بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
الكلام في هذه المسألة ينقسم إلى أقسام، الأول حكم تعلم اللغات في الإسلام. اللغة وسيلة يتوصل بها إلى غرض من الأغراض، وحكم الوسائل في الشرع حكم الغايات، جريا على قاعدة ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، وعلى ذلك يجب على القاضي أن يكون عالما باللغة التي دونت بها الشريعة التي يحكم بها ومثله في ذلك المفتي. ويجب على الإمام أن يكون عالما باللغة التي دونت بها أحكام الصلاة. ويجب على الفقيه في دين الإسلام أن يكون عالما بلغة القرآن والحديث والفقه وأصوله وهي اللغة العربية، ومن ذلك تعلم فساد ما جرى عليه كثير من الأمم الإسلامية من الاستغناء بترجمة القرآن والحديث والفقه حاسبين أن الترجمة تغنيهم في معرفة الأحكام – وبطلان ذلك واضح.
اولا: لأن الله كلف الناس في كل زمان ومكان أن يتبعوا القرآن والرسول، والذي اقتصر على قراءة ترجمة القرآن لاحتمال أن يكون المترجم قد أخطأ إذ قصر في ترجمته، والقاضي والمفتي مكلفان بالقضاء والإفتاء بما يعلمانه بأنفسهما من الكتاب والسنة لا بما يعلمه المترجم أيضا. لو اقتصر الناس على الترجمة لتعطل الاستنباط والتدبر وهما واجبان لقوله “ولو ردوه إلى الرسول وإلی أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم” ولقوله تعالی “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” ولقوله تعالى “اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء” فالاتباع والاستنباط والتدبر واجبات لا تتم إلا بمعرفة القرآن فوجب تعلم القدر الكافي لمعرفة ذلك. وهذا كله في المتبوعين من الحكام والمفتين دون العامة. وأيضا لو اقتصرت كل أمة على ترجمة الكتاب والسنة بلغتها لأدى ذلك إلى التفرق في الدين ومخالفة السلف الصالح والله يقول “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”.
ويجب كذلك على كل فرد أو جماعة يرون أن حقا من حقوق المسلمين سيضيع إذا لم يعرفوا لغة يدافعون عنه ويحاجون بها يجب عليهم تعلم تلك اللغة، فإذا تركوا تعلمها كانوا آثمين زيادة على خسرانهم ذاك الحق، والدليل على ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده وذكره البخاري تعليقا عن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم السريانية وقال إنها تأتيني كتب من يهود ولا آمن يهود على كتابي، قال فتعلمتها في نصف شهر. فأنت ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر زيدا بتعلم لغة اليهود في ذلك الزمان وهي السريانية فصار تعلمها واجبا عليه، وتعلمها فعلا لأن الرسول كانت تأتيه رسائل من اليهود ويحتاج إلى معرفة ما فيها والجواب عنها. ولا يثق بيهودي ويجعله كاتبا. فهذه مصلحة عظيمة لا تتم إلا بتعلم هذه اللغة الأجنبية، وكذلك كل لغة أجنبية تتوقف عليها مصلحة من مصالح المسلمين فإذا تعلمها المسلم بهذه النية كان له أجر عظيم قد يفوق أجر العبادة وإلى ذلك أشار بعض العلماء بقوله:
تعلم اللغات شرعا فضلى
على التخلي لعبادة العلي
يؤخذ ذا من قوله وعَلَّمَا
آدم الأسماء الزم التعلما
وبيان ذلك أن الله فضل آدم على الملائكة لعلمه بأسماء الأشياء وهي اللغة مع أن الملائكة مشغولون دائما بعبادة الله “يسبحون الليل والنهار لا يفترون” فإن قلت كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد ابن ثابت بتعلم السريانية ليقرأ له كتب اليهود ويجيب عنها مع أن اليهود لغتهم العبرانية لا السريانية فالجواب أن هذا الإشكال لازمني سنين ولم أجد له حلا عند من لقيتهم من علماء الإسلام.
فلما كنت في ألمانيا وشرعت في تعلم اللغات السامية وصلت إلى حل هذا الإشكال وذلك أن اليهود بعدما أجلاهم بختنصر من فلسطين وجاء ببعضهم إلى بابل تشتت سائرهم في كل صقع وتحت كل نجم فماتت لغتهم العبرانية ولم يبق فيها إلا شي يسير يرددونه في الصلوات. ومنذ ذلك العهد إلى زمان الرسول صلى الله عليه وسلم صارت اللغة التي يتكلمون ويكتبون بها في الغالب هي السريانية. وعلماء اليهود لا يعترفون بهذه الحقيقة كلها بل يدعون أنه لم يزل فيهم طائفة يعرفون العبرانية لكن يسلمون أن جمهورهم كانوا جاهلين باللغة العبرانية، وإذا نظرنا في التاريخ نجد أن المسلمين قد قصروا في تعلم اللغات الأجنبية على أنه كان في زمان العباسيين من يعرف اللغات الأجنبية ويعتني بها، وكذلك كان علماء الأندلس يهتمون باللغات الأجنبية. ومن أقطاب العامة الذين درسوا اللغات الأجنبية أبو الريحان البيروني وأبو محمد بن حزم وابن رشد. فهؤلاء كلهم من كبار علماء الإسلام ومن أساطين الأدب، وقد انحطت أفكار عامة المسلمين حتى صار بعضهم يرى أن تعلم اللغات الأجنبية التي لا يدين أهلها بالإسلام حرام يفضي بالمتعلم إلى الكفر. وما علموا أن اللغات إنما هي آلات لا تتصف بكفر أو إسلام وهي صالحة للاستعمال في الخير والشر والإيمان والكفر، فاللغة العربية مثلا كان العرب يستعملونها في نسبة الشريك إلى الله ونسبة البنات إليه تعالى ثم استعملها الإسلام في تنزيه الله وتوحيده فلو كانت مسلمة ما أمكن استعمالها في الكفر. ولو كانت كافرة ما أمكن استعمالها في عبادة الله وتوحيده. فاللغات كلها سواء عند الله لا تمدح ولا تذم لذاتها من حيث الدين. وقد قرر أبو محمد بن حزم في كتاب إحكام الأحكام في أصول الأحكام في بحث اللغة أن اللغات كلها سواء في نظر الشرع لا فضل لواحدة على أخرى، وأقام الدليل على ذلك فانظره إن شئت.
تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين