كان بودي أن يكون في متناول يدي وأنا أكتب هذا المقال، شيء من المراجع، ليكون الوصف دقیقا مشتملا على عدد النفوس في كل ناحية وعلى تواريخ الحوادث. ولكن ما كل ما يتمنى الكاتب يدرکه. فسأعتمد على ما علمته ووعيته من الأخبار في السنين التي کنت مقيما فيها في الهند وما وصلني من الأخبار بعد ذلك.
عدد المسلمين في الهند زهاء ثمانين مليونا. وعدد الوثنيين نحو مائتين وسبعين مليونا، ولما غزا الأوربيون بلاد الهند من بريطانيين وفرنسيين، برتغاليين كان الحكم في كثير من النواحي بيد سلاطين المسلمين. وكان الهنادك خاضعين لهم، واستمر الأوربيون المذكورون يقتتلون على البلاد الهندية حتى غلب عليها البريطانيون وصفت لهم. ولم يبق للفرنسيين والبرتغاليين إلا شيء قليل جدا لا يذكر. ولما صار الحكم لبريطانيا تلقاه الوثنيون بالقبول، ليتخلصوا من مواطنيهم وأعدائهم في الدين وهم المسلمون. ورأوا أن الخضوع للأجانب أهون عليهم من البقاء تحت حكم إخوانهم في الجنس. وزادهم رغبة في ذلك أن الفاتحين الذين فتحوا الهند كان أغلبهم من الترك المغول وغيرهم من الأعاجم الذين لم يتعذبوا ولم يتأدبوا آداب الإسلام. فكانوا غلاظا شدادا قساة. ولذلك لم ينتشر الإسلام في الهند مثل انتشاره في البلاد التي فتحها العرب الرحماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهذبون المتخلقون بأخلاقه. وغاية ما وصل إليه العرب في فتحهم بلاد السند. وهي أقرب البلاد إلى بلاد العرب وكان ذلك في زمن بني أمية. قال لي كثير من علماء الهند المسلمين ما معناه: من سوء حظنا معاشر أهل الهند أن فاتحي بلادنا لم يكونوا عربا، ولو كانوا من العرب لعم الإسلام كما وقع في بلاد فارس وخراسان ومصر والشام والعراق والمغرب.
قلنا إن الوثنيين أقبلوا على مخالطة الفاتحين وتعلموا لغتهم وعلومهم ليتحولوا ويعتزوا بذلك بعد الذلة. أما المسلمون فإنهم أنفوا من ذلك واستكبروا وحرموا مخالطة البريطانيين وتعلم لغتهم. وبقوا منعزلين خاملين حينا من الدهر، حتى سبقهم الهنادك في كل شيء وكثرت أموالهم وصارت الوظائف بأيديهم كما فعل اليهود والمسلمون مع الفرنسيين في المغرب الأعظم كله.
ولما أفاق المسلمون من غفلتهم وجدوا أنفسهم قد خسروا وتاخروا كثيرا عن مواطنيهم الهنادك ورأوا أن الهنادك أعلم وأغنى منهم. والوظائف العليا كلها بأيديهم أضف إلى ذلك أنهم هم الأكثر من عددا. فندموا وأخذوا يشاركونهم ويزاحمونهم في العلوم والأعمال. ولكنهم حتى الآن لم يدركوا شأوهم. يضاف إلى ذلك أن الوثنيين في الجملة أحسن من المسلمين أخلاقا فإنك تجد في المسلمين من التبذير والإسراف والكسل والبطالة وكثرة الديون ما لا تجد له نظيرا عند الهنادك. وقد أخبرني المسلمون أن الوثنيين أغنى منهم في كل بلد وأن التجارة والزراعة والصناعة كلها أو جلها بأيدي الهنادك! وأن أكثر المسلمين مدينون للهنادك قد رهنوا لهم ما يملكون من العقار من مباني وأراضي. ولما كان الهنادك أعلى ثقافة من المسلمين سبقوهم إلى النهضة السياسية أيضا، كما سبقوهم إلى النهضة الثقافية والصناعية والتجارية. وقد رحب البريطانيون بنهضة الهنادك ونشطوهم عليها ليكسروا بذلك رؤوس المسلمين المستكبرين الذين يعدون أنفسهم سادة أبناء سادة. فلما سارت النهضة السياسية الهندكية شوطا أوليا انتبه المسلمون وأخذوا يزاحمونهم كما قلنا، فتقبلهم البريطانيون أيضا ليعدوهم في أيديهم سلاحا يضربون به الوثنيين، إذا استفحل أمرهم واحتاجوا إلى القمع على قاعدة (فرق تسد). غير أن المسلمين كانوا على قلتهم وفقرهم وجهلهم أشتاتا متفرقين فيما بينهم لا جامعة لهم، ولا إمام يقودهم. فكانت جماعة منهم كأبي الكلام آزاد والدكتور الأنصاري وغيرهم من الرؤساء مع غاندي وحزب المؤتمر وجماعة منهم مع جمعية العلماء. وجماعة مع محمد علي وشوکت علي. وجماعة من مشايخ الطريقة والعلماء مع البريطانيين جهارا. وطوائف قد اعتزلت الجميع وبقيت على الحياد. وكل طائفة من هذه الطوائف الإسلامية تشنع على غيرها وتوجه له المثالب والمطاعن. وكانت وجهة نظر المسلمين التابعين للمؤتمر أن داء الهند هو البريطانيون. فيجب أن يحاربوا ولا يلتفت إلى الخلاف الداخلي وكانوا يجيبون عما يوجه إليهم من الانتقاد بأن الهنادك أحقر من أن يطمعوا في استعباد المسلمين أو غمط حقوقهم.
وإن طمعوا في ذلك فقلة المسلمين لا تمنعهم من قهر خصومهم وأخذ الحق منهم، كما فعل أسلافهم مع أسلاف الهنادك. ولكن خصومهم لا يسلمون لهم ذلك، فإنهم يقولون ذلك زمان وهذا زمان إنما تقوم الحكومات فيه على أساس الانتخاب وإذا اندمج المسلمون في الوثنيين مع شدة تعصبهم كان أغلب الأصوات وأكثر الآراء في التشريع بيد الهنادك والقوة المنفذة بأيديهم وفي ذلك القضاء التام على الإسلام.
وكان المسلمون المجانبون للمؤتمر ينبهون خصومهم من المسلمين الغانديين إلى المذابح التي تقع في شوارع المدن الكبرى التي يستوطنها الزعماء کكلكته وبمباي ومدراس ولكنا وراغره ودهلي وغيرها، بله مع ما يقع في القرى حتى أنه قلما يمر شهر من شهور السنة بدون معركة تدوم من أسبوع إلى أسبوعين ويقتل فيها النساء والأطفال والعجزة من المسلمين. وزعماء المؤتمر ينظرون. ولو شاءوا وقتها لوقفوها. وأولوا الأمر البريطانيون يتوانون في إخماد الفتن عمدا ويغتبطون بتسعر نيرانها. إنها ضامنة لهم رسوخ أقدامهم في البلاد. فكيف يكون الأمر لو صار الحكم بید غاندي وإخوانه الهنادك وبقي المسلمون قليلا مستضعفین.
وأنا بعدما أقمت في الهند سنين وشاهدت أحوال الفريقين ورأیت المذابح بعيني تقوم على أتفه الأشياء، كأن يتهم الهنادك مسلما أنه ذبح بقرة مثلا، قد أجبرتني التجارب أن أؤید المسلمين المجانبين للمؤتمر الخائفين منه ما دام غاندي مصرا على الحكومة المركزية، وممتنعا كل الامتناع من الموافقة على استقلال الولايات التي يكثر فيها المسلمون في شئونهم.
اتحاد مسلمي الهند
هذا وقد كان الهنادك أيضا متفرقين إلى أحزاب، ولكن تلك الأحزاب كلها كانت ولم تزل متفقة في الغاية والحقيقة واختلافها كان صوريا في البرامج فقط. وليس بينها عداوة ولا شنآن کما بين المسلمين. وكانت هذه التفرقة أضر على المسلمين من قلتهم في العدد والمال والعلم. فقد أذهبت ريحهم وجعلتهم لا قيمة لهم في نظر الهنادك والبريطانيين معا. ولم يزل كثير من رؤساء المسلمين في الهند يبذلون الجهود لجمع شمل المسلمين وتوحيد آرائهم وجمعهم على رئیس واحد وبرنامج واحد، لينتظم أمرهم وتتوحد كلمتهم، فيضطر الخصمان الهندكي والبريطاني كلاهما إلى سماعها واحترامها، فلم يفلحوا في ذلك إلى السنوات الأخيرة فيسر الله لهذا الأمر الوجيه السيد محمد جِنَاح، بكسر الجيم، فبذل هذا الرجل المصلح جهودا عظيمة في جميع أنحاء الهند ولدى جميع طوائف المسلمين وبسط لهم الفكرة التي يجب أن يجتمعوا عليها والتي تنظم لهم سلاح دينهم ودنياهم وحالهم وما لهم. وتلخيصها أن المسلمين لا يقبلون حلا للمشكلة الهندية إلا بشرط استقلال جميع الولايات التي أغلب سكانها مسلمون. وهي: بنغال وبنجاب والسند وکشمیر وسرحد وبلوجستان. فإن عدد المسلمين في بنغال وهي المجاورة لبورمة، التي هي اليوم تحت حماية اليابان نحو 58 في المائة. وعددهم في بنجاب نحو 52 في المائة. وعددهم في السند نحو 52 في المائة. وعددهم في كشمير نحو 88 في المائة. وعددهم في سرحد وهي الولاية الشمالية الغربية المجاورة لأفغانستان وفيها ولاية وزیرستان التي لم تنزل الثورات الدموية قائمة فيها على قدم وساق نحو 90 في المائة. أما البلدان الباقية فالمسلمون والمشركون فيها مخيرون. فمن شاء منهم أن يبقى في بلده تحت الحكم الأجنبي بقي. ومن شاء أن يهاجر يقع التبادل بين المهاجرين من الفريقين في الدور والعقار.
ومن ذلك العهد اجتمعت كلمة العصبة الإسلامية وتولى رئاستها السيد محمد جناح واعترف به البريطانيون.
والرئيس محمد جناح وأهل مشورته من قادة العصبة الإسلامية في الهند مستقلون عن حزب المؤتمر وعن غاندي لا يهمهم ماذا فعل غاندي وإنما يهمهم أمر المسلمين والمحافظة على أنفسهم وأموالهم ودينهم. وهم في ذلك مخلصون لله ولمن ينوبون عنهم من الأتباع، وما يظهر منهم أحيانا من مخالفة غاندي وحزبه وأحيانا من الميل إلى عدم قطع العلاقة مع بريطانية ليس ذلك منهم ضعف في الوطنية، ولا دناءة في الهمة والخيانة كما يتوهمه من لا يعرف بواطن الأمور ولا يزنها بالقسطاس المستقيم. وسبب ذلك هو تعصب غاندي وحزبه وسوء نياتهم للمسلمين. ولو ظهر للعصبة الإسلامية موافقة غاندي على مطالبهم التي لا تمكنهم الحياة بدونها لما تاخروا لحظة عن مؤازرته.
صحيفة الحرية: السنة 6 العدد 828، 14 شعبان 1361هـ / 27 غشت 1942م – ص: 1