بعد هجوم إيطاليا على ألبانیا ظن الفرنسيون في شمال إفريقية أن هذه فرصة سنحت لهم لمهاجمة إيطاليا من طريق الدعاية فجمعوا على حساب الإسلام، جماعات من أذنابهم وموظفيهم وأمروهم أن يقوموا بمظاهرات عدائية ضد إيطالية وحاولوا أن يخدعوا الجهال، فخطب أذنابهم وأظهروا سخطهم على إيطالية لأنها اعتدت على إخوانهم المسلمين في ألبانية، ونادى أحد سماسرتهم نحن متطوعون! نحن من الآن متطوعون! أعطونا السلاح! وأمروا أيضا أذنابهم أن يبعثوا تلغرافات يؤكدون ولاءهم لفرنسة وأنهم يفدونها بأنفسهم وأموالهم ويموتون لأجل حياتها، ثم حملوا شركاءهم في الإثم من البريطانيين والبلجيين وغيرهم أن يذيعوا أن مسلمي شمالي إفريقية هاجوا هيجانا عظيما وقاموا بمظاهرات أبدوا فيها سخطهم على إيطالية وأكدوا ولاءهم لفرنسة. ولم يقتصروا على هذه الوقاحة بل مسحوا كل حياء وعملوا مظاهرات ضد إيطالية وأظهروا تعلقهم بفرنسة فلعنة الله على الكاذبين:
أهل شمال إفريقية بهائم إلى حد أنهم ينسون كل ما وقع في بلادهم ولايزال واقعا من سفك الدماء، وتخريب الديار وهتك الحرمات والإهانات المتكررة كل يوم وساعة، وزعمائهم الذين هم إلى الآن في العذاب المهين، ودماء إخوانهم التي لم تجف، ومع ذلك نسوا ذلك كله وذكروا عدوان إيطالية على ألبانية، مع أن جمهور أهل شمال إفريقية لا يعرفون وجود ألبانية أصلا ولا هل أهلها مسلمون أم نصارى، أم أن مسلمي شمال إفريقية بلغ بهم الإيثار والتصوف العيسوي، لا المحمدي، إلى أن ينسوا جميع ما وقع ويقع عليهم من الهضم والظلم والعدوان من خشاش أوربة المتفرنسين والفرنسيين وأهدروا حقهم، ولكنهم لم يسمحوا بضياع حقوق إخوانهم في الدين؟ إن كان ذلك كذلك فكان الأولى أن يقوموا بمظاهرات بل وبانتقام وجهاد ضد الفرنسيين لأنهم يعذبون إخوانهم في الشام ويهضمون حقوقهم، وقد غدروا بهم ونقضوا عهدهم، وأرادوا أن يشغلوهم عن الجهاد وطلب حقهم فأصدر “بیو” المفوض الفرنسي في الشام قانونا يريد به هدم الإسلام، بل البقية الباقية من الإسلام. وقد باع الفرنسيون إخوانهم في لواء اسكندرونة بثمن بخس لمن يهين دينهم وعروبتهم. والفرنسيون يساعدون الصهيونيين ويدعون لهم دعاية عظيمة. وقد حاولوا هدم الاسلام والعربية في المغرب الأقصى بالظهير البربري الإجرامي. واليوم نفوا القائد المجاهد عارف عبد الرازق بعدما سلم نفسه لهم. وهذا لا يعمله إلا الفرنسيون.
إذا كان أهل شمال إفريقية لهم غيرة وحياة وإیمان فلا شك أنهم يبدأون أولا بعدوتهم وعدوة الإسلام والإنسانية، ففي الحديث ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، فأي حمار فكيف بإنسان يعادي إيطالية لأجل عدوانها على الإسلام وفي الوقت نفسه يوالى فرنسة؟ ومن سخافة الفرنسيين أنهم يريدون بهذه الترهات خداع عقول الناس وإنما يفضحون أنفسهم وما يشعرون.
والحق أن كل مسلم ومسلمة و كل شريف حر في شمال إفريقية يبذل نفسه في محاربة الدول الغاشمة الغادرة الوحشية الهمجية ولا يدخر في ذلك وسعا. فإن وجد في شمال إفريقية من يظهر موالاة فرنسة من المنافقين فهؤلاء يوالون كل غالب ولو دخلت إيطالية البلاد الشمالية لبادروا إلى ولائها ولتملقموا لها مثل ما يتملقون اليوم إلى فرنسة ولأظهروا سخطهم على فرنسة وقدموا أنفسهم متطوعين لحربها. وهؤلاء ليس لهم دین ولا شرف ولا ضمائر ولا ذمم. فهم مثل الحيوان الوحشي كل من غلب عليهم يسخرهم.
وما شرحته فرنسة من ظلم إيطالية للمسلمين في طرابلس فأشهد بالله أنه كله واقع من الفرنسيين واليهود والمتفرنسين على رءوس أهل الشمال الإفريقي ويشهد معي بذلك كل مغربي إلا الخائنين.
والحق أن الفرنسيين والإيطاليين سواسية في الظلم والهضم، إلا أن الفرنسيين يدعون الديمقراطية ويعاملون من قدروا عليه بما هو شر من الفاشستية ألف مرة، أعني الفاشستية التي يعامل بها الإيطاليون في إيطالية. وأما فاشستية إيطالية في طرابلس فهي مثل فاشستية فرنسة في الجزائر والمغرب وتونس وهي لون آخر من العدوان. يجب أن يوجد له اسم خاص فإنه ليس بديمقراطية ولا فاشستية. والمسلم لا يرضى بالاستعمار أبدا بل يحاربه جهده. لأن الإسلام والاستعمار لا يجتمعان أبدا. ومن زعم أنه يوجد الإسلام مع الاستعمار فقد كذب القرآن وسنة الرسول والخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصالحين. كيف يوجد الإسلام بلا جهاد ولا سيما وهو فرض عين على كل قادر حتى النساء لأن العدو دخل بلاد الإسلام، وجحود هذا الفرض کفر بالإجماع؟ کیف يوجد الإسلام و كلمة الذين كفروا هي العليا وقد أمر الله أن تكون هي السفلى؟ کيف يوجد الإسلام وشريعة الإسلام معطلة منبوذة؟ كيف يوجد الإسلام تحت العبودية والإسلام يعلو ولا يُعلی عليه؟
إن الفرنسيين والإيطاليين جميعا بلا استثناء يسخرون من الإسلام وأهله بزعمهم أنهم أصدقاء الإسلام وهم يفترسونه افتراسا ويمزقون لحمه ويهشمون عظامه. أما الذين يمالئونهم على ذلك فهم أكفر منهم.
لا يفهمن أحد مما ذكر أعلاه أننا لم نحزن ولم نهتم بنكبة إخواننا الألبانيين فقد حزنا لها علم الله، مثل حزننا على بلادنا نفسها. وانما أردنا بهذا المقال أن نفهم الفرنسيين أن عقولهم قد أخطأت إن ظنوا أن تمويهاتهم تجوز على عقول المؤمنين بحقهم الصادقين في طلبه.
حتي راديو موسکو أسلم أو كاد. فقد سمعت اليوم رادیو موسكو يذکر مظاهرات المسلمين في بلدان شمال إفريقية ويصفها بالتفصيل نقلا عن إذاعات للفرنسيين. وقد أطال رادیو موسكو في مدح الإسلام لأنه لا يفرق بين الأجناس والألوان! وذكر أن مسلمي شمال إفريقية يسخطون على مذهب موسوليني لأنه يفضل الجنس الإيطالي ويريد استعباد غير الإيطاليين! أقول صدق راديو موسكو أن المسلمين يسخطون على إيطالية لأنها تفضل جنسها على المسلمين حتى في بلادهم التي خلقها الله لهم وخلقهم لها وقد اغتصبها الإيطاليون ولم يكفهم ذلك حتى عتوا واستكبروا على أهلها واحتقروهم.
وفي الوقت عينه يبغضون الفرنسيین أشد البغض للسبب نفسه ولغيره من أنواع العدوان والغدر والرذائل التي تجمعت فيهم.
ويبغضون دولة موسكو لأنها وإن لم تفرق في الظاهر بين الأجناس فإنها فرقت بينهم في العقائد. فمن يعتقد الإلحاد والإباحة وعبادة لينين وسطالين توالیه وتحبه وإن ظلم أهل الأرض كلهم وسفك دماءهم، ومن خالف الكفر والإلحاد والتعطيل من المسلمين والنصاری فإنها تضيمه وتهينه وتعذبه أشد العذاب، كما يعذب الفرنسيون من تحت أيديهم من المسلمين والنصارى لأنهم ليسوا فرنسيين لا لذنب ولا جرم سوى ذلك وسوی أنهم ضعفاء عاجزون عن الدفاع عن أنفسهم.
فلو كانت موسكو تحارب لأجل الحرية والمساواة وتحطيم الاحتكار والتسلط بالجبروت والحيل كما تزعم إذاعتة ودعايته، فنقول لهم أيها الشيوعيون لماذا تسكتون وتعمون وتصمون على عدوان بريطانية على أهل فلسطين وهو عدوان فاق جميع العدوان. ولم لا تغضبون على اليهود الذين أرادوا وعملوا على إخراج العرب من بلادهم بسيوف الاحتكار، وقنابر الربا، ونيران رءوس الأموال المجموعة من السحت، لِمَ لَم تنبسوا ببنت شفة ولم تنكروا ما يصنعه الفرنسيون في بلاد أكتر من عشرين مليونا من المغاربة من تونس إلى شنقيط، وقد اغتصبوا هذه البلاد بطريق الإغارة والاحتكار والربا وسائر المعاملات المخالفة للشيوعية.
لماذا لا تبصرون الاحتكار والربا وللتعصب للجنس إلا في بلاد من يناوئكم من اليابانيين مع أن الأمة اليابانية راضية بدينها ومعاملتها ولا تريد بذلك بديلا، لم تتعامون عن تسلط اليهود واحتكارهم لكل شيء من أموال وصحافة وغيرهما وإنما ترون عيوب جرمانية وإيطالية لأنها ضد لكم لا لرحمة العمال ولا للشفقة على الضعفاء، وإلا أفلا يوجد في شمال إفريقية عمال وضعفاء؟ أليس أهل فلسطين عمال ضعفاء؟ أليس أهل الهند المساكين أكثرهم عمال ضعفاء؟ أليس جميع المستعمرين يتعصبون لأجناسهم إلى حد أنك تجد في البلد المنكوب بالأسعار جنسين ومعاملتين في كل دائرة وفي كل مرفق من مرافق المعيشة. الجنس الخاسر وإن كان عدد أهله واحدا في المائة أو أقل عال متسلط، جبار، عات، عاد، غاصب، ضار، مفترس، يعامل بغاية التعظيم. والجنس المحكوم محتقرا مهينا مهضوما مضيعا لا حق له. يعامل معاملة الكلاب غير المرغوب فيها ألا يصح لنا أن نسمي ذلك منكم يا أهل موسكو نفاقا؟
أليس ذلك مخالفا لما تدعونه من حماية عمال العالم والضعفاء في الدنيا كلها؟ فهذا سؤال لابد لكم من الجواب عنه.
أما من يزعمون اتباع مذهبكم من الفرنسيين والبريطانيين فهم شر منكم، لأنهم شيوعيون فيما بينهم بالكلام الفارغ. وأما بالنسبة إلى الأمم الضعيفة فإنهم يفترسونها أشد الافتراس. كما يفعل إلرأسماليون وأشد.
ألا ترحمون يا زعماء موسكو إلا عمال جرمانية وإيطالية فقط، وتتألمون لهم وتتقطع قلوبكم أسفا عليهم؟ ألا تعلمون كيف يفتك المحتكرون اليهود في أميركا وكيف أشقوا العمال وأمرّوا عيشتهم؟
لو كنتم شيوعيين حقا وصادقين في دعواكم فحاربتم جميع المحتكرين وأعظمهم ضررا اليهود والمستعمرين وبذلتم كل جهدكم في حربهم حتى تمحوهم وتزيلوا وجودهم. وإذا فعلتم ذلك سهل عليكم محاربة التعصب للجنس واللون.
ها أنتم اليوم تمدحون روزفلت نصير المجرمين من اليهود والمستعمرين وعدو الضعفاء العمال. عدو مئات الملايين من الأمم الضعيفة المغلوبة المغزوة في عقر دارها بدون أن تكون له في عداوة هذه الأمم فائدة أصلا، وإنما أراد نصرة اليهود المحتكرين المرابين والمستعمرين المحتكرين المتعجرفين المتطاولين باحتكار رءوس الأموال وباحتكار العمل وباحتكار الأراضي الزراعية والمعادن وجميع المرافق وكل ذلك مخالف لمذهب لينين ومارکس. فلماذا تغافلتم عن ذلك كله وانتبهتم إلى عيوب من يخالفكم في السياسة فقط؟
نحن نسمع دعايتكم ودعاية غيركم ونضع الجميع في ميزان الفحص والتمحيص فتجد الأفعال في واد والأقوال في واد آخر، ونجد الأمر كما قال أحد حكمائنا: “كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبید” وقد مات عمرو بن عبيد ومات من كان له خلفا.
يقولون أقوالا ولا يفعلونها
إذا قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
(بُنْ) جرمانية – تقي الدين الهلالي
جريدة العلم المصري، الجزء 3 – العدد 105 – 20 ربيع الأول 1358هـ / 10 مايو 1939