بقلم الكاتب الكبير الأستاذ تقي الدين الهلالي
يقوم قسيس کانتربيري وهي أكبر بيعة ـ كنيسة في لندن عاصمة بريطانية (الصغرى) أمام جموع المصلين والمصليات، فيرن صوت الأرغن ويدوي في جميع الأرض بواسطة الإذاعة البريطانية – دافنتري، فتقتفيه أصوات الرجال والنساء جميعا مترنمين بمزامیر أصواتهم المحزونة. استغفر الله بل المفزعة في قالب حزن کاذب، المرققة ترقيقا خاصا. ثم يسكنون لفترة الدعاء، فيسن القسيس لأنه على حجر قلبه القاسي الصلد، ويشرع داعيا هكذا:
“أيها الآب السماوي الكريم الودود الرحيم! ما أعظم إحسانك وأجمل فضلك وإنعامك واشد حبك لأولادك! أرسلت إلينا ابنك الوحيد، مع شدة محبتك له؟ إذ رأيتنا قد غمرنا ظلمة المعاصي، وغمنا خزن الذنوب، وشلنا شقاء الخطايا، لتطهرنا من ذنوبنا وتؤهلنا لمشاهدة قدسك والسبح في أنوار ملكوتك. وأسلمت ابنك قربانا يهان ويصلب أمام عينك، لتفك بذلك عنا أغلال الشقاوة الأزلية، وتحررنا من قيود السخط والعذاب. فنحن نحبك ونقدسك ونسبح بحمدك ونحب إخواننا النصارى المخلصين المطهرين ونحب جميع البشر أينما وكيفما كانوا، ولا سيما اليهود، فإننا نرق لهم أكثر من غيرهم ونتفانى في إعانتهم وحمايتهم ونصرتهم ولو كانوا ظالمين، لا لأجل ذهبهم كلا. وحاشا أيها الأب المقدس! ولكن لأنهم شعبك المختار الذي أنزلت بلسانه كلامك المقدس الذي اخترته من بين البرايا مقرا ومتقدما لروحك القدسية، ومنبعا للحياة بتولد ابنك الوحيد منه. تم هو شعب الأنبياء ومحط الوحي، ومنزل الملائكة، ومحل نظرك وموضع عنايتك كما يدل عليه كلامك في العهد القديم.
أيها الأب السماوي نحن لم نغفل ولم ننس أن هذا الشعب نفسه كثيرا ما أغضبك وآسفك حتى أنزلت عليه من العذاب والمسخ والصواعق والإجلاء وتسليط الأعداء وتقتيلهم وسبيهم ما لم تصب به أحدا من العالمين. ولم تنسى أن هذا الشعب هو الذي اقترف أكبر ذنب وارتكب أعظم إثم بإهانته ابنك الذي هو جزء لا يتجزأ من أقنومك الأعظم وذاتك الموحدة الجامعة للمثلث الأعظم. نحن لا نجهل أن هذا الشعب الحنون غدر وفجعك وفجعنا بقتل ابنك يسوع المسيح بعد تعذيبه أشد التعذيب والقسوة عليه وحرمانه حتی من شربة ماء يبل بها غلته قبل لفظ نفسه الأخير، نحن لم ننس ولم نغفل عن عناد هذا الشعب المنحوس لك وولوعه برعي شجر الخلاف معك إن قلت له: قم قعد، أو اقعد قام، أو سر وقف، أو قف سار، أو أقبل أدبر، أو أدبر أقبل. ولكن أيها الأب السماوي مضى ذلك الزمان تبدلت الدنيا ونحن اليوم مضطرون لأجل ما نتخيله من مصلحة بريطانية أن نغض الطرف نغض عن كل ذلك ونرضى عمن غضبت عليه، ونرحم من حرمت عليه رحمتك، ونؤيد من خذلته وننصر من أردت خزيه، ونرفع من أردت خفضه، ونکرم من أردت إهانته، ونعظم من حقرته، ونوالي من عاديته، ونحب من أبغضته، وتقبل على من أعرضت عنه، لأن المصالح اقتضت ذلك، ولأننا تعلمنا الرحمة والصفح منك ومن ابنك الذي قال لنا، أحبوا أعداءكم، لأننا نعلم وإن بلغنا في الرقي النفسي إلى عالم الملكوت، ووصلنا حضرة القدس والطهارة، فإننا لا نزال بريطانیين، ولا نرضى أن تنهزم بريطانية، بل نحن رجالها ننصرها ظالمة ومظلومة.
ولذلك أيها الآب السماوي، نسألك أن تحفظ دولة بريطانية ودومنيوهاتها ومستعمراتها ومحمياتها ومعاهداتها ومنتدياتها ومتعلقاتها وتجاراتها وأساطيلها الجوية والبحرية وجنودها لأنهم وإن سفكوا الدماء وانتهكوا الحرمات، وهدموا بيوت الضعفاء، بعدما أخذوا منهم درهما يستعينون به على معاشهم، وشاة يحلبونها، واتانا يسدون به حلتهم. وإن ملئوا الأرض لعنة وفساد، وإن حملوا على كل لص ظالم وغادر على وجه الأرض. وملئوا الدنيا شقاء وبكاء ودموعا وحزنا وآلاما، فهم أيها العزيز الأب السماوي ابناؤنا واخواننا بريطانیون منا والينا، وكفى: اللهم أيها الأب السماوی القدوس أعل بريطانية وانصرها وأيدها واحفظ ملكها وسائر آله وارفع شأنها وأَدِم عزها.
أيها الأب السماوي إننا نريد أن نهلك عرب فلسطين لأنهم وقفوا حجرا في طريق إيواء أصدقائنا اليهود وشاغبونا وحالوا بيننا وبين تنفيذ فكرتنا وقرة أعيننا بإرضاء اليهود، وقد قدمنا لك عذرنا فانصرنا على القوم المستضعفين. آمین ۔
هذا في لندن، أما الصلاة في بيعة بيت المقدس فهي:
يقف القسيس أمام جموع من الرجال والنساء خاضعين منكسري القلوب مفجعين محزونين، ما مامنهم إلا من أصيب إما في الأنفس بفقد أب أو ابن أو أخ أو قريب، أو بهدم داره وتخريب مسكنه وتركه هائما بلا مأوى، أو بنهب أثاثه وتغريمه الدرهم الأخير أو بجلده أو بحبسه أو هتك حرمته إلى غير ذلك.
القسيس عربي أبيض بياضا عربيا يضرب إلى سمرة خفيفة، وقد اشتعل رأسه ولحيته شيبا، متدثرا بجبة، له عينان تتوقدان كأنهما مصباحان كهربائيان، فيفتح الصلاة ويرفع الجميع أصواتهم مترنمين بتمجيد الله وتسبيحه وحمده وعلی کل حال على السراء والضراء تم يسكتون فيفتح القسيس الصلاة ويقول:
أيها الإله الإبدي، ذا الأقانيم الثلاثة الواحد الأزلي، إننا نحمدك على كل حال ونسألك واللطف في جميع الأحوال إلاهنا.
بن جرمانية
تقي الدين الهلالي
الشباب – في العدد القادم ننشر بقية هذا الفصل النفيس
صحيفة الشباب: العدد 138-98-433 السنة 3 – الأربعاء 1 صفر 1358 هـ 27 مارس 1939