هو: أليس من الحيف والهضم أن كل دولة تتمتع بمستعمراتها إلا الدولة الجرمانية فقد نهبت يد العدوان منها مستعمرتها الوحيدة ومع زهادتها وحقارتها غصبت منها وإلى الآن لا تريد اليد العادية أن ترد ما غصبت. يجب علينا أن لا ننام حتى نسترجع مستعمرتنا وأخذ حقنا. إنه لهضم وظلم عظبم…
هي: إن كان أخذ المستعمرات من جرمانيا ظلما فالاستعمار كله ظلم وظلمات، وما مثل ذلك إلا كمثل لصين هجما على بيت فنهباه وسلبا أهله ما يملكون حتى ثيابهم التي يوارون بها سوآتهم ويتقون بها هجمات الجو وكَلَبَ البرد وتركاهم في حالة ينفطر لها الجماد، ثم بعد انصرافهما اختلفا في القسم فغلب أحدهما الآخر فسلبه حقه وحرمه، فكلاهما مذموم، وكلاهما مليم، وكلاهما لص، وكلاهما ظالم، وليس في الشر خيار: ولعل هذا اللص القوي قد أحسن إلى ذلك اللص المستضعف المغلوب – وإن لم يقصد – وفي المثل “من العصمة ألا تقدر” ويقال “من العصمة أن لا تجد” وخير لكل ظالم أن يمتنع من الظلم فإن لم يمتنع حتى منع وعجز فالعجز عن الظلم خير من القدرة عليه. ونحن معشر الأمريكيين لا نحب الاستعمار، وقد قرر علماؤنا وزعماؤنا من زمان وجوب حرية الإنسان وعتقه من الاستعباد، وهي عقيدة ودين ندين به، ولذلك لا يمكنني أن أشاركك في هذا التلهف والتحسر.
ثم تذمرت السيدة وتنمرت وضربت المنضدة بيدها وكاد الشرر يتطاير من عينيها وقالت: وعلام يهجم الأوربيون على الضعفاء المساكين ويستعبدون ويسترقون، وماذا عليهم لو تركوا كل أمة تعيش حرة، وماذا يضير العالم إذا بطل الاستعمار العدواني واشتغل كل بأرضه التي خلقه الله فيها وملك إياها يستغلها ويستثمرها حلالا طيبا ويكف شره وأذاه. وأنت تعلم أنني أبغض الحرب أشد البغض لأن معظم شقاء العالم منها، وما أوجد الحرب إلا الطمع والشر، والتشوف إلى أموال الناس وحب العلو والفساد والعدوان على الضعفاء
هو: هذه فلسفة فارغة. إبطال الاستعمار غير ممكن ما دام الله قد خلق بني آدم مختلفين في الألوان والقوى والمدارك، فالرجل الأبيض أقوى وأعلم وأقدر على كل شيء من الرجل الملون. فترك الاستعمار إنما هو ضعف ووهن وتعطيل العمل وإبقاء لكنوز الأرض مخزونة لا ينتفع بها، وإبقاء للأمم الهمجية على جهلها وفوضاها، وحرمان لها من المدنية والعدالة والتقدم.
هي: أنا لا أدري هل الرجل الأبيض أفضل وأقوى وأقدر أم لا، لأني ما طفت العالم ولا اطلعت على أجناس الناس، ولكن سلمنا أنه أقوى وأقدر، وقد خلقه الله في أرض وخلق له معاشا فيها، كما خلق غيره في أرض أخرى وجعل له قوته فيها، فليس من العدل أن يعتدي على غيره ويأخذ من رزقه ليضمه إلى ما عنده ويضيق على أخيه الإنسان، وأما ما يزعمه من إرادة الخير والإصلاح فهو تمويه وكذب وحيل إجرامية. أَفَتَرى أن فرنسا وبريطانيا وغيرهما لم يخوضوا البحر ويجوبوا القفار وينقبوا في البلاد إلا ليعلموا الأقوام الجاهلين ويرفهوا عيشهم ويظهروا ما تحتوي عليه أرضهم من الكنوز لمصلحة أهل البلاد ولم يمدنوا بلدا إلا لأجل المدنية والإنسانية؟
هو: إن التمدين والتعليم فيه خير للمستعمِر والمستعمَر كليهما وترك ذلك فيه نقص وضرر عليهما جميعا، فضرره على أهالي البلاد غير المتمدنة معلوم وضرره على المستعمرين هو تعطيل قواهم وعلمهم وتركهم الفرص والأوقات تضيع سدى.
هي: هذه هي الفلسفة الفارغة التي لا معنى لها، إنما هي قول يقال وشباك تنصب ولم يعمل بها مستعمر قط، ولو كان المستعمر صادقا في زعمه ما أجلب على الضعفاء بخيله ورَجله وبدأهم بالإرهاب والمحاربة والتدمير وتخريب البيوت، بل كان يذهب ويعرض خدمته ويشرح لأولئك القوم الخير الذي يجنونه من وراء العمل المشترك ويقيم لهم البرهان العملي فلا يلبثون أن يحبوه ويتفقوا معه، وحينئذ لا تسفك دماء بريئة ولا تنتهك حرمات ولا تغصب حريات ولا أموال ولا ترتفع أصوات المظلومين بالشكوى تحت سوط العذاب المهين فتجاب هذه الأصوات وهذا الأنين بمضاعفة العذاب وتآمر الدول المتمدنة وتآزرها على كتم أنفاس الضعفاء وخنقهم.
هو: هذا رأى حسن وأنا أوافقك عليه، ولكنه ما دام مستحيلا لا يعمل به أحد وكل الدول لها مستعمرات، فيجب أن يكون لنا مستعمرات أيضا ولا يمكن أن يتمتع الناس بمستعمراتهم ويكون حظنا خلقيا مصنوي وحظ غيرنا ماديا.
هذا ما حضرنی من معنى كلامها، وفيما ذكرت زید ونقص، ولكني لم أخرج من الموضوع الذي وقع فيه الحوار.
والآن أنفث نفثة مصدور فأقول:
تعليق
The White Man is More Able هذه الجملة هي الحجة التي يلجأ إليها كل أوربي، ومعناها “الرجل الأبيض أكثر قابلية”. وهذه الترجمة اللفظية، والمعنى أن الرجل الأبيض أفضل من غيره فوجب أن يكون سيدا لغيره.
وتعليقنا على هذه الجملة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول على المبتدأ وهو قوله “الرجل الأبيض”.
وقبل أن أشرع في التعليق على هذا أقول: “إن من في الشرق يظنون أن كل من يسكن في أوربا فهو في نعيم ورفاهية ونعمة ومتاع وقد صدقوا لأن أكثر من يأتون إلى أوربا بهائم في أشكال بني آدم ليس لهم قلوب يحسون بها ولا همم عالية ولا عقول راجحة، وإنما هو كما قال تعالى في وصف الذين كفروا “ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم”. ولو أردت أن أشير إلى سير الطلبة في أوربا وكيف يمضون أوقاتهم لاحتجت إلى أن أكتب كتابا مستقلا. ولعلي أشير إلى ذلك في فرصة أخرى(). أما من له لب من المقيمين في أوربا فإنه لا يزال في حسرة ينقطع قلبه أسى في كل حين، ومن جملة ما ينكد عيشه فكرة “الرجل الأبيض”. ما معنى الرجل الأبيض؟ ربما يظن القارىء أن معناه على ظاهره، وأن المراد به اللون المعروف بالبياض فيدخل فيه كل أبيض، وهيهات!
إن معنى “الرجل الأبيض” في لغة الأوربيين هو “الأوربي” وحده فقط، فقول الرجل الأبيض مرادف لقولهم الأوربي سواء. ولا يستطيع أحد أن يزحزحهم عن هذه العقيدة وأن يبين لهم هذا التناقض أبدا. فمعلوم عندهم وعند كل إنسان أن أوربا بلاد واسعة وأن أجواءها مختلفة ومثلها ألوان أهلها. فمن الإسباني والفرنسي والإيطالي الذين يسكنون في الجنوب وهم بيض إلى السمرة وشعورهم سود حوالك، إلى الرجل الشمالى الأشقر ذي الشعر الأصفر أو الأحمر واللون الأصهب، وبين هذين مراتب في هذه البلاد (جرمانيا) أكثر الناس شقر الألوان وشعورهم صفر وحمر والابيض ذو الشعر الأسود نادر، وذلك إذا رأوا شخصا كذلك قالوا أهو يهودي أو أجنبي؟ فاذا أجاب الشخص أو أجيب عنه بأنه جرماني صميم قيل فما بال شعره أسود؟ واللون الطبيعي هنا هو الحمرة والشقرة. والبياض مرغوب عنه. فمعني الرجل الأبيض هنا الأشقر. حتى إذا رأوا اسبانيا أبيض أو أمر أيضا لم يضره ذلك ولم يشنه في أعينهم، بل يسهبون في وصفه بالجمال ويقولون جميل حسن، ويعللون لونه بحرارة بلاده. أما إذا رأوا رجلا غير أوربي أبيض أسود الشعر عزوا ذلك إلى أنه غير أوربي لا إلى تأثير جو بلاده كما يفعلون عند رؤية الأوروبي الجنوبي. ولو رأوا رجلا غير أوربي أشقر لتعجبوا وعدوا ذلك شذوذا أو دما غريبا. ولو قيل هم أن عشرات الملايين من الأتراك الشرقيين والغربيين أشد بياضا وإن شئت شقرة في الجملة من أهل الجنوب من الأوربین، وأن أهل خراسان وأكثر أهل بلاد إیران وشمال العراق وأكثر أهل الشام وجميع برابرة المغرب الأقصى إلا أهل الصحراء ومعظم سكان المغرب والجزائر وتونس إما مثل أهل جنوب أوربا أو أشد منهم بياضا في الجملة، قابلوا هذا القول بالدهشة والاستغراب حتى علماؤهم وأساتذتهم وأغرب من ذلك أنهم إذا سمعوا بأن الثلج ينزل في شمال إفريقية وأن من جبالها ما هو مكسو بالثلج أعني قممها صيفا وشتاء لا يقدرون أن يتصوروا ذلك. وإذا ذهبت أجناس الطير في آخر الخريف إلى الجنوب يقولون ذهبت إلى إفريقية حيث لا يوجد برد أصلا. وعند جلهم بل كلهم أن إفريقية كلها نار حامية من الحر وأهلها كلهم سود أو كاللبن الممزوج بالقهوة ولا حاجة بهم إلى الثياب الصوفية للتدفئة.
حكاية
دعاني أحد أساتذة الجامعة إلى مكتبه فوجدت عنده امرأة جرمانية فعرفني بها وقال لها: هذا مستر فلان، وهو من أهل مراکش، فخبريه بما رأيت. فقالت: رأيت في جامعة (بوأمينه) رقوقا مكتوبا عليها بالعربية تاريخ القوط. فقلت لها: لا توجد في فاس جامعة بهذا الاسم ثم فكرت فقلت: آلمدرسة العنانية تقصدين؟ لعلك سمعت “البوعنانية” نسبة إلى أبي عنان المريني (رحمه الله). فقالت آه نعم نعم، البوعنانية البوعنانية. فقال الأستاذ: إنها قد قالت أن تلك الرقوق محفوظة في المدرسة، ولم تقع عليها عين رجل أبيض قبلها هي. فقلت له: رجل أبيض؟ ما هذا؟ كل أهل فاس ۔إلا الطارئ- بيض مثل الأوربيين تماما. فأحس بأني قد انزعجت من قوله فقال: ما علينا. أعني لم يرها أوروبي قبلها. وأنا أعلم أن الأستاذ لم يقتنع بأن أهل فاس بيض وإنما جارانى. ولو أردت أن أورد الشواهد على هذه القضية لطال الكلام. وكان أحد الأتراك يتكلم مع سيدة في محفل، فما راعه إلا أنها عدت الأتراك من الأمم المنحطة وعاملتهم بما تعامل به جميع الشرقيين، فغضب التركي واحتد وصاح عليها وترك المجلس. ولولا وجود أمة اليابان وهي أمة عريقة في الشرق وليس أهلها بيضا ولا شقرا لما أمكن لشرقي أن يحاج أوربيا ولا أن يعارضه في ادعائه أن دماغ الأوربي “الرجل الأبيض” خلق من نور وأن أدمغة سائر الأمم خلقت من ظلمة.
والعجب
والعجب ممن يرد هذه البلاد في كل سنة ويمضي وقته في اللهو وقد يقيم هنا مدة طويلة ويتحقق أن أمته محتقرة مزدراة وقد يكون من أهل الحل والعقد والمناصب العليا في الدويلات الشرقية ولا يتحرك منه ساكن ولا يغار ولا يبالي ولا يتكدر عيشه بل يجازي الأوربيين على احتقارهم لأمته بالعبادة والإجلال والتبجيل والتقليد ويضلل أمته بأن التشبه بالأوربيين في الزي والرقص والشرب وما أشبه ذلك يجعل لهم مقاما في أعين الأوربيين ويجعلهم عظماء، وهل الأوربيون يغفلون إلى حد أنهم إذا رأوا جسدا كالصنم مكسوا بذلة أوربية محسن الرقص والشرب يعظمونه.
مجرد ذلك، وهذا نصب وتدجيل ما بعده من تضليل. ألا فليعلم من لا يعلم أن الأوربيين عندهم ميزان يزنون به الأمم، ولذلك الميزان صنوج ومثاقيل: فأولها جند جرار شاكي السلاح مجهز بكل قوة أرضية وبحرية وجوية لتدمير الأمم وجعلها دكا، ويشترط في ذلك أن يكون سلاحه ومواده كلها من عمل بلاده. والثاني من المثقلات المال والاقتصاد. والثالث الصناعة والزراعة وسائر أنواع الاستقلال. والرابع العلوم والفنون. فمن حاز هذه فهو إنسان کامل شريف مكرم بأي لون كان، وحينئذ فقط يغتفر ذنب لونه ويعد أمرا تافها، وسواء لبس بدلة أوربية أو عباءة صوف. ولو لم يكن كذا فلأمه الهبل.
الخبر
“أكثر قابلية” لم أحاورهما في المبتدأ وهو “الرجل الأبيض” إلا بكلمة واحدة وهي: “في أول هذا القرن (أعني الميلادي) حين هزم اليابان الروس ظهر للعالم أن الرجل الأصفر أيضا قابل. ثم قلت لذلك الرجل صدقت أن الرجل الأوربي قابل أن يهلك الرجل الأبيض أخاه في اللون المقدس ويستعمل في إهلاكه الوسائل الجهنمية قدر وسعه ويتفنن في إبادته كما فعل المتحالفون هنا في الحرب العالمية. نعم إن الرجل الأبيض قابل لأن يحقد ويغتاظ متى رأى أخاه الأبيض في يده قطعة خبز فما فوقه، ويسعى بكل جهده ليسلبه إياها. إن الرجل الأبيض قابل أن يملأ الأرض نارا ونحاسا أي دخانا. إن الرجل الأبيض قابل أن يملأ الأرض عذابا وشقاء، وأنا أعلم أنه فاق في هذه الأوصاف جميع أجناس بنی آدم، وأما فيما سوى ذلك فلا فرق أعلمه بينه وبين الأصفر والأحمر والأسود، وعقيدة أفضلية الأوربي من أقبح الجهالات الصبيانية أو المغالطات العدوانية. وأذكرك بأن الموحدين وكانوا سمرا استولوا على اسبانيا ومدَّنُوها ونشروا العلوم والحضارة فيها ولم يسبقهم في ذلك سابق ولا لحقهم فيه لاحق بشهادة علماء أوربا، وجمع البابوات كيدهم وجنودهم من جميع أوربا ليزحزحوا الموحدين من أسبانيا فكان نصيب الجنود البيض الخذلان والهزيمة ولو أن الموحدين ادعوا في ذلك الوقت أن الذكاء والنبل والتفوق مختص باللون الأسمر لكان ادعاؤهم مثل ادعائك الآن أو أقرب إلى الصواب منه. ولكن الغائب لا حق له، وما مضى فقد فات، كأنه لم يكن، ومن لم يكن عنده ناب ولا مخلب لم تنفعه أنياب، أبيه أو جده
إذا لم تكن ذئبا على الأرض أطلسا
كثير الأذى، بالت عليك الثعالب
(ألمانيا) 18 صفر 1356
تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح: العدد 549 – العام 11 – 2 ربيع الأول 1356هـ – ص: 10 إلى 13