بينما أنا أفكر تفكيرَ كئيبِِ حزينِِ في أحوال بلاد مراكش، وما حلق بها من العذاب، بفضل تخاذل أهلها وجشع الفرنسيين وسوء سياستهم وطغيانها الوحشي الضاري، إذ عثرت في مجلة جرمانية على مرسوم سلطانی شريف بعثه سلطان مراکش سیدی محمد بن عبد الله بن اسماعیل (1123 – 1204هـ) إلى دولة راكوسا الحرة (يوغوسلافيا الآن)، وجده في خزانة الوثائق مدينة راکوسا الأستاذ فرانتس بابنكر الجرماني سنة 1927م، ونشر صورته الشمسية مع مقال شرح فيه أسبابه في مجلة (أخبار معهد الألسنة الشرقية ببرلين) في السنة نفسها. ووجد مرسوما آخر من السلطان المذكور إلى قنصل دولة الدانمارك فنشره أيضا.
ورأيت أنه لا يتم المقال الذي أريد تحريره في هذا المعنى إلا بإدراج ذلك المرسوم الكريم بصورته في هذا المقال، ليكون حجة ناطقة وزينة باهية وعبرة نافعة للمسلمين عامة وللمراكشيين خاصة وللسلطان صاحب الجلالة سيدي محمد بن يوسف (وفقه الله وأرشده) بالأخص، ولا أظن جلالته يقرأ (الفتح)، ولعل بعض الجواسيس الذين يوسوسون في الصدور ويختلقون البهتان على كتلة العمل الوطني لیوقعوا الفتنة ويخدموا ذئب الاستعمار يبلغ جلالته هذا المقال، ولو على سبيل الوشاية والإفساد، فيكون من ذلك عبرة في سنة 1356هـ بأعمال جده سلطان المغرب سنة 1194هـ، وتترتب على ذلك نتيجة من تبادل التعاون مع رجال الإصلاح في المغرب، على ما فيه إنقاذ البلاد وأهلها من الخزي والشقاء. ولعل بعض أهل الإيمان من قراء (الفتح) بالشمال الإفريقي أو في البلاد الفرنسية يتفضل فيبلغ جلالة السلطان هذا المقال لأن شياطين الإنس ربما تكاسلوا عن تبليغه إذ يعلمون أن كاتبه الأن في نجوة من سطوة المستعمر وأذنابه.
لقد أطال الأستاذ بابنكر في شرح الحادثة التي صدر من أجلها هذا المرسوم الشريف، وأكثر النقول من مصادر شتى، ولم نر فائدة كبيرة لقراء (الفتح) في ترجمة جميع ما ذكره، إذ لا تتسع صدورهم لقراءته، وإنما يهم به طلبة التاريخ والجغرافية، ولكن لابد أن نشير إلى شيء مما ذكره.
ذكر أنه زار خزانة الوثائق الدولية في الطبقة الأولى من قصر الوكتور في مدينة راكوسا، فألقى نظرة عجلى على الوثائق العثمانية – وهي عدة آلاف – فإذا بينها وثيقتان مراکشیتان: الأولى طولها 43 سانتیمتر وعرضها 32,5 سانتیمتر، يكتنفها إطار مزوق بألوان أربعة: أزرق وأخضر وذهبي وأخضر. ويرى في فاتحتها بدلا من الطغراء العثمانية ختم الأمبرور(1) أي الملك الأعظم سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل المتوفى في 11/04/1790م بمدينة رباط الفتح. ثم ذكر المصادر التي طالعها ولخص منها شرح حال هذا المرسوم، ثم قال: “ويتلخص لنا من مجموع هذه المصادر أن قنصل دولة راكوسا بالجزائر كتب إلى دولته أنه علم أن ملك مراكش أصدر أمره لقائدين من قواد الأسطول المراكشي أن يقبضا على كل سفينة راكوسية يجدانها، لأن ربان سفينة وهو راکوسی حمل حجاجا مراكشيين من شواطئ تونس وعاملهم معاملة سيئة”.
قال الأستاذ بابنكر: ودولة راكوسا تدفع هذه التهمة وتزعم أن دولة مراكش غلطت في هذه الحادثة والتبس عليها اسم (دوبرا فنيدکا – Dubra Wenedika) وهو الاسم الرسمي لدولة راكوسا بـ (فنيديك – Venedig) وهو اسم دولة البندقية (وهي الآن جزء من إيطاليا) والاسمان متقاربان. ويزاد على ذلك أن هاتين الدولتين كانتا قبل تلك الحادثة صديقتين كأنهما دولة واحدة. أما في وقت الحادثة فكانت بينهما عداوة شديدة. وكان الربان الذي حمل الحجاج المراكشيين من أهل البندقية فأوهمهم أنه من رعایا دوبرا فنیدیكا مكيدة منه ليوبقهم وينجو هو ودولته من العقاب، وكيفما كان الأمر فإن دولة مراكش أعلنت الحرب على دولة راكوسا دون أن تنبذ لها على سواء ولم تعلمها بذاك. فما شعرت دولة راكوسا إلا وقد جاءها كتاب من الربان ناتال باتسيفتس بعثه من رباط الفتح عاصمة مراكش يخبر أنه بينما كان مسافر بسفينة مشحونة بضائع من جنوى (وهي الآن جزء من إيطاليا) إلى جزائر کناری إذ عرضت له سفن حربية من مدينة سلا (مراکش) فأسرته هو ونوتيته وأخذت سفينته وما فيها وقيمته 4000 ریال مغربي وصار النوتية عبيدا أرقاء والسفينة وما فيها غنيمة، ثم أعتق الربان والنوتية وأطلق سراحهم. وأخبر أيضا أن السفينة والبضائع كانت لتجار من مالطة وأنه كان فيها أجيرا فقط. قال: ولا شك أن هذه السفينة هي المذكورة في المرسوم السلطاني المبعوث إلى دولة راکوسا. ثم شنت دولة إسبانية عند الدولة المراكشية، فردت على التجار المالطيين قيمة السفينة والبضائع.
قال: وكان أسطول سلا في ذلك الزمان مشهورا مرهوبا. فأوفدت دولة راكوسا وفدا مؤلفا من رجلين أحدهما کارلو ماريا – وكان قنصلا لدولته في إسبانية – والآخر أنطيو نوکز يلاری، ووجهت معهما هدايا ثمينة الى ملك مراكش ورسالة شفاعة من الباب العالى – السلطان العثمانی – وكانت دولة راكوسا في ذلك الوقت تحت حماية الدولة العثمانية. فوصلا إلى الرباط يطالبان بالتعويض عما خسره الربان ناتال الراكوسي من السفينة والأموال ويلتمسان عقد صلح، فأجابهما سلطان المغرب وكان طماعا أشعبا بخيلا غادرا عندما طالباه بالتعويض: أن خذوا ذلك من أعدائكم (لعلهم أهل البندقية) وطلب السلطان منهما أن يدفعا له مثل ما دفع للمالطيين. وبعد مفاوضة استمرت شهرين تمكنا من عقد الصلح، فعند ذلك كتب لهما المرسوم الذي بين أيدينا صورته، وكتب السلطان صورة من ذلك المرسوم بعث بها إلى قناصل جميع الدول في الرباط. وهذا الصلح لم يستقر ولم يبق إلا مدة قصيرة. ففي سنة 1781م أعلن سلطان مراكش الحرب على راکوسه مرة أخرى، وسبب ذلك بلا ريب – بناء على ما في الوثائق الراكوسية المحفوظة في الخزانة المتقدم ذكرها وهو مطابق لجميع المصادر الأوربية – إنما هو الطمع الأشعبي ورداءة الطبع الذَين لا حد لهما في ملك مراكش (كذا) فإنه كان كالمنهوم الذي يأكل ولا يشبع، يخلق الأسباب دائما لينال هدايا جديدة، فعلمت دولة سنات (راكوسا) بعد 6 أشهر فقط من عقد الصلح أن ملك المغرب في أول ديسمبر 1780م نقض الصلح مع راکوسا ولم يعبأ بالعهد المقدس الذي قطعه على نفسه. وذلك أن سفينة راکوسية حملت من ميناء الإسكندرية زنجيا (مورو) وكان من رعايا مراكش في رجوعه من مكة ولم تنزله في سواحل المغرب، فأصدر ملك المغرب إعلاما لجميع القناصل أن الصلح الذي بينه وبين دولة راکوسة قد انتقض، وأصدر أمره إلى قادة الأسطول المراكشي أن يأخذوا كل سفينة راکوسية أينما ثقفت(2).
وأخبرنا مسيو ج.هوست بذلك الإعلام مترجما باللغة الفرنسية ولإخفاء أن ذلك الإعلان كان ضربة قاضية على سفن راكوسا. لأنه بعد ذلك لا يجرؤ أحد أن يغرر بنفسه ويودع بضاعته أية سفينة راکوسية. هذا في البضائع فأحرى وأولى في الركاب. ولذلك لم تجد دولة سنات (راكوسا) بدا من أن تلتمس شفاعة أخرى من الباب العالى، وتبعث وفدا آخر يلتمس عقد الصلح ويتوب ويستغفر وهو بريء لم يجن ذنبا. وخدم الحظ أهل راكوسا للتخلص من ورطتهم المحزنة بأن أميرين من أولاد الأمبرور سيدي محمد توجها إلى الحج في سنة 1780م وتمكن الربان كياسومو کازیلاری الراكوسي من التعرف بهما وحملهما في سفينته إلى الإسكندرية في سبتمبر 1780م وبالغ في خدمتهما وكان معهما موكب من الخدم والأصحاب، فكتبا إلى أبيهما بما صنع ذلك الربان من خدمتهما وإکرامهما وشفعا عنده لدولة راکوسا، فتم عقد الصلح مرة أخرى وكتب الربان کازيلارى إلى دولته ما حصل عليه من التعرف بالأميرين وخدمته لهما وأنهما صارا مسرورين جدا، فعند ذلك أصدرت دولة راکوسا أمرا إلى جميع السفن الراکوسية أن تبذل كل جهد في خدمة الأميرين عند رجوعهما من الحج، فتلقاهما قبطان راکوسي وحملهما إلى القسطنطينية من جدة وبالغ في خدمتهما، فكان ذلك سببا في القبول الذي ناله وفد راكوسا عند جلالة سيدي محمد، وعقد مع دولة راكوسه صلحا بقي وقتا طويلا.
تعليق
كثير من الكتاب لا يزالون يدعون إلى اتفاق الشرق مع الغرب وتعاونهما على نشر العلم والمدنية والسلام بصدق وأخوة وإخلاص؛ ويطالبون بتطبيق مقتضى الديمقراطية التي يدعيها أهل أوربا وفي مقدمتهم الفرنسيون. و أنا لا أفهم معنى لهذه المطالبة بعدما تبين ووضح وضوح الشمس في رابعة النهار أنه لا عبرة ولا التفات إلا للقوة والوسائل الإرهابية(*)، فمن أحرز منها نصيبا فهو أخ حميم، وصديق له الكرامة والحب والإخلاص، ومن لم تكن له قوة أو كانت له قوة ضئيلة فالأذان عن قوله صم، والأعين عنه عمى، ولا يلتفت إليه. ألم يروا أهل أوربا أنفسهم تركوا المطالبة بتخفيض السلاح، وصارح بعضهم بعضا بما تنطوي عليه ضمائرهم من الجشع، وهبوا يتنافسون في الاستعداد للحرب، ويرون أنه لا سبيل للسلم والسلامة إلا بالتسلح والتقوى(2) فإذا أخفقت الدعوة إلى الأخوة والإنسانية والديمقراطية بين الأوروبيين أنفسهم، مع أنهم يعتبرون بعضهم أكفاء لبعض، فكيف تنجح دعوة الشرقيين إلى ذلك والأوربيون إنما يعتبرونهم طعاما لهم؟ أفما آن لكتاب الشرق أن يقلعوا عن الكلام الفارغ، و يحثوا أممهم على التقوى والاستعداد الذي لا سبيل لنجاتهم سواه؟
تأمل في المقال الذي لخصناه آنفا وما فيه من التحامل والطعن والحقد وخلاق السيئات وإبدال الحسنات سيئات. فمن ذلك تحريف كتاب ومؤرخي راكوسا للحق وزعمهم أن ملك المغرب أخذ أهل راكوسا بذنب أهل البندقية. وكيف يمكن ذلك وسيدي محمد كان له أسطول يراقب البحر الأبيض والمحيط الأطلانطيقي كما يراقب الإنسان صفحة كتاب أمامه.
ومن ذاك أن أهل راکوسا زعموا أن الأسطول المغربي أخذ النوتية والربان عبيدا والسفينة غنيمة، ثم كذَّبوا أنفسهم فقالوا أن السلطان أطلق سراح النوتية والربان في الحين، فلو أخذوا رقيقا كما زعوا لبيعوا في سوق الرقيق، وانتظر بهم حتى يفكهم أهلوهم أو دولتهم، ولم يقع شيء من ذلك لأنهم أطلقوا قبل أن تعلم دولة راكوسا بالحادثة وقبل أن توجه وفدها، وأنعم عليهم الملك الأعظم سيدي محمد فسموا إنعامه بضد اسمه، وكفروا نعمته بدل الشكر الواجب.
ومن ذلك مراوغتهم وتناقضهم في مطالبتهم بقيمة البضائع والسفينة، مع اعترافهم أنها ليست لهم، وأن دولة المغرب لما علمت أن البضائع والسفينة للمالطيين عوضتهم عن ذلك كرما منها وفضلا، فما معنى مطالبة وفد راکوسا إذن بقيمة السفينة وما كان فيها إلا الخب والختل والمراوغة، حتى إذا انخدع لهم السلطان قالوا هذا مغفل، وإذا وجدوه راسخ القدم ثابت السياسة محنكا خبيرا قالوا جشع سيء الطبع غادر، وهكذا يعامل الغرب الشرق على هذه القاعدة قديما وحديثا وفي المستقبل.
ومن ذلك الاتفاق والتعاضد الذي كان بين الملكين العظيمين ملك المغرب وملك القسطنطينية، حين كان هدى الإسلام شعارهما فنالا به کل عز ومجد، وانظر إلى تخاذل من يتولون أمر المسلمين اليوم وتجاهلهم وما أصابهم بسبب ذلك من الهوان.
ومن ذلك أننا نفهم من قول الملك سيدي محمد بن عبد الله للوفد الراكوسي حين طالباه بتعويض الخسارة كذبا ومراوغة “خذوا ذلك من أعدائكم” أنه لم يصدقهم في زعمهم أن الذي أساء معاملة الحجاج كان من أهل البندقية حين زعموا أنهم أعداؤهم وأنهم أوهموا الحجاج أنهم راکوسیون، فأجابهم متهكما “إن کنتم صادقين أن أعداءكم هم الذين حفروا لكم هذه الحفرة فخذوا التعويض منهم” وقد علمت أنهم لم يخسروا شيئا، وإنما جاءوا يطلبون الأمان وعقد الصلح خوفا على سفنهم في المستقبل. ومن ذلك أنهم أكثروا القذف والبذاء والشتم للملك المبرور سيدي محمد، وزعموا أنه نقض عهده المقدس بعد ستة أشهر فقط، وأنه إنما فعل ذلك لجشعه ونهمته لينال هدايا جديدة عدوانا منه وظلما، مع اعترافهم أنهم هم الذين نقضوا العهد المقدس بحملهم حاجا مغربيا وإنزاله في غير الشواطيء المراكشية خرقا للاتفاق ونقضا للعهد. وتمالأت على ذلك المصادر الأوربية وأقره الأستاذ بابنكر، لأنهم جميعا لا يقدرون أن يروا شيئا حقا ولا عدلا ولا إنصافا من شرقي أبدا، ولا سيما إذا كان مسلما، بل يقلبون حسناته سيئات ويبهتونه بسيئات يخلقونها خلقا، وأزيدك أن الرفيق الذي ساعدني على ترجمة هذا المقال كان موافقا على ذلك كله ومصدقا له، فقلت: لا حيلة معكم معشر الأوربيين، ولا يمكن أن تنال صداقتكم إلا بالقوة والقسوة، وأما العدل والإحسان فإنهما لا يزيدانكم إلا عتوا وجحودا. فضحك.
ومن ذلك أنه سمى الحاج الذي انتقض الصلح بسبب ظلمه زنجيا ثم سماه مور Moor والمور تطلق على أهل مراکش، فكأنه يعتبر أهل مراكش زنوجا وأنه لا فرق بين المراكشي والزنجی.
ونحن لا نريد أن نكون مثلهم – أعني الأوربيين – فنغمط الناس لألوانهم، ولكن نعتبر الناس بأعمالهم، والمراكشيون لهم من العلوم والأعمال المجيدة ما لا يوجد مثله إلا في أفضل الأمم، والزنوج قبائل وثنية متوحشة، فأي إنسان له ذرة من الإنسانية يخلط بينهما؟ هذا وقد طال هذا المقال جدا فنمسك عنان القلم ونَكِلُ ما بقي إلى فطنة القاريء، ولعلنا نرجع إلى هذا الموضوع مرة أخرى لنقارن بين ما كانت عليه السلطنة المراكشية وما صارت إليه الآن، والله يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
بن: 17 ربیع الأول 1356
محمد تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح: العدد 553 – العام 12 – الخميس 1 ربيع الآخر 1356هـ – ص9.
—————-
(1) أنا لا أرى ترجمة امپرور بإمبراطور لثقلها وكونها غير عربية، فأما أن يعبر عنها بالملك الأعظم، أو تترك على حالها.
(2) و كان بين ملك مراكش وبين الدول معاهدات خاصة فوقعت المعاهدة بينه وبين الدانمارك سنة 1755م ووقعت المعاهدة بينه وبين السوید 1763م ومع انكلترا وهولاندا سنة 1778م ومع جنوی سنة 1769م ومع اسبانيا سنة 1767م ومع البرتغال 1769م ومع البندقية سنة 1765م.
(3) الفتح – اتقاء الحرب وسائر الشرور بالاستعداد لدفعهما هو من أعظم أنواع التقوى التي يجب أن يتقرب بها المسلمون إلى الله عز وجل.
(*) الموقع- الوسائل الإرهابية هي أسباب ووسائل التخويف والترهيب للعدو. كما قال تعالى (ترهبون به عدو الله وعدوکم).