حب الأسلاف وتقديسهم والذب عن كرامتهم أمر فطري غريزي في جميع الأمم، يتوارثه أجيالها ولا تفقده أمة إلا في آخر رمق من حياتها الاجتماعية التي بها تستحق أن تسمى أمة ولو من أدنى الأمم. هذا شيء مسلم به لا يحتاج إلى برهان، فاختبره في أي أمة لها شيء من العزة والشرف ولو قليلا: اذهب إلى أي أمة ثم اِرق منبرا واخطب خطبة مملوءة بالاحتقار والسخرية والاستهزاء بأسلافها ثم انظر ماذا ترى؛ لا حاجة إلى أن أقول لك أنهم يقتلون من يفعل ذلك قتل العقارب بالأحذية، ويلقون جثمانه في القاذورات. وليس هذا مختصا بالأمم السائدة بل حتى المسودة ما دام فيها عرق ينبض ترضى بكل شيء إلا هذا، وترضى بأنواع الذل إلا هذا النوع فإنها لا تسيغه أبدا، إلا إذا انحلت عصبيتها وبرد دمها وأشرفت على القبر، إذ لا خفاء أن المجد الغابر هو روح الحاضر، ومن لا ماضي له فلا حاضر له. إلا أن ذلك التمجيد وذلك التقديس قد يتجاوزان حدود العلم والعقل فيبلغ الأبناء بالآباء إلى الألوهية والعصمة والإصرار على الأخطاء الموروثة، وهذا أيضا داء وهو نقيض ذلك و”کلا طرفي قصد الأمور ذميم” والخير دائما في الوسط.
“إهانة اسم محمد ﷺ”
تكررت الإساءة إلى اسم منقذ الانسانية محمد ﷺ في مدارس في العراق، وعند قرَّاء الصحف الخبر اليقين (1) ولم نر همة تذكر أو تشكر بذلت في إصلاح هذا الخطأ وإزالة هذه النجاسة من دور التعليم. ما سبب وقوع هذا؟ الجواب واضح: طغام من الطوائف المبتلاة بالجنون النصراني تشتعل في قلوب أبنائها نار الحقد والعداوة اللذين يوحيهما تعليم الدين المعوج الممسوخ، فتطير شرارات أحيانا وتخرج من فم موظف في المعارف قد أصابه الله بهذه اللعنة. ويقصد بذلك محاربة من ينتمون إلى الإسلام والهجوم عليهم، لأن ذاك فرض فرضه عليه اعتقاده السخيف. ومن ذلك ما وقع في الموصل في السنة الماضية، وما وقع في البصرة منذ شهرين وکان الخوض فيه (على ما قيل) سببا لموت “مجلة الشبان المسلمين” التي كانت تصدر بالبصرة (2) وليس اللوم على من بيدهم الأمر أو شيء منه في هذه البلاد. فهل من العمل أو العقل أو التهذيب أو الانسانية أو المباح ذكر اسم محمد ﷺ مقرونا بالهزء؟ وما ذنب محمد ﷺ إلى هؤلاء الموظفين حتى ينتقموا من اسمه؟ وما ذنب محمد عند من بيدهم الأمر حتى يسامحوا من يهين اسمه؟ أيمكن أن يكون جرمه أنه هو سيد العرب وباعثهم من مرقدهم ومنشرهم من قبورهم بعد الله؟ أيمكن أن يكون ذنبه قضاؤه على الوثنية بأنواعها وتطهيره العقول من رجسها؟ أيمكن أن يكون ذنبه أنه أعتق الرقيق وخفف عنه ما كان يلاقيه من العذاب؟ أيمكن أن يكون ذنبه أنه وضع أصول المساواة والحكم الشوريّ والأخوّة الانسانية إذ قال “لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين صاروا فحم جهنم أو ليكونن أهون عند الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه. أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. أيها الناس إن أباكم آدم، وآدم من تراب فلا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بتقوى الله العظيم؟”
تأمل هذا الكلام وانظر ما كتبه فلاسفة الاجتماع في هذا الزمان من الأحلام التي لم يقدروا قط أن يعملوا بها ولو مرة في العمر كيف عمل بها وعلمها محمد رسول الله؟ أمثل هذا يساء إلى اسمه في دور العلم بل في الدرس نفسه؟ أمثل هذا يكون الاستهزاء به جزءا من الدرس؟ أيمكن أن يكون ذنبه إلى أبناء العرب في العراق أنهم كانوا في هذه البلاد عبيدا وخولا لأبناء فارس فجاءهم بتعاليمه التي رفعتهم إلى العروش وجعلتهم رؤوسا بعد ما كانوا أقل من الأذناب؟ أيمكن أن يكون ذنب محمد أنه بوأهم جنات وادي الرافدين الخصيب خالدين فيها؟ أيمكن أن يكون ذنب محمد أنه جاء بحرية الاعتقاد والدين وأبطل ما كانت تجري عليه كل كنيسة من امتحان مخالفيها ولعنهم وتعذيبهم أشد العذاب؟ أيمكن أن يكون ذنب محمد هذا القرآن الذي لا يوجد الآن كتاب سماوي يعجب به الحكماء والفلاسفة في العالم مثله؟.
في العام الماضي قال أكتَبُ كتَّاب أوربا وأكبر أدبائها (برنارد شو) كلمته في محمد ودين محمد وسماه (منقد الانسانية) وهذه كلمته محفوظة عندي بحروفها. وقبله قال علماء القرن الماضي. کارلايل وجيبون وگوتي وغيرهم – ما هو مشهور. أنقول أن هولاء العلماء أطفال جهال لا يعرفون العظمة والضعة، ولا يميزون بين الأوج والحضيض، أو أنهم مجانين يهذون هذیانا، وأن العلم والمعرفة والأدب والفلسفة انتشرت في غلامين موظفين في مدارس العراق أحدهما أرمني والآخر مثله هيّان ابن بیَّان وضل ابن ضل، وأن هذين المعتوهين جاءا يرقیان مدارسنا بالتعصب والجهل وينوران أفكارنا بالسب والشتم لأعظم رجل من أسلافنا لا في نظرنا نحن – لانها منحطون عميان لا نظر لنا – ولكن في نظر فلاسفة العالم؟ إن كان يمكن أن نقول ذلك فالمدارس هي ألعن بقعة في الأرض وأنجسها وهي الطبقة السفلى من جهنم الدنيا.
منذ زمان غير طويل نشرت الصحف أن بعض شبان الترك ادَّعى أن آدم طورانی. وذكرت تقديس شبان الترك لأسلافهم الأبعدين الذين لا يعرف نسابة منهم من عمود النسب إليهم ثلاثة آباء، ولم يشرفوهم بشيء ما ولا تركوا لهم مناقب ولا مجدا يذكر، بل هؤلاء شرفوهم وصار لهم الفضل علیهم.
وكم أب قد علا بابن ذري حسب
كما علت برسول الله عدنان
ومع ذلك شبت فيهم وطنيتهم نيران الحماسة لأولئك الأسلاف.
وفي يوم المولد من شهر ربيع الأول الادنى استكتبني مدير مجلة “الثغر” البصرية، مقالة في ذكرى “منقذ الإنسانية” لينشرها في صحيفته يوم المولد فكتبت له مقالا جاء فيه “إن إیوان کسری تهدم يوم ولادة محمد ﷺ لأنه كان مبنيا بعرق جبين الفلاح الفارسي، فأحس بولادة رسول العدل والمساواة وماحي الظلم والجور وهادم العروش المبنية عليه أو كلاما يشبه هذا. فلما قرأ أبناء فارس هذا الكلام قامت قيامة بعضهم تعصبا لكسرى، وكتب مدير صحيفة “شفق سرخ” ردا طويلا علي افتتح به صحيفته لأهميته عنده وعند قرائه، وسماني شیخا جاهلا متعصبا أعمى القلب. وهذا مقاله محفوظ عندي. فأناشدكم الله يا من بيدهم شيء من الأمر: أيتعصب أبناء الفرس لأسلافهم وأبناء الترك لأسلافهم ويتجاوز بعضهم الحدود في ذلك وهم جيرانكم، ثم يقوم ضل بن ضل في قلب معاهد العلم أشرف بقعة في أرضكم ويسب أقدس سلف من أسلافكم فلا تحركون ساكنا؟ ماذا نسمي هذا؟ وكيف نؤوله؟ أنقول إنه حِلم؟ أو عقل؟ أو تسامح؟ أأنتم أحلم وأعقل وأكثر تسامحا من جيرانكم ومن جميع الأمم؟ إن البیاض إذا كثر صار برصا وإن لكل شيء حدا. والله ما أجد ما أقول لكم إلا ما قال أحد أسلافكم المضيعين:
لو كنت من مازن لم يستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
والآن وقد نفثت نفثة مصدور وعالجت هذه المسألة من الوجهية التي حضرتني أختم ببحث قد تشرئب إليه نفوس غير المسلمين فأقول: قد يعتذر معتذر عن تلك الإساءات بأنها مباحث علمية أفضى إليها البحث. والبحث العلمي يجب أن يكون حرا غير متبع للأهواء والتقاليد. ولو حجرنا على المدرسين للبحث وقيدنا حريته ما تقدم العلم قيد شعرة.
فأقول إن ما نشره الطالب الذي سمع تلك الإهانة من ذلك الأرمني في “مجلة الشبان المسلمين” البصرية لم نجد له علاقة بأي علم من العلوم. بل لو لم يكن فيه هجوم على أحد ولا أذى لا لِحَيّ ولا لميت ولا لعظيم ولا حقير لكان فضولا وعبثا وتضييعا لأوقات الطلبة، فأي فائدة وأي علم في أن يحكي ذلك الأرمني على الطلبة قصة فاسدة غير معقولة ولم يسمعها من أستاذ ولا استفادها في درس بل سمعها بزعمه من السوقة والعوام في بلدة بَعقوبه “إن محمدا بصق على الأرض فكانت الأزهار وتمخط فكانت الباقلا واللوبيا” وذكر أن ذلك اعتقاد المسلمين. فهلم نضع هذه القصة في الميزان فنقول أولا: ما المقصود من التحديث بها والطلبة أكثرهم من اليهود والنصارى في درس الطبيعيات؟ وأي فائدة اجتناها الطلبة من هذه القصة أكثر من غيظ أولئك النفر من الطلبة المسلمين، وإدخال الحزن عليهم وإيقاع العداوة بينهم وبين رفقائهم وهم أولاد مدرسة واحدة وفصل واحد؟ أليس في ذكرها شران اثنان: أحدهما تضييع الوقت والخوض فيما لا يعني، وثانيهما أذى أولئك الطلبة وإفساد ذات بينهم، والشر ثالث وهو إيذاء كل من سمعها من المسلمين ومن العرب الأحياء وإن لم يكونوا مسلمين؟ ونسبة ذلك إلى اعتقاد المسلمين على العموم کذب وبهتان، فلو كان أجهل من حمار أهله لما خفي عليه أن أهل العلم والمعرفة من المسلمين لا يعتقدون ذلك. وهل يمكن نصرانيا أن يعيب المسلمين المسلمين بالخرافات؟ أليس هذا العيب من قبيل ما جاء في الانجيل أن أحدهم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. إن من يبغض محمدا من النصارى إنما يبغضه لأنه قضى على خرافاتهم وبين للناس بطلانها. فلو غير نصراني تعرض لانتقاد خرافات المسلمين!
وبعد فإن كان هذا هو العلم فما هو الجهل؟ وإن كان هذا هو الرقي فما هو الانحطاط؟ وإن كانت هذه هي الوطنية المقتضية لحفظ كرامة الأسلاف، وحمی حماها فما هي الخيانة المقتضية لإهانة الأسلاف في أجداثهم بسبهم وشتمهم زيادة على إهانتهم بإيقاع البلاد في أسفل سافلين سياسية وعلما واقتصادا واجتماعا وأدبا وصناعة ومن جميع الوجوه؟ وإن كان انفاق حر أموال العرب والمسلمين التي اكتسبوها بعرق الجبين على مثل ذلك الارمني الشقي الطريد ليسب أشرف أسلافهم رشدا وسدادا فما هي السفاهة؟
لم أتكلم في هذه القضية من الوجهة الدينية مخافة أن أكون مثل ذلك البربري المغربي الجاهل الذي قال الحاكم فرنسي كان يفاوضه “صل على النبي يا سيدي الحاكم” فأجابه الفرنسي “أنا ما جئت من فرنسا إلى هنا لأصلي على النبي. بل جئت لغير ذلك”.
لعمري لقد نبهت من كان نائما
وأعلمت من كانت له أذنان
محمد تقي الدين الهلالي
صحيفة الفتح: عدد 432 – 3 ذي القعدة 1352 هـ – (ص: 12-14)
———————-
(1) سبق بيان ذلك في بعض أعداد (الفتح) الماضية.
(2) الفتح- وقد استأنفت صدورها ولله الحمد باسم (صدى الشبان المسلمين) وهي ماضية في جهادها الحميد.