مدينة الموصل قديمة جدا وهي بلد نبي الله يونس عليه السلام وأهلها هم مائة ألف أو يزيدون، ذلك عدد أهل نينوى بما يليهم من الضواحي في ذلك الزمان. أما الآن فالمدينة وحدها يناهز عدد سكانها مائة ألف، ولها قرى ورساتيق كثير عدد أهلها.. تقع في الشمال الغربي من بغداد على مسافة تزيد على 200 میل تقطعها السيارة في 9 إلى 11 ساعة. وهي في الشاطئ الغربي من نهر دجلة، وأطلال مدينة نينوى وسورها الذي لا يزال شاخصا واقعان في الشاطئ الآخر. وفيها اكتشفت الآثار الثمينة منذ نحو سنة: منها الثور المجنح. وبقرب نينوی قرية فيها مسجد على قبر يقال أنه قبر يونس، وبه تسمى القرية، ولا يصح ذلك عند التحقيق.
(أهل الموصل)
سكان الموصل أكثرهم مسلمون، وفيهم النصارى على اختلاف مذاهبهم، وقليل من اليهود، وأكثر النيارين المُسَمّین بالاثوريين يسكنون هناك في قرى خاصة بهم حول المدينة. وأهل هذه البلدة يمتازون عن سائر أهل العراق في كل شي: في ألوانهم فهم بیض شديدو الحمرة لبرودة أرضهم، هينون لينون إلا إذا مس دينهم أو شرفهم فإنهم حينئذ ينقلبون غلاظا شدادا ولا ينامون على ضيم أبدا. الكرم والبشاشة والمؤانسة سجية فيهم لا يتكلفونها، غُيَارى على دينهم وشرفهم، سِراعُ الاستجابة إذا دعوا إلى الخير، شحيحون بدينهم إذا باع السِفْلَة دينهم بثمن بخس أو أعطوه مجانا. ألسنتهم نظيفة طاهرة من السب والبذاءة المتفشية في أنحاء العراق وغيرها من البلدان.
(نموذج من تمسكهم بالدين)
رأيت الجماعة تقام في بعض البساتين العمومية في بلاد الهند، ولم أر ذلك في غير الهند إلا في الموصل، فإن دهشتي كانت عظيمة حين كنت جالسا مع جماعة من العلماء والفضلاء في قهوة تسمی قهوة يحيى في جادّة حلب فما راعني إلا صوت المؤذن ينادي في حديقة القهوة: الله أكبر، الله أكبر. فلم يتم أذانه حتى قام أهل القهوة يؤمون مكانا محاطا بسياج ومفروشا بالحصر فغصَّ المكان حتى لم يبق فيه موضع قدم، ورجع بعض الناس إذ لم يجدوا مكانا يصلون فيه، فصلى بهم إمام راتب، ثم رجعوا إلى مجالسهم وهم جماعات بعضهم يتحدث في العلم والأدب وبعضهم في التجارة، فلا صخب ولا قمار ولا ضوضاء ولا جلبة. فقل لي بالله أين تجد أمثال هذه الأخلاق الكريمة.
(العفاف وخفاء المنكرات)
يتجول السائح في مدينة الموصل الواسعة الشوارع فلا يرى امرأة متبرّجة -لا مسلمة ولا نصرانية- ولا يُرى سكران معربدا ولا يسمع سب الله تعالى أبدا. أما هنا ببغداد فيسمع سب الله ودينه في كل وقت. وأما لعن الناس بعضهم بعضا وقذفهم فهو عامٌّ والعياذ بالله، إلا في الموصل، حتی الحوذيين الذين هم أخبث الناس ألسنة ما سمعت منهم شیئا مدة سبعة أيام، وكنت أركب في كل يوم مرارا.
(عروبتهم)
أهل الموصل من أشد الناس غيرة على العروبة: يبذلون في سبيلها كل مرتخص وغال، وهي تأتي بعد دين الإسلام الذي هو العلق النفيس لديهم، وتكاد السجايا العربية من كرم وفصاحة لسان وشجاعة ونجدة وحياء ومروءة تُلمس فيهم لمسا. وكلامهم خال من رديء النطق المتفشي في العراق کإبدال الكاف بين الشين والتاء وإبدال القاف بين الدال والجيم وكثرة المفردات الهندية والفارسية، لسانهم بريء من جميع ما ذكر، إلا أن فيهم أن فيهم لثغة في الراء فإنهم ينطقون بها كالغين، كأهل فاس بالمغرب، فسبحان من جمع بين هاتين المدينتين في هذه اللثغة مع البون البعيد الذي بنيهما.
(علماؤها)
لعلماء الموصل کذلك امتیاز ظاهر، فإني رأيتهم يدرسون علوم الدين وآداب اللغة العربية بجد واجتهاد يعز نظيرهما في البلدان الأخرى. والطلبة هناك أكثرهم لا ينالون شيئا من المساعدة: لا من الأوقاف الكثيرة التي يتنعم بها المترفون معصية لله وعدوانا على الأموات الواقفين وعلى الأحياء المستحقين وعلى الدين والعلم بتعویق طلابهما، ولا من الأهالى. وعلى ذلك رأيتهم مكبين على التعلم بلهفة وشوق ذکراني ما كان عليه التعليم قبل عشرين سنة. وقد زرت وزارني جماعة من هؤلاء العلماء الكرام، لا أذكر هنا اسم أحد منهم لئلا يكون في ذلك تعريض بمن لم أحظ بمعرفته منهم.
(السلفية)
قام أحد العلماء الأعلام بارك الله في حياته بدعوة الناس إلى السلفية ونبذ ما أحدثه المحدثون، ولقي في ذلك أذى كثيرا، فأثمرت دعوته تطهير أفكار الناس عامة، وجماعة خاصة، رسخت أقدامهم في اتباع السنة.
(جمعية الشبان المسلمين)
لجمعية الشبان المسلمين هناك دار حسنة في شارع نِینَوی، وهو أكبر شارع في المدينة، وقد أقبل الناس على الدخول في الجمعية إقبالا عظيما في الآونة الأخيرة بحكمة كاتم سر الجمعية الأستاذ بشير الصقال وحسن دعايته، ولا يزالون يتهافتون على الانخراط في سلكها، ومستقبلها إن شاء الله سيكون حسنا لمتانة دين أهل هذا البلد. فإن المنتمين إلى الجمعية ليس فيهم من ينتمي إليها للعب الشطرنج والتنس وتمضية الوقت في المسليات ويسمع الأذان والإقامة وهو على لعبه لا يحرك ساكنا كما في بعض الجمعيات هدانا الله وإياهم سواء السبيل.
(إقبالهم على صحيفة الفتح)
للناس هنا إقبال على صحيفة الفتح، ولكن الجمهور إلى الآن لا يعرفونها كما هي الحال في جميع البلدان، لأن الناس تبعٌ للعلماء وقليل من العلماء من يقرؤها لعدم اطلاعهم على مقدار الفائدة والخدمة التي تؤديها إلى الإسلام والدرس النافع الذي تلقنه لأبنائه.
(الدعاية للفتح)
لقيت في يوم سفري رجلا اسمه أحمد أفندي سعيد الخياط وبمجرد دخول محله جاء أصحابه بأعداد من الفتح ووزعوها على الزائرين قبل أن يجيء هو. فلما جاء رحب بنا واعتذر عن عدم الإتيان إليَّ بأنه كان مسافرا في ناحية ارْبل، وأخبرني بانه أوجد عشرة من المشتركين في تلك الناحية النائية العجمية وأنه مشترك في عشرة أعداد من قبل وسيبعث إلى الإدارة في طلب عشر نسخ للمشتركين الجدد، وهذا الرجل من السلفيين. وهو آية من آيات الله في بذل ماله في سبيل الله، على ما حدثني به بعض الإخوان (1) وقد بالغ في الإلحاح عليَّ أن يقدم لي مساعدة مالية إن كنت في حاجة إليها وناشدني الله فشكرته وأكدتُ له أني غير محتاج إلی شيء.
(شیخ اليزيدية)
من دواعي الأسف أنني لا أستطيع أن أقص على حضرات القراء شيئا كثيرا من أحوال هذه الطائفة العجيبة التي تثير الدهشة والشفقة في أنفس القراء، وذلك أنني اجتمعت بهذا الشيخ في قهوة يحيی مصادفة، وكان الوقت قصيرا، فذكر لي شيئا من دینهم ووعدني بمجلس خاص يملي علي فيه أخبارهم فلم يتيسر ذلك لأني حين ذهبت إلى محله وجدته سافر إلى قريته.
(اليزيدية كما يصفها الشيخ)
أصلهم من العرب من بني أمية وكانوا على طريقة الشيخ عدي ابن مسافر إلى زمان ابن تيمية كما رأيت في رسالته التي بعث بها إليهم يعظهم وينهاهم عن البدع لكنهم لم ينتهوا(2) واتفق أنه تولى
المشيخة جاهل بعد جاهل فأضلوهم حتى وصلت الحالة إلى ما هم عليه اليوم. قال والانكليز يريدون أن ينصرونا ولكني أنا لا أريد ذاك بل أفضل أن نرجع إلى الإسلام لأننا عرب ولأننا كنا من قبلُ مسلمين(3).
(أسئلة وأجوبتها)
– ما هو معتقدكم في القرآن؟
– لا نعادي القرآن بل نقرؤه، ولكننا لا نلتزم ما فيها من الأحكام.
– ما هي عقيدتكم في الأنبياء؟
– نعتقد أن لله أنبياء منهم المذكورون في القرآن، ولكن النبي الخاص المرسل إلينا هو یزید بن معاوية وهو أفضل النبيين.
– ما هي عقيدتكم في الشيطان، ولماذا تسمون عبدة له؟
– إن قومنا لا يستطيعون أن يسمعوا أحدا يسمي الطاووس المقدس بهذا الإسم الذي سمیته به. أما أنا فلست ضيق البال مثلهم.
نعتقد أن الطاووس هو إله الشر وأن عبادته واجبة اتقاء لشره.
– كيف تعبدونه؟
– عندنا معابد فيها أصنام على صورة طاووس نجتمع حولها ونقرأ القصائد التي هي كتابنا المقدس ونعمل حفلات دينية. ولطاووس أوقاف كثيرة تنفق واردتها على المعابد والحفلات.
– ما هي القصائد المقدسة؟
– هي قصائد باللغة الكردية يحفظها القوَّالون غيبا في صدورهم ويقرؤونها في الحفلات الدينية وأترجم لك بعضها في مجلس خاص.
– أأنت رئيسهم؟
– لا ولكني شيخهم والرئيس هو المير (يعني الأمير).
– ما هي وظيفتك؟
– وظيفتي القراءة والكتابة والمحافظة على الكتب التي فيها تاريخ الطائفة.
– أولا يوجد من يقرأ ويكتب سواك؟
– لا. يحرم في ديننا القراءة والكتابة على جميع الناس حتی الأمير إلا الشيخ وحده، وهو يعلم أكبر أولاده ليخلفه من بعده، وهكذا دواليك.
– وما هي وظيفة الأمير؟
– الأمير يحكم في أهل الطائفة حكما مطلقا في رقابهم وأموالهم وأعراضهم من قديم الزمان إلى الآن لا تتدخل الحكومة في شؤوننا الداخلية.
– في وظيفة القوال؟
– وظيفته مثل الإمام عندكم يقرأ القصائد ويؤم أهل الحفل في الترنمات في الصلاة.
– كم عدد نفوس طائفتكم.
– هنا العراق ثلاثون ألفا وفي الشام في ناحية (… أظنه قال حران) جماعة. ونحن نظن أن أخواننا موجودون في أرجاء أخرى من الدنيا.
– كيف الصدق والوفاء عندكم؟
– اسأل الجماعة عن صدقنا ووفائنا وإكرام الضيف والجار (فشهد له الحاضرون من أهل الموصل بصدق ما ذكر) ثم قال: وعندنا فضيلة قل أن تجدها في طائفة وهي عدم البذاءة والسب، فنحن لا نسب أي طائفة أخرى، ونكرم كل من نزل بها ولا نغدر.
قلت: ولم تعبدون شيطانا رجيما ملعونا مطرودا؟
فقال: أنتم تقولون ذلك وليس بصحيح، فإنكم زعمتم أنه دخل الجنة وأغوى آدم، والجنة عندكم هي مقعد صدق عند مليك مقتدر وهي أشرف مقام ولا يدخلها إلا من رضي الله عنه، فكيف تمكن المطرود الرجيم بزعمكم من دخولها؟
قلت: الجواب سهل وواضح، لا بد أنك قرأت في القرآن ما قال إبليس حين لعنه الله (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقال في موضع آخر (قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) وقال في موضع آخر (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) وبمقتضى هذه الآيات أن الله أقر الشيطان على ما أراد وطلب من الإغواء وأذن له في ذلك، ولكنه أعطى عباده سلاحا يتَّقونه وهو التوكل عليه والاعتصام به، فلو أن الله منع إبليس من دخول الجنة لكان مخلفا لوعده له ولآدم، لأنه وعد إبليس أن لا يمنعه من أداء وظيفته ووعد آدم أن يحفظه من عدوه ما دام متوكلا عليه، فإن غفل ووقع في المعصية بإغواء إبليس ثم تاب إلى الله والتجا إليه قبل توبه وغفر حَوْبَه. وقد جاء في الحديث “إذا ثوب بالصلاة أدبر الشيطان فإذا انتهى التثويب (الإقامة) أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول أذكر كذا وكذا” أو كما قال. فالمسجد بیت الله ومع ذلك لم يمنعه منه بل ترکه يؤدي وظیفته کما وعده.
فسكت شيخ اليزيدية. ولم يقل شيئا.
فقلت له: هل وقفت على الجزء الذي ألفه أحمد تيمور باشا رحمه الله في عقائدكم.
فقال: نعم قرأته فوجدت فيه أخطاء وأغلاطا وسأرد عليه فقلت أَمل علمى وأنا أنشر لك ما تريد من الرد.
فتواعدنا على ذلك. فسبحان الله العظيم ماذا في الدنيا من طوائف وملل. وكم فيها من شيع وأحزاب کل حزب بما لديهم فرحون ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين.
بغداد 3 جمادى الآخرة 1353هـ /13 سبتمبر 1934م
محمد تقي الدين الهلالي
—————–
(1) الفتح: إن السيد أحمد سعيد الخياط هو مثال المسلم الصادق في إسلامه، الباذل في سبيل إيقاظ أمته، وقد ناله أذى عظيم على غضبه للفضيلة ومقاومته لوحش وغد من العابثين بها. وقد عرفناه من سنين يبحث عمن يرى فيهم قابلية الخير فيرشدهم إلى قراء الفتح، وكثيرا ما اشترك من ماله في أعدادها وأهداها لبعض الأفاضل لسنة أو لسنين بارك الله فيه وأحسن جزاءه.
(2) الفتح – أجود ما كتب في أصل هذه النحلة وما كان عليه عدي بن مسافر رحمة الله وما صار إليه أتباعه بعده من ضلال ليس بعده ضلال تجده في رسالة (اليزيدية) للعلامة أحمد تيمور باشا وقد طبعت في مطبعتنا مرة في حياته ومرة بعد وفاته.
(3) الفتح – تبين من هذا الكلام ومن الحديث الآن أن شيخهم الحالي أعقل وأفضل رؤسائهم، وإنها لفرصة لو كان في رجالنا من يحسن انتهازها ببيان حقيقية العلامة الجليل سيدنا عدي بن مسافر وما كان عليه من الصلاح والتمسك بأحكام القرآن والسنة وكيف تطورت طريقته بعده حتى خرجت من التصوف والزهد إلى شر أنواع الكفر والسخف والجهل.
مجلة الفتح: العدد 414 السنة 9 – 18 جمادى الآخرة 1353 / 28 سبتمبر 1934م- ص:8-11.