلم والصلاح والمقدرة. ولو رام أحد منهم استنزال أبی عنان عن عرشه، لطارت به في الجو عنقاء مغرب.
والعجب من المقري كيف خفيت عليه الحجة في الدفاع عن نفسه في عدم القيام للنقيب، وهي حجة قاطعة، لا يحتاج فيها إلى أن يورط نفسه بالطعن في الأنساب الذي هو من أمور الجاهلية. ألا وهي الأحاديث التي تدل على أن القيام لا يجوز شرعا؛ فهناك أحاديث صحيحة صريحة في النهي عن القيام. فروى أحمد وأبو داود والترمذي واللفظ لأبي داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من أحب أن يتمثل الرجال له قياما فليتبوأ مقعده من النار”. وأخرج أبو داود بسنده إلى أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا. والأحاديث في هذا الباب صريحة صحيحة. ولو أجاب بها المقري، فقال لذلك المزوار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تريد مني أن أقوم تعظيما لك بانتسابك إليه، نھی عن القيام له؛ مع أنه أفضل الخلق، وتعظيمه شرط في صحة الإيمان، فكيف تريد مني أن أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخالف سنته لأعظمك بذلك، وهذا الجواب خير له وأوسع من سلوك ذاك المسلك الوعر والدخول في تلك المزال والمزالق، التي هي في الحقيقة مهالك.
تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين: الجزء 4 – السنة 1 – ذي القعدة 1365 | أكتوبر 1946
—————————–
(1) الحديث من انتسب إلى غير أبيه فالجنة عليه حرام. وهو في الصحيح.