محاضرة ألقاها من محطة الإذاعة اللاسلكية العربية ببرلين، الأستاذ العلامة محمد تقي الدين الهلالي.
أيها المستمعون الكرام والمستمعات الفضليات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أتدرون أي يوم هذا؟ هذا هو اليوم السادس عشر من مايو سنة 1939 من التاريخ المسيحي. هذا هو يوم الذكرى التاسعة المحزنة للنكبة الكبرى التي أنزلها الاستعمار الفرنسي الغشوم على رؤوس المغاربة الضعفاء. ففي مثل هذا اليوم المشئوم من سنة 1930 المسيحية أقامت فرنسة أكبر دليل العالم كله على غدرها بالمغرب ونقضها لكل عهد. في مثل هذا اليوم المنحوس أصدرت فرنسة منذ تسع سنين الظهير البربري الذي يقضي بقتل خمسة ملايين من إخوانكم المغاربة المسلمين قتلا معنويا يفضلة القتل الحسي بكثير كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا
كاسفا باله قليل الرجاء
قضى الظهير البربری بإخراج خمسة ملايين من حظيرة الإسلام، وتحريم اللغة العربية عليهم، وتحريم قراءة القرآن، وإخراجهم من قوميتهم المغربية وجعلهم فرنسيين بالنار والحديد، والسياط تلهب ظهورهم، والسجون مفتحة الأبواب لكل من بكى أو شكا، والمعتقلات الصحراوية الجهنمية حيث العذاب الأليم مُعَدَّة لكل مغربي يقول لا إله إلا الله محمد رسوله لا أخرج من دیني ولا أترك لغة القرآن ولا أخرج من قوميتي.
هذه أيها السادة والسيدات الخطوة الأولى التي خطتها فرنسة لقتل إخوانكم المغاربة قتلا أدبيا، وإنما قَصَدَتْ أن تبدأ بالقبائل والأرياف وتؤخر الحواضر حتى تجيء الفرصة المناسبة لهم. عدد المغاربة كلهم ثمانية ملايين فقد تغدت فرنسة بخمسة ملايين، وأخرت ثلاثة ملايين لعشائها.
ربما يكون بينكم سادتی وسیداتی من يشك في هذا الأمر، ويظن أني أزخرف القول وأركب غارب سياسة التعصب والدعاية الكاذبة. ولإزالة كل شك أرجو أن تسمعوا أقوال الفرنسيين أنفسهم معزوة إلى مصادرها ومؤرخة بتاريخها:
قال الأستاذ دومنيين الفرنسي في أطروحته التي ألفها سنة 1928، أي قبل إصدار الظهير البربری بسنتين فقط، ما نصه: “إن المعلمين الأهالى – يعني المغاربة – لا يحسنون التعليم، ويخشی منهم نشر العربية والإسلام في مدارس البوادي”. ثم قال في صفحة 120 مستبشرا: “إن إدارة العلوم والمعارف أبعدت من جميع المدارس البدوية تعليم اللغة العربية الفصحى. وحضت على عدم إنشاء كتاتيب قرآنية بجانب المدارس المؤسسة في نواح لا توجد بها كتاتيب”. ثم قال “إن هذه التعليمات لم تطبق حتى الآن بتدقيق، إذ لا يكاد يوجد بلد في البادية إلا وفيه مؤدب أو شيخ طريقة يعلم الصبيان القرآن”. ثم قال المؤلف المذكور: “وأهم ما نرمي إليه هو فصل القبائل البربرية من القبائل العربية، والعمل لتقريب القبائل البربرية من الفرنسيين”. ثم قال “إن هذه المدارس البربرية الفرنسية معدة لتقاوم مهاجمة العربية والإسلام. ويتوجه النشء اتجاها فرنسيا. فيجب إقصاء العربية والقرآن منها بتاتا. ومن جهة أخرى يجب أن تصير اللغة الفرنسية في القبائل البربرية لغة الإدارة والاقتصاد وأداة التمدن الحديث”.
وقال دومنيين في الصفحة التاسعة عشرة بعد المائة: “إن من الخطر علينا أن تتكون جبهة موحدة من الأهالي يتكلمون بلغة واحدة وتكون لهم تشكيلات واحدة. بل يجب علينا أن نجعل نصب أعيننا قاعدة (فرّق تَسُدْ) لأن وجود العنصر البربري مفيد لحفظ التوازن مع العنصر العربی ويمكننا أن نستغله”.
وقالت مجلة ( الغرب الكاثولیكي) في جزئها الصادر في أکتوبر 1927 “إذا كنا لا نعتمد على مساعدة فعلية من الحكومة في تنصير المغاربة فهناك أمر لنا فيه فائدة كبيرة، وذلك أن المدارس المفتوحة في النواحي البربرية خالية من اللغة العربية. وهذه اللغة هي الوسيلة الوحيدة لنشر القرآن، فلا ريب أن تأثير الإسلام ينقص عند إبعاد اللغة العربية”.
وأقوال الفرنسيين في هذا المعنى كثيرة.
والآن أيها المستمعون الكرام أرجع بكم قليلا الى الوراء لتعرفوا شيئا من تاريخ هذه القضية. في سنة 1907 هجمت فرنسة بأسطولها من البحر المحيط الأطلانطيقي على ميناء الدار البيضاء غدرا منها ونقضا للعهد بدون موجب، ومن ذلك الحين بدأت الحرب بين دولة المغرب الأقصی وبین فرنسة، واستمرت إلى سنة 1912، وفي مارس من هذه السنة نالت فرنسة موافقة بريطانية فهجمت على المغرب بجنود لم يكن للجيش المغربي بها قبل وفرضت حمايتها على ملك المغرب في ذلك العهد مولاي عبد الحفيظ. وسطرت فرنسة معاهدة الحماية وقدمها ليوطي الطاغوت الفرنسي إلى الملك المذكور، وفيها أعطاه العهود والمواثيق باحترام سيادة السلطان والشريعة الإسلامية والحكم المخزني المستقل في داخل البلاد استقلالا لا يمس بوجه من الوجوه، وتعهدت فرنسة بإرشاد الدولة المغربية ومساعدتها حتى تتأهل للاستقلال التام.
وفي سنة 1914 قررت فرنسة سرا نقض معاهدتها وتنصير القبائل وفَرْنَسَتهم بالقهر، فأخذت من ذلك العهد في العمل تدريجيا بوجه غير رسمي، وأسست مدارس لتعليم الفرنسيين والفرنسيات اللغة البربرية استعدادا للعمل عندما يأتي الوقت المناسب.
وفي سنة 1930 رأت أنها قد أتمت فتح أكثر أنحاء المغرب وما بقي منه إلا قليل من القبائل المعتصمين بالجبال والأوعار، ورأت أيضا أن عندها عددا كافيا من الرجال والنساء الفرنسيين المتقنين للغات البربرية. فجرؤت على فعلتها النكراء، وأعلنت (الظهير البربري) الذي أخرجت به خمسة ملايين من دينهم وقوميتهم، وأبطلت المحاكم الشرعية، وأغلقت المدارس والمكاتب الإسلامية، وطردت كل من عنده علم بالدين الإسلامي أو الأدب العربي، ولم تقتصر على المغرب بل طردت أيضا كل عالم أو شيخ أو أديب بربری، وفرضت على أهل المغرب أن لا يسافر أحد من بلد إلى آخر إلا بجواز سفر. فكانت هذه الضربة هي الضربة الثانية بعد غدر فرنسة بالقائد المجاهد محمد بن عبد الكريم. فقاوم المغاربة هذا الظهير الملعون بكل وسيلة، واحتجت جمعيات الشبان المسلمين، وأحرار البلدان الإسلامية والعربية على هذه السياسة البربرية الغاشمة، ومن ذلك الحين اتخذ المسلمون والعرب يوم 16 مايو يوم حزن وأسى، يجددون فيه احتجاجهم على فرنسة. وفي السنة الماضية أقامت جمعية الشبان المسلمين في القاهرة وفروعها احتفالا عظيما حضره خلق كثير وبعثت احتجاجاتها إلى المسئولين في فرنسة، وبعث أيضا سمو الأمير عمر طوسون وهو الأمير المجاهد الحر الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم احتجاجا شديدا إلى رئيس الحكومة الفرنسية، وقد مضت تسع سنوات على هذه الفعلة المخزية ولم ترجع فرنسة عن غيها، بل زادت على ذلك فظائع جديدة فسفكت الدماء وقتلت النساء والأطفال في المغرب الأقصی وفي تونس في سنتی 1937 و38، وقبضت على الزعماء وآلاف مؤلفة من الوطنيين وأخذتهم إلى الصحراء الكبرى حيث تذيقهم ألوان العذاب، ولا يزالون يقاسون الآلام إلى الآن. فزعماء المغرب وتونس والجزائر – وهم علال الفاسي ورفاقه، ومصالي الحاج وإخوانه، والحبيب بورقيبة ورفقاؤه – لا يزالون في المنافي والمعتقلات الجهنمية. ولن يزال المغاربة وإخوانهم المسلمون والعرب وراء حقهم حتى يدرکوه طال الزمن أو قصر، فإن الاعتداء والغدر المرذول الواقع على القومية المغربية من فرنسة في الشمال الإفريقي من حدود تونس إلى شنقيط والعدوان والقدر الواقع على العرب في بلاد الشام وهي ما بين العراق ومصر من قبل القوات البريطانية والفرنسية قد كان أعظم منبه للشعوب العربية، وكشف الغطاء عن وحشية الاستعمار المرذول، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، لتحي الشعوب العربية والإسلامية وليسقط الظالمون.
محمد تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح: العدد 656 – 13 ربیع الثانی 1358 (ص: 10-11)