ذلك ما ينادي به راديو بلاد الشام الكبرى كل مساء، على الساعة السابعة والربع بتوقيت جرمانية
أمس (يوم السبت 29 ذي الحجة 1357 – 18 فبراير الأعجمي) لعلع صوت إذاعة الشام، بشق الفضاء وينسف حصون التشويهات الإفسادية، التي يبنيها الفرنسيون في طريقه، فافتتح بعد الإعلان المتكرر حديثه ببسم الله الرحمن الرحيم. وهذا أول راديو فتح حديثه بذكر الله فلا جرم أن ترجی له بركة ذكر الله، ويكون كاملا مباركا غير أجذم ولا أبتر ولا أقطع ففي الحديث “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع” وفي لفظ “فهو أبتر” وفي رواية “فهو أجذم”. ولا ريب أن الجهاد أمر ذو بال بل هو أعظم الأمور، ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. فما بالك بأمر لا تقوم الأرض إلا به ولولاه لفسدت، وهو سنام الإسلام وروح القومية وأس الحرية والعزة، ما ترکه قوم ولجأوا إلى أكاذيب الأعداء يحتلبونها إلا ضربهم الله بالذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، وحاق بهم خزي الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون..
بدأ راديو بلاد الشام الكبرى بالنداء بسقوط الانتداب والاستعمار وباستقلال الشام كله ما بين العراق ومصر. ثم نادى الزعماء بأسمائهم: هاشم الأتاسي، جميل مردم، سعد الله الجابري، عبد الرحمن شاهبندر. ثم أنذرهم بقوله: أيها الزعماء اعلموا أنكم لا تنتسبون إلى أي حزب من الأحزاب وإنما تنتسبون إلى الوطن. فإن خالفتم هذا الأمر فففي ذلك الخطر. أو كما قال. ثم أنذر الخونة بسوء العاقبة ووخيم الوبال. تم أخذ يصدر الأوامر والنواهي لرجال الجهاد في جميع أنحاء بلاد الشام – كحلب وحمص وحماة واللاذقية ودير الزور – بإشارات ورموز تارة، وبالتصريح تارة أخرى..
وقد أجمع الفرنسيون أمرهم وبذلوا جهدهم وأكثروا الأزيز والصفير والخشخشة، لعلهم يقدرون أن يسكتوا هذا الصوت الحق، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، وسُمِعت إذاعة بلاد الشام الكبرى کما تسمع أكبر إذاعات أوربة، كإذاعة لندن دفنتري وروسية وبرل وبراغ وبرلين وبیوغراد. وأما إذاعة باريس على الموجة القصيرة التي سميت أولا راديو كولونيال – أي الراديو الاستعماري – ثم غير اسمها إلى باريس منديال – أي باريس العالمية – فلم تبلغ قط في أي يوم من الأيام في القوة والوضوح والصفاء مثل ما بلغت إذاعة بلاد الشام الكبرى، المؤسسة على تقوى من الله ورضوان، المؤسسة للانتصار للضعيف المأكول خبزه المضروب ظهره المهجوم عليه المهان في عقر داره؛ ليكدس الذهب في فرنسة أكداسا ویكنز کنوزا؛ ليشتري به من أمریكا وغيرها آلاف الطائرات والأسلحة المدمرة، ليملأ الأرض ظلما وفسادا ویزید في شقاء الإنسانية المنكودة. فلا غرابة والحال هذه أن يبارك الله في هذه الإذاعة المسلمة العربية ويعلي صوتها على كل صوت ويمحو نداؤها كل عرقلة وكل تشويش يضعه المفسدون في طریق صوت الحق والصدق والعدل والانسانية.
إن هذه الدعوة المباركة المؤسسة على الحكمة والحق لا تريد سوءا ولا ضررا لأمة من الأمم، حتى ولا للفرنسيين أنفسهم. وكل ما تقوله وتدعو إليه هو دفع الأذى والظلم والهوان وأخذ الحق والحرية الكاملة. فلولا أن الفرنسيين قوم يبغضون الحرية ما تعرضوا لهذه الإذاعة لأنها لم تتعرض لهم أصلا. وإنما تعنی بتطهير بلادها من الدسائس في تؤدة ورزانة، وتريد قمع من سولت له نفسه العبث بحياة البلاد المعنوية وبكرامتها وشرفها من الداخل والخارج، ولكن الفرنسيین قد أعلنوا للملأ من أهل أوربة أن بلاد الشام مزرعة لهم، وأنها قلعة على البحر الأبيض تؤمن- بزعمهم – طريقهم إلى الشرق الأقصى للإعتداء على أهل الصين الأدنى – الهند الصينية – وأنهم لذلك يريدون بقاء هذه المزرعة في أيديهم، وأن لهم من المكر والقوة ما يخمدون به أنفاس من يحاول المشاغبة من أهل الشام، وأن ذلك أمر حقير وهين على قوة فرنسة وقدرتها، لا يستحق اهتماما كبيرا، فكتيبة من غربان السينغال وسرية من كلاب الصبايحية الجزائريين، حاشا أحرار الجزائر، کافية لخنق الشاميين وقسرهم على الإذعان والخنوع لإرادة فرنسة ومشيئتها. هكذا أعلن الفرنسيون حين قطعوا تلك المفاوضات مع الوفد الشامي وأيأسوه من كل خير طلبه، مع أن تلك المفاوضات من أولها إلى آخرها كانت ضلا بتضلال، وكانت مبنية على شفا جرف هار، فانهار.
يقول راديو الشام: أن الزعيم الشامي الأكبر إبراهيم هنانو قال: إن الاستقلال يؤخذ ولا يعطی، صدق إبراهيم هنانو، ولكن إن كان قول هذا الزعيم العظيم -حقا- وهو حق – فإن المفاوضات بين أهل الشام وفرنسة، والمعاهدة المستجداة بإرسال الوفد تلو الوفد إلى باريس متكففا سائلا، وبقاءه هناك في كل مرة لسبعة أشهر، كأنه ينقب على آثار الفراعنة، كل ذلك كان ضلالا بعيدا، وتضييعا للوقت، وتفويتا للفرصة، وإمهالا للعدو وتمكينا له.
هذا هو رأي الهلالي الذي آمن به وأعلنه منذ سنين ولم يقدر أن يفهم غيره. وكم أهاب مناديا لأهل الشام ناصحا لهم، فلم يبادروا الى الانتصاح بنصحه، حتى كشفت لهم الأيام صدق كل ما قاله. والآن أيضا لم يفت الوقت، فجاهدوا في الله حق الجهاد، واستعينوا بالله واصبروا “وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”.
لقد وقع صوتكم أيها الإخوان من نفسي موقعا لا أقدر أن أصفه هنا، فادعه لتصوركم وتقديركم الصادق. لقد أضرم صوتكم في قلبي نار الشوق إلى مشاركتكم في ميدان الشرف، في الجهاد، إن اضطركم أعداء الإنسانية إلى ذلك. ومع كثرة العوائق لا أيأس من تذليلها والتغلب عليها، إلا عقبة واحدة وهي اشتداد ضعف بصري الذي طرأ علي في هاتين السنتين الأخيرتين، فذلك يجعل کوني معكم ببدنی قلیل الجدوى. وإني لآسف لذلك وأتلهف أشد التلهف، ولكن إذا فاتني الجهاد بنفسی لسوء حظي، فلم يفتني الجهاد بقلمي ولساني ونيتي. فأنا مستعد لأبث دعوتكم، فأرسلوا إلى ما تريدون نشره في هذه البلاد وليكن باللغة الانكليزية فهي أكثر رواجا هنا، وإلا فبالفرنسية. والله أسال لكم النصر العزيز.
بن (جرمانية) تقي الدين الهلالي
Boun Universität (Germany)
مجلة الفتح: العدد 645 (العام 13) – 25 محرم 1358هـ – ص: 8-9