يجب على كل مسلم أن يعرف الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. فتوحيد الربوبية أن توحد الله بأفعاله بأن تعتقد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر السماوات والأرض وما فيهما إلا هو وهذا التوحید وحده لا يدخل في الإسلام لأن جميع المشركين الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلهم كانوا يعتقدونه ولم يخرجهم من الشرك. والدليل على ذلك قوله تعالى:”ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله. ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء. فأحيى به الأرض من بعد موتها ليقولن الله. وقال تعالى: “قل من يرزقكم السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله. فقل أفلا تتقون؟” فالخصومة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم تكن في توحيد الربوبية كما رأيت وإنما كانت في توحيد العبادة، وتوحيد العبادة هو أن توحده بافعالك أنت أي أن تخصه بجميع أنواع العبادة الصادرة منك سواء أكانت باللسان أم بالقلب أم بالجوارح.
والعبادة جميع القرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى ومخها ولبابها هو الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا “الدعاء مخ العبادة” وفي رواية له “الدعاء هو العبادة” ومصادقه في كتاب الله قوله: “ومن أضل من يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين” فسمى الدعاء عبادة.
فإذا قلت يا الله أرزقني أو اشفني أو اكشف عني الضر فذلك عبادة وإذا قلت يا سيدي فلان أنقذني وأغثني وطلبت من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق كشفاء المريض وإنقاذ الفریق وتفريج الكربات بالهمة والحال فقد صرفت لباب عبادتك لغير الله وصرت من المشركین. ومن أنواع العبادة السجود قال الله تعالى: “لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون”. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها رواه أحمد ومسلم في صحيحه.
ومن أنواع العبادة النذر وهو الذي يسميه المغاربة الوعدة. قال تعالى: “يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا” أي يوفون بما نذروا لله تعالى من صلاة وصيام وصدقة وغيرها. وقال الله تعالي: “وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه”. فإذا قال الإنسان لله لي إن شفي مريضي أن أذبح شاة لله وأطعم الفقراء فذلك عبادة صحيحة يجب الوفاء بها وإن قال يا سيدي فلان أن تشفي مريضي أو قدم غائبي أو وضعت الحامل بسلام فإني أذبح لك شاة فذلك شرك لا يجوز الوفاء به. ومن أنواع العبادة الصدقة قال تعالى: “إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم”. فمن تصدق لله تعالى ضاعف الله له الأجر والثواب وكانت عبادة لله ومن تصدق لوجه الشيخ فلان فقد أشرك بالله وعبد غيره.
ومن أنواع العبادة الذبح قال تعالى: “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له”. والنسك هو الذبيحة وقال تعالى: “فصل لربك وانحر”. أي وانحر لربك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لعن الله من ذبح لغير الله”.، رواه مسلم. فمن ذبح ذبيحة لله كالأضحية والهدي فقد عبد الله تعالى، ومن ذبح لمخلوق من إنس أو جن فقد أشرك بالله وعبد مع الله غيره.
ومن أنواع العبادة الخوف بالغيب قال تعالى: “فلا تخشوا الناس واخشون”. وقال تعالى: “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين”.، وقال تعالى: “الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفي بالله حسيبا”. فمن خاف من ملك أو إنس أو جن قد أشرك بالله وعبد غيره. هذا كله في الخوف من المخلوق إذا غضب عليك أن يضرك بالهمة والحال التی هي بمنزلة كن فيكون كما لو مررت بضريح يعبد بالذبائح والقرابين فلم تقدم له ذبيحة ولا قربانا ولم تطلب منه شيئا واستغنيت بالله فخفت أن يصيبك ذلك الضريح أو صاحبه بأذى فهذا هو الخوف الذي هو عبادة لا يجوز أن يكون إلا من الله. وأما أو خفت من لص أو أسد أو عدو وغير ذلك من أنواع الخوف الطبعي الذي جبل الله علیه الإنسان فليس ذلك بعبادة. قال تعالى: “فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى”.
ومنه الاستعانة في ما لا يقدر عليه إلا الله. قال الله تعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين”.
ومنها الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله. قال تعالى: “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم”. فأخبر تعالى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليهم الأمر في غزوة بدر كانوا يستغيثون بالله. والنبي صلى الله عليه وسلم معهم يستغيث بربه ولم يستغيثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر معهم لأن الاستغاثة عبادة والعبادة لا تكون إلا لله.
ومن أنواع العبادة التوكل وهو الاعتماد بالقلب في قضاء الحاجات وتفريج الكربات على الله تعالى. قال الله تعالى: “وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين”، فمن توكل على الله كفاه الله ما أهمه وكان عابدا لله ومن توكل على صالح من المخلوقين في قضاء ما لا يقدر عليه إلا الله قد أشرك مع الله وعبد غيره. ومن أنواع العبادة العياذ وهو الذي إذا أراده المغربي يقول: أنا في حماك. أنا في عارك. قال الله تعالى: “قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق”. وقال تعالى: “وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا”.، ومعنى هذه الآية أن الانس كانوا إذا أمسوا وهم مسافرون في أرض يخافون من الجن فيقولون نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. معناه نحن في حماك يا رئيس سكان هذه الأرض من الجن احفظنا من أشرار قومك. “فزادوهم رهقا” أي بسبب هذه الاستعاذة زاد الجن الإنس ضلالا وخوفا. وعبادة الجن موجودة في المغرب ويسمونها الضيافة فيذبحون لهم ويعملون الطعام بلا ملح ويرشون من مرقه في زوايا البيت ويوصي بعضهم بعضا أن لا يقولوا باسم الله عند الأكل وذلك كفر صراح.
وأنواع العبادة كثيرة لا يمكن احصاؤها في هاته المقالة، ومن عرف هاته الأنواع التي ذكرنا كانت له وسيلة إلى معرفة ما سواها إن شاء الله. فمعنى لا إله الا الله إذن شهادة الإنسان على نفسه أنه لا يصرف شيئا من عبادته لغير الله تعالى ولا بد من معرفة معناها والعمل بمقتضاها. فشروطها ثلاثة: قولها باللسان مع القدرة، ومعرفة معناها بالقلب، والعمل بمقتضاها: اي على موافقتها: بأن يتجنب الإنسان صرف شيء من عبادته لغير الله تعالى. فمن أخل بواحد من هذه الشروط، فإنها لا تنفعه ولا تنجيه من الخلود في النار. كما أن المسلم إذا القى مصحفا بنجاسة يكفر وإن كان يقول لا إله الا الله محمد رسول الله ويصلي ويصوم. وكذا إذا سب نبيا من الانبياء لا ينفعه قول لا إله إلا الله.
مجلة لسان الدين: الجزء 1 السنة 1 – شعبان 1365 / يوليو 1946