تعليق مختصر على بعض ما في مقال التايمس المنشور في الصفحة 6
نشرنا في هذا الجزء من الفتح ترجمة مقال التايمس عن المغرب وهو تعليق مختصر على بعض ما جاء فيه:
(أ) زعم مكاتب “تايمس” أن المغاربة في مكناس تبادلوا الطلقات النارية مع الجنود الفرنسيين. وذلك بهتان عظيم لأن المراكشيين كانوا عزلا لم يكن معهم شيء من السلاح البتة. وإذا كان الأمر کما ذکر فهل كانت طلقاتهم النارية كنار إبراهيم بردا وسلاما على الجنود الفرنسيين فلم يصب أحد منهم بسوء؟ وهل كان رصاص المراكشيين تمرا ورصاص الجنود المجرمين نيرانا جهنمية؟
قتل من المراكشيين 25 وجرح 50 حسب إحصاء الفرنسيين وأكثر الجرحى قضوا نحبهم في وقت قصير بعد المجزرة. والحقيقة أن القتلى والجرحى أكثر من ذلك بكثير. لو كان في مكناس 10000 مغربی مسلحين لما قدر الفرنسيون أن يغلبوهم ولو جاءوا بعشرين ألفا. وكل من يعرف شيئا عن الحروب التي جرت بين الفريقين منذ 25 سنة يعلم يقينا أن فئة قليلة من المغاربة تهزم أضعافها من الفرنسيين متى كان السلاح واحدا. بل كم هزم المغاربة الفرنسيين وهم مسلحون بأحدث الأسلحة والمغاربة ليس لهم إلا البندقيات القديمة ذات القداحة وغنموا سلاحهم، ولولا المدافع الضخام والاجتماع والمدد الوافر المتواصل ما قدر الفرنسيون أن يفتحوا المغرب حتى في 200 سنة فضلا عن 25 سنة.
نعم الفرنسيون يقاتلون مجتمعين هم وجميع أهل مستعمراتهم. والمغاربة يقاتلون فئة بعد فئة إذ ليس لهم دولة قوية تنظمهم ولا كلمة متحدة تجمعهم، والفرنسيون يقاتلون بالمدافع والطيارات والقنابر الجهنمية، والمغاربة يقاتلون بالبنادق والسيوف والأسنة التي غنموها من عدوهم فقط. والفرنسيون يقاتلون ووراءهم دولة تمدهم بالعتاد وجميع ما يحتاجون إليه، والمغاربة ليس لهم مدد. والمغاربة يقاتلون وهم في أموالهم وأولادهم ليس لهم من يكفيهم مئونة النفقة عليهم وحمايتهم، والفرنسيون يجردون الكتائب والجيوش الجرارة. أما في هذه القضية فلم يكن ثم قتال أصلا، وإنما قام أهالي مكناس بمظاهرة كان فيها النساء والأطفال، ولم يكن عندهم سلاح، ولم يقصدوا قتالا ولا لهم أهبته. وكل ذلك يعرفه مكاتب “تايمس” ولكنه تعمد أن يكتب غير الذي يعرفه.
(ب) زعم الكاتب أن فرنسا قامت بواجبها في المغرب، وعملت عملا يذكر في الخمس والعشرين سنة التي حلت فيها هناك، وذكر تعبيد الطرق وبناء المستشفيات وإحداث المدن الجديدة والموانيء. وكان دليله على ذلك زيادة النفوس ولم يذكر دليلا غيره. فأما إحداث الموانيء فلبواخره الحربية والتجارية، وكلتاهما على المغرب لا له: البواخر الحربية تحمل لأهل البلاد الموت الزؤام، والبواخر التجارية تحمل للشعب الفقر والعدم والإفلاس، وتأخذ أموال المغرب وأقواته. والمدن لرفاهية الذئاب المستعمرين الذين طردهم الجوع من فرنسا فوجدوا في المغرب غنما بلا راع ومرتعا خصيبا. وأما المستشفيات فلمرضاهم، ولا ينتفع منها الأهالي إلا بشيء ضئيل جدا. وأما الطرق فلمواصلاتهم الحربية والتجارية. وكل ذلك من أموال المغرب ومن عرق جبين أبنائه. وأما زيادة النفوس فقد أجاب عنها الدكتور فؤاد حسنين علي لا فض فوه بجواب مسكت حين قرأ مقال التيمس، فقال: “إذا كان الفرنسيون يقدرون على زيادة النفوس فهلا فعلوا ذلك في بلادهم فإنهم دائما يشكون زيادة الوفيات على المواليد، وقد خابت الجهود التي بذلوها في سبيل زيادة النفوس في بلدهم، أم يقدرون على زيادة النفوس في مراكش ولا يقدرون على ذلك في بلادهم؟ هذا هو البهتان العريان. بل الفضل في زيادة النفوس راجع إلى دين الإسلام وشرائعه الحكيمة”، وهذا كما ترى جواب دافع.
(ح) قوله أن القبائل كانت دائما ثائرة على السلطان سالمة من الضرائب. نحن لا ننكر أن أهل مراکش ذوو بأس وشدة، وأنهم إذا لم يجدوا حكومة رشيدة توجه بأسهم إلى أعدائهم وقع بأسهم بينهم، وأن السلاطين قاسوا شدائد في ثورات القبائل، وكتب التاريخ مشحونة بذلك. إلا أنه وجد في الزمان الماضي سلاطين أبطال حكماء قدروا أن يحكموا المغرب والأندلس وإفريقية بغاية النظام والاتقان، كما أنه وجد سلاطین عظام ضبطوا المغرب وجبوا الخراج وأمنوا السبل ونشروا العلم وجاهدوا أعداءهم وأعزوا الدولة، وليس عهدهم ببعيد. ومن أراد البرهان فنظرة في تاريخ المغرب تكفيه ليستيقن ويقتنع. وكيفما كان الأمر فإن دولة مراكش لم تزل غنية، يدل على ذلك أنها كانت تمد الدولة العثمانية بالمال كلما وقعت هذه في حرب واحتاجت، وكانت تهدى إلى الحرمين الأموال الطائلة، وتهادي ملوك الشرق الهدايا المدهشة، ولم تفتقر قط إلى أي قرض تأخذه لا من الداخل ولا من الخارج. ولما ضعفت الدولة المغربية واحتالت عليها دول أوربا فأبطلت الأسطول المراكشي صارت الدول من حين إلى آخر تتجنى عليها وتغرمها الأموال. كان يقتل أو يموت سائح فرنسي أو إسباني أو إنكليزي فتطلب دولته أضعاف أضعاف ديته، وتهدد السلطان بالحرب، فيدفع ما طلب منه. ولهم في ذاك حيل خبيثة فانظرها في التاريخ. ومع ذلك لم تر الدولة المغربية والشعب المغربي الفقر إلا بعد ما رأت وجوه الفرنسيين المشائیم.
(د) وكيف لا يحملون ذئاب الاستعمار تبعة فقرهم وشقائهم وهم لم يروا قط المسغبة والموت جوعا بالآلاف إلا في عهدهم النحس، بل قصد الفرنسيون عمدا إلى إفقار الأهالي ولاسيما الفلاحين والقرويين، ومكروا في ذلك مكرا كبارا: فأولا سلطوا الحرب والقتال المستمر على الناس، وهدموا قراهم بقنابرهم، وقطعوا الأشجار، وصرفوا مياه السقي عن المزارع أولا إلى القضاء لئلا يزرع عليها المغاربة ويعيشوا ويتقووا على القتال والدفاع كما فعلوا ذلك في سجلماسة عام 1335هـ وفي غيرها، ثم بعدما ألقى الناس السلاح وعجزوا عن متابعة الدفاع أخذ المستعمرون مياه السقي والأراضي الخصيبة واستأثروا بها لأنفسهم وتركوا الفلاح المغربي يموت جوعا وأثقلوا كاهله بالضرائب، فباع كل ما يملك من عقار ومنقول ووضعه لهم وبقى معدما. ولم يكفهم ذلك حتى أخذوا جميع النقود والحلى ونهبوهما إلى بلادهم وطبعوا للمغاربة بدل ذلك أوراق بنوكهم الزائفة التي تلعب بها الرياح في الأسواق وتكاد تساوي أوراق السلال المهملة. وأبدلوا حتى أسم المملكة المغربية بأسماء سكتهم من فرنك بغيض وسانتیم ممقوت. وكانت السكة المغربية إلى عهد قريب دراهم شرعية وزنا واسما مكتوبة عليها أسماء أمراء المؤمنين ملوك المغرب فأذهبوها أذهبهم الله.
(هـ) يتأسف هذا الكاتب على ضعف الهيبة الأوربية في قلوب المغاربة، ويزيد هذا الذئب الذي يعيش في مراكش ويحارب أهلها، أن تكون الهيبة الأوربية في قلوب الأهالي دائما عظيمة ليعيث هو وإخوانه شذاذ أوربا وصعاليكها كما يشاءون، ويعبثوا بكرامة أهل الوطن الذي يعيشون ويعيثون فيه كما يريدون ولا بجرؤ أحد أن يتعرض لهم بسوء ولا أن ينبس ببنت شفة. ولا غرو فهي شنشنة نعرفها من أخزم. فهذا شأن ذئاب الاستعمار في كل زمان ومكان. إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار. بزعم جونبول مع اعترافه للمراكشيين بميلهم للعدل والإنصاف أنهم لا يضيعون الفرصة في الانتقام من خصمهم متى رأوا منه ضعفا. ولولا أن حب الجور والعدوان قد أعمى عينه لعلم أن المراكشيين في حال من الضر والهضم لا يتوقع منهم أن ينتقموا من عدو. وغاية ما أمكنهم هو الأنين وإظهار الألم والتوجع، ومع ذلك دفعوا لأجل أنينهم وبكائهم ثمنا غاليا أكثر من مائة نفس ما بين قتيل مضرج في دمائه وجریح قضى نحبه في وقت قصير. هذا غير مئات المعتقلين المعذبين، وإعلان الأحكام العسكرية، وإن كانت لا تختلف عن الأحكام المدنية اختلافا كثيرا، وكل ذلك لم يكف هذا الكاتب فأخذ يدعو بالويل والثبور خوفا على الهيبة الأوربية.
(و) ومن غباوة هذا الكاتب وتطفله على الشئون الوطنية مع جهله بها أنه زعم أن أهل مراكش وعددهم عشرة ملايين ليس في أيديهم إلا نحو 4000 آلة راديو. سمعت في الشهر الماضي أن عدد آلات الراديو التي عند أهالى الجزائر بلغ 15 ألفا، هذا وعدد أهل الجزائر ستة ملايين فقط. فهذا مبلغ علم هذا الأجنبي الفضولي بأهل البلاد التي يعيش فيها. وذات شأن سائر الأوربيين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية فإنهم لا يكلفون أنفسهم عناء معرفة لغة البلاد ولا عاداتها، ومع ذلك يأبون إلا أن يتحدثوا بأخبارها رجما بالغيب. والبريطانيون خاصة أبعد الناس عن تعلم اللغات الأجنبية عنهم حتى ولو كانت أوربية وكل الأوربيين يعيبون عليهم ذلك ويشنعون عليهم بالإغراق والغلو في التيه والعجب، وأنهم يزعمون أنهم شعب الله المختار في هذا الزمان، كما زعم ذلك اليهود في الزمان الحالي. فيريدون من الناس أن يتعلموا لغتهم ويرون ذلك واجبا عليهم، أما هم فإنهم أرفع من أن يتنازلوا إلى تعلم لغات غيرهم. إذن فلا غرابة إذا رأينا هذا الجونبول يخبط في أخبار مراکش خبط عشواء في ليلة ظلماء.
أهل مراکش عرب مسلمون
لو راجت الشيوعية في جميع الآفاق لما وجدت لها محلا ولا أذنا صاغية في مراكش، لأن أهل مراكش أشد الناس تمسكا بدينهم لا يجيدون عنه شعرة، وقد زادهم الفرنسيون حاسمة وتمسكا بدينهم منذ عزموا على تنصير مراكش.
(ز) هذا اعتراف صريح منه بأن أمل مراکش مستعبدون. ومع ذلك يلومهم على تألمهم من العبودية وسعيهم لتخفيفها إذا لم يمكن رفعها وإزالتها. هذه كلمة قصيرة لم يسعني تركها وقد ترکت مواضع كثيرة تحتاج إلى الشرح الدعاية المراكشية. يلعوا الاسلام والعرب! تعلو المملكة المراكشية! يسقط العادون!
بن (جرمانية) 6 شعبان 1356 هـ
تقي الدين الهلالي