كنت حوالى 1339 بقرية أربا من ناحية العين الصفراء، من عمالة وهران من البلاد الجزائرية. وكان لي صديق من أهل تلك القرية تزوج بفتاة فحملت، فلما مر على حملها شهران رأت في المنام امرأة سوداء قبيحة المنظر تدنو منها فرعبت ودخلها خوف شديد، وأخذت تصيح وتستغيث، فما زالت المرأة تقرب منها حتى وضعت يدها على بطنها. ثم انصرفت فاستيقظت الفتاة فزعة وأحست بآلام وأوجاع لا تطاق. فما زالت كذلك حتى أسقطت، ثم مضى عليها زمان فشفيت، ثم حملت مرة أخرى. فلما ثم لحملها شهران جاءتها المرأة السوداء بعينها في المنام، ووقع لها معها مثل ما وقع في المرة الأولى، فأسقطت أيضا. فعند ذلك جاءني ذلك الصديق مترددا وهو يعلم أني لا أكتب التعاويذ والتمائم. ولم يكن له كبير أمل في أن أقوم بعلاج زوجته؛ بل كان يتوقع أن ألومه وأوبخه على طلب الشفاء من طريق تعليق التمائم. وكان لا يقدم على أمر من أمور الدين إلا بعد مشاورتي، فقص علي القصة. وسألني عما ينبغي عمله. فقلت له. هذا من نتائج الخوف من الجن، وكان يجب عليك أن تربي زوجتك وهي صغيرة قابلة للتربية على عدم الخوف من الجن. ومع ذلك فسأفكر في القضية.
وفكرت قليلا ثم قلت له: اذهب إلى زوجتك، وأخبرها أني أنا أحكم على الجن كلهم بعفاريتهم ومردتهم، ولا يخرج عن حكمي أحد منهم لا ملك ولا أمير ولا كبير ولا صغير. واحك لها من الحكايات التي تزعم لها أنها وقعت لي معهم ما تطمئن به وتجزم بما ذكرت لها، فإذا اعتقدت ذاك وجزمت به بحيث لا يخالجها شك فائتني، فغاب عني أياما ثم رجع وقال لي: إني قد فعلت ما أمرتني به. وهي الآن معتقدة تمام الاعتقاد في حكمك على الجن. فكتبت ورقة ودفعتها له، وقلت له: مُرها فلتعلق هذا التعويذ، وتعتقد أن أحدا من الجن لن يجسر على ضررها ما دام هذا الحجاب معلقا عليها. فأخذ العوذة ومضى. وبعد مدة جاءني وهو يضحك فقلت: ما الخبر؟ فقال: إن علاجك كان حزا في المفصل وكان نفعه فوق ما كنا نظن فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: أعطيت زوجتي العودة وبالمغربية – الحجاب، فعلقته عليها ثم حملت للمرة الثالثة. فلما كان بعد شهرين من حملها جاءتها المراة السوداء في المنام أيضا، ولكنها لم تخف منها، إذ نظرت إلى التعويذ فرأته معلقا عليها، فوقفت للمرأة. وقالت لها: ماذا تريدين؟ إنك لن تستطيعي الآن أن تصنعي شیئا. هذا تعويذ كتبه الفقيه الذي يحكم عليكم. فلما سمعت المراة السوداء هذا الكلام توقفت وقالت: سأنتظر حتى يسقط منك التعويذ وأجيئك. فأجابتها الفتاة لن أضيعه أبدا. وإن ضاع مني فالفقيه موجود يكتب غيره.
وهكذا شفيت هذه الفتاة من داء وبيل كان سيقضي على ذريتها، وربما قضى على حياتها، لولا أن الله ألهمني ذلك العلاج النفسي العظيم، الذي يقف عنده الطبيب النطاسي حائرا عاجزا لا يدري ما يفعل. فثبت بهذا أن علاج الأمراض البدنية بله الأمراض النفسية قد يرجع علاجه إلى علاج النفس، ولا يفيد فيه العلاج البدني شيئا، ولكن في هذا العلاج مزلة أقدام، فربما فقد المعالج بالكسر او المعالج بالفتح إيمانه، وفسد اعتقاده فكان من الخاسرين. لذلك لا ينبغي أن يتولاه إلا عالم محقق عرف دقائق الشرك وخفاياه، ولا بد لي أن أصرح أني في ذلك الزمان كنت في أوائل الشباب قليل العلم بمسائل التوحيد. فلذلك لم أنبه ذلك الصديق على ما في ذلك العلاج من الخطر على العقيدة فإن تلك المرأة إذا استمرت على اعتقاد أن ذلك التعويذ أو کاتبه أو هما معا ينجيانها من الخطر، تكون قد أشركت بالله واختل إيمانها إن كان عندها إيمان. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق شيئا وكل إليه) رواه أحمد والترمذي من حديث عبد الله ابن حكيم مرفوعا. ومعناه من علق على نفسه شيئا واعتقد أن ذلك الشيء يحفظه فإن الله يخذله و يترکه لذلك الشيء ولا يلطف به فيهلك، وقال عليه السلام (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) وهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من يعلق على نفسه شيئا مثل عين الهدهد أو خرزة مما يخرج من البحر، فهذا حرام قطعا، وإن صحبه الاعتقاد بأنه يدفع العين أو غيرها من الضرر کان شرکا، وأما تعليق آيات من القرآن وأسماء الله والأدعية التي ليس فيها شرك، وهي باللغة العربية ليعرف معناها فالمحققون على كراهية تعليقها؛ ولكن إذا كان المعلق يعتقد أن الحفظ من الله ببركة تلك الآية أو ذلك الاسم لم يكن ذاك شرکا. والصواب عدم تعليق شيء أصلا لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بكتابة تعويذ للحسن والحسين عليهما السلام. مع أنه كان يرقيهما بالمعوذتين وغيرهما. وقد رقى عليه السلام ورقى أصحابه بالقراءة والدعاء. ولم يكن عندهم تعليق التعاويذ. إلا ما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو. فقد روى أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع كلمات (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من ولده، ومن لم يعقل كتبه فعلقه عليه، فهذا الحديث وحده هو الذي وقفت عليه في تعليق الصحابة شيئا من القرءان للأطفال الصغار الذين لا يعقلون، أي لا يقدرون على التعلم. وترك ذلك أفضل إذ لم يرد فيما بلغنا عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عبدالله بن عمرو ومن فعله وجب عليه أن يقصره على الطفل الصغار كما تقدم. وقد روی أحمد بن حنبل رحمه الله عن عبد الله بن عباس أنه كان یكتب أن عمر عليها الطلق في إناء بماء وزعفران فيمحى وتشرب منه، وقال بذلك أصحابه: أي أهل مذهبه. قلت: وترك ذلك أيضا أفضل لأنه لم يرد عن النبي ولا عن أحد من الصحابة غيره. فاتباع جمهورهم أولى.
فالعلاج بالأدوية المعنوية والإرشاد النفسي إذا كان المعالج تقيا لله متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفا بها، سالما من الخرافات، له بركة عظيمة، وقد تكلم على هذا النوع من العلاج ابن القيم في كتاب زاد المعاد ولعلنا نعود إلى الكلام فيه بحول الله.
لسان الدين: الجزء 5 – السنة 1، ذي الحجة 1365 – نوفمبر 1946، ص: 1