منذ أخذ هذا الشرق الأدنى في الانحطاط والهويِّ في هذه الهوة التي لا يعلم قعرها إلا الله، طفق ظل المخلصين يتقلص، وتنكرت لهم البلاد ومن عليها، وشرع نجم سعدهم في الأفول، وزَهْرُ جِدهم في الذبول، ونكرتهم العامة وتبرَّمت بهم وأقبلت على المنافقين الخائنين الذين قام حظهم بعد الرقاد، وراجت بضاعتهم بعد الكساد، وصاروا يعدون مُصْلِحين وهم أهل الفساد، ونصبوا حبائل الغدر والكيد للمخلصين، ورموهم بدائهم وانسلوا وعرفوا كيف يستغلون جهالة العامة ويحولون بينهم وبين الزعماء الراشدين الأبرار. فعصت العامة أمر مرشدها وأطاعت أمر غاويها.
وَكُلُّ قَوْمٍ أطاعُوا أمْرَ مُرْشِدِهِمْ ** إلّا (فعيلا)(1) أطاعَتْ أمْرَ غاوِيها
وهذه سنة الله في كل أمة جنحت شمسها للغروب، واستهدف أبناؤها لسهام الخطوب، تتولى أكل حيسها جنادبها بل ثعالبها، ويتولى كرائهها أُولُو بقِيَّتِها الفادين لها بالأنفس والنفائس. ومن يومئذ صار الأمر بيد الخونة فمثلوا أدوارا مخزية محزنة تُقَطِّع ذكراها الأكباد وتذيب القلوب. وكلما مثلوا دورا من تلك الأدوار غمرهم الحمد والثناء، وانهالت عليهم قصائد المدح ونثرت عليهم أزهار الإطراء من قبل الدهماء المغبونين الجاهلين. واشتد البلاء على الأمناء الحافظين للحمى الأوفياء بالعهود، وما زالت البلاد تسفل من دركة إلى مثلها حتى انتهى الأمر إلى استيلاء الغربيين ووجدوا من أولئك الخونة المتزعمين أولياء وأنصارا، ومطايا مسخرة ذُلُلاً، وضاق الخناق على ذوي النفوس الطاهرة، وقتلوا تقتيلا ولقوا صنوف العذاب.
و نظرة عجلى في تاريخ هذا الشرق من بغداد إلى شنقيط آخر الأراضي المغربية في تخوم السودان في القرون الآخرة، تعطيك من الجزئيات والأمثال أكثر مما تريد. فلله تلك النفوس الأبية الزكية التي تستعذب العذاب وترحب بالشقاء وترضى بكل شيء إلا الغدر والخيانة ونقض عهود الله التي عليها لأممها وأوطانها. ومن أمثالهم “تموت الحرة جوعا ولا تأكل بثديها”.
ولكن ما يعقلها إلا العالمون. ولله هذه الأمة المسكينة التي تحالف غواتها مع الزمان عليها، وسددوا سهام مكرهم إلى نحرها، فكانوا كما قال المتنبي:
عَلَيكَ إذا هُزِلْتَ معَ اللّيالي ** وحَوْلك حينَ تَسمنُ في هراشِ
ويالله للمجاهدين في سبيل الحق العُزَّل إلا من سيوف الإيمان المسلوبين كل شيء إلا الهمم العالية المخذولين إلا من نصر الله وكفى بالله نصيرا، والمستوحشين من كل شيء إلا من أعمالهم الباقيات الصالحات.
الأمير شكيب والحملة الأخيرة
لا أعرف رجلا منذ قرون كان رحمة على أمته وكانت أمته عذابا عليه مثل شكيب أرسلان. ولا أعرف عربيا الآن على وجه الأرض يحب أمته الإسلامية والعربية ويعمل لخيرها ويقف كل ما أوتيه من قوة في الدفاع عنها، ويتحمل كل أذى في سبيل إصلاحها، ولا ينتقم قط لنفسه من أي مؤذ منها بل يلاقي لسعات عقاربها بالصبر الجميل مثل شكيب أرسلان. وكل صفة أو مزية قرأتها أو سمعتها لزعيم من زعماء الأمم أراها في شكيب أرسلان على وجه أكمل وأفضل من ذلك الزعيم، وله مزایا ومناقب لم أرها ولم أسمع بها في غيره. ومن يظن أن موسوليني وهتلر وروزفلت وأمثالهم قد بذلوا من أنفسهم لأممهم مثل ما بذل شكيب لأمته فقد أبعد في الخطأ ولم يعرف الرجل. ولم أتعجب من شيء ما تعجبت من معاملة شكيب لأمته ومعاملة أمته له: لقد أتى شكيب أمته في زمان هرمها فأحسن إليها وأساءت إليه، وعمل لسرورها وعملت لحزنه، وتقرب إليها فتباعدت منه، وعرفها فأنكرته، ونصرها وخذلته. هذا ولم يبذل لها جهد المقل ولا ساعدها مساعدة الضعيف ولا ودها تأييد العاجز ولا صادقها صداق الجاهل، لأن الله أوفر حظه في كل شيء وآتاه من العلم والأخلاق الكريمة ما لم يؤت أحدا من العالمين في زمانه (فيما أعلم)، ولم يدخر من ذلك شيئا إلا بذله في دفع الشر عن أمته وجلب الخير لها وقد راعني من أخلاقه أن محبته وإحسانه وتفانيه الشديد في تأييد قومه بالحق، على قسطاس مستقيم، يستوي فيه القريب والبعيد، والقوي والضعيف، والأمير والمأمور، حتى إنك إذا رأيت عطفه على جماعة أو فرد تظن أن تلك الجماعة هي عشيرته الأقربين وذلك الفرد هو ابنه أو أخاه، ثم لا تلبث أن تراه يعامل جمعية أخرى وفردا آخر تلك المعاملة نفسها. فالمحاباة والتخصيص منتفيان عنده أصلا.
وقد قرأت كثيرا مما كتبه من زمان طويل فوجدت ذلك مطرداً لا يختلف في أي موقف من مواقفه. وهذا في أمتنا اليوم معدوم. ولم أر مثله إلا في شيخنا محمد سيدي بن حبيب الله التندغي الشنقيطي رحمه الله. وخلة أخرى وهي الأناة والحلم فهو في ذلك آية من آيات الله. فاقرأ ما كتبه من أول عهده الكتابة، فإنك تجد له خصوما كثيراً في الداخل والخارج ونجده محاربا وقت الحرب ومسالما وقت السلم، ولكنك لا تقدر أن تجد لفظاً بذيئاً صدر منه لعدو من أعدائه فكيف بغيرهم، قد طهر الله لسانه وقلمه من ذلك، ولو أن الأمة مستعدة للخلاص والرقي التام لانْفَسَحَ له المجال، ولرأيت من أعماله خوارق وكرامات عظيمة تحيِّر العقول.
ومن خلاله أنه يعادي أعداءه هونا ما ـ يعني باعتدال- فكأنه لا يغيب عنه الأثر القائل “أبغض عدوك هونا ما عسى أن يكون صديقك يوما ما”. هذه كلمة مجملة جداً أضعها بين يدي إخواني الأفاضل الذين تستحق تلفيقاتي عندهم تضييع الوقت في قراءتها، ثم أثني عنان القلم إلى لمحة في الحملة الأخيرة التي أثار غبارها بعض الناس في مصر.
ما رأيت في الشرق مثل أهل مصر في كرم الأخلاق وحسن المعاشرة ولين الجانب والإحسان في القول والعمل إلى مزايا كثيرة جعلتهم عندي في منزلة عالية وجعلتني أثنى عليهم أينما حللت وأعطر المجالس بذكر أخبارهم. ويعلم الله ثم كل من يجالسنى ويخالطني أن هذا هو الواقع بلا تصنع ولا تسميع. وعلى هذا فإنه يستغرب أن تصدر تلك الحملة غير الموفقة من مصر بأقلام كتاب مصريين، ويستنتج مما ذكرنا أن المصريين هم أولى الناس بمعرفة فضل الأمير شكيب وأبعد الناس عن جحود شمس علاء فكيف ببهته والهجوم عليه ظلما وعدوانا من غير ذنب أذنبه إليهم ولا جريرة جرها عليهم، وجوابا عن ذلك أقول: إن مصر هي عروس الشرق الأدنى – وإن كانت من الغرب أفريقية – وهي واسطة العقد وفيها يجتمع الشرق والغرب وفيها النيل المبارك الفائض ذهبا وفيها كنوز ملوك مصر القدماء العظام بناة المكارم والأهرام، وفيها فوق ذلك اللطف المصري والشمائل المسكية المصرية. فجمالها الفتان جلب عليها كثيرا من الشقاء والمحن، وجذب لها أشائب من جميع الأمم وأغرى بها جبابرة الغرب فاتخذوها – طهرها الله منهم – ميدانا لدسائسهم وألاعيبهم البهلوانية.
والأمير شكيب أرسلان هو أكبر عدو للغاصبين الفاتحين الفاتنين المستعبِدين، وأكبر صديق للمظلومين المهضومين فلا غرو أن يرتقب أولئك الأجانب الفرص ويتربصوا الدوائر ويثيروا الثورات ويحاربوا ذلك المجاهد بكل قلم ولسان ويحتالوا على الكتاب بشتى الحيل ولا يعدموا أقلاما في مصر وألسنا تؤازرهم عمدا أو خطأ وتعاضدهم دَرَت أم لم تدْرِ في محاربة ذاك الرجل الوحيد الفذ.
تجمعتم من كل صوب وجانب ** على واحد لا زلتم قرن واحد
ولكن الحق أبلج والباطل لجلج، (والباطل جولة ثم يضمحل) وقد انكشفت الوقعة عن قتلى وجرحى -معنى- ولكن الأمير شكيبا ليس فيهم فقد خرج كما دخل سالما ناصع الشرف وضاح الجبين نقي العرض، ولم يعدم الحق أنصارا ولاقت تلك الريح إعصارا، وإن وقع بعض التقصير من جانب كتاب مصر بالنسبة إلى علو قدرهم فنعتذر لهم ما تقدم من كون الأمور تجري على خلاف ما يحبون. وحسب الأمير أن أعداءه جمیعا – أعداءه الذين يثيرون تلك العواصف عليه أنفسهم – يجلونه ولا يمترون في إخلاصه لقومه وشجاعته العديمة النظير. ولقد علمت إجلال ألد أعدائه الأوربيين له من وجه خاص – بإسناد صحیح – لا يمكن ذكره هنا. فعفا الله عن عائبي الأمير وأخلف عليهم إذ ما عابوا إلا أنفسهم.
فإن يخلق له الأعداء عيبا ** فقول العائبين هو المَعِيب أرى العنقاء تكبر أن تصادا ** فعاند من تطيق له عنادا
وتعال نصرِّح فنقول هب أن الأمير شكيبا هادن الإيطاليين المهادنة إلا بعد محاربة؟ أو حاربهم أحد في الشرق مثله؟ أليس عارا على بعض الناس أن يناموا نومة عبُّود ما دام شكيب يحارب أعداء الأمة، حتى إذا برق بارق هدنة استيقظوا وأخذوا يزمجرون ويتهمون ويتوعدون؟ أيحق لمن لم يشارك في الحرب أن يتكلم في المهادنة؟ فرضنا أن الأمير شكيبا أعلن المسالمة التامة ونفض يده جملة من الحرب العوان التي خاض غمارها دونهم، ألا ينبغي لنا أن نشكره على ما فعل ولا نلومه على ملله وتقاعده بعد عمل مجید دام أمدا طويلا. وكم طلعت علينا صحفكم تسبح بحمد الزعيم فلان لأنه اعتزل السياسة جانبا وانبرى إلى أشغاله الخاصة أو إلى خدمة العلم أو الأدب: فما بالها اليوم تلصق بالأمير هذا الوصف إلصاقا ثم تذمه عليه، أتحلونه عاما وتحرمونه عاما، أليس هذا أخا التناقض أو أباه؟ ولكن ما لنا وللمناقشة وقد وضعت الحرب أوزارها وعريت أفراس الوغى ورواحله؟ إذا كان الأمير حقا يجنح إلى السلم فهلا سالم من أخرجوه من وطنه وحرَّموه عليه وأبوا أن يرخصوا له في دخوله ماراً (ترانسیت) يوما واحدا ينظر فيه وجه والدته بعد فراقها حقبة؟ لو جنح الأمير إلى السلام لما احتاج في المرور بفلسطين إلى شفاعة ملكين عند ملك ثالث وشروط خانقة للإقامة بفلسطين أسبوعاً واحداً. ولو كان الأمير يريد إلقاء السلاح ما راقبه الحرس الانكليزي في مروره بمصر تلك المراقبة التي ما يعاملون بها إلا سعد زغلول باشا في عنفوان ثورته. ولو مال الأمير شكيب إلى السلم لرخص له أن يقيم بمصر بلا حارس ولا رقيب طول العمر. ولو مال الأمير شكيب إلى السلم لخشعت أصوات المهاجمين وانكسرت أقلامهم أو انقلبت تصوغ آیات الثناء وتنظم عقود الحمد، وههنا سؤال: لم حرم على الأمير أن يزور إخوانه وأبناء ملته بمراكش وكان منهم قاب قوسين؟ أيتوقع ذلك الكاتب المهاجم أن يُمنع هو من دخول أية مستعمرة انكليزية كانت أم فرنسية أم ايطالية لو أراد دخولها؟ أيوجد عندنا في الشرق کله زعيم تضایقه دول الاستعمار كما تضايق الأمير شكيبا؟ أيمكن أن نقول أن تلك المضايقة عبث أو مداعبة مع حضرته؟ فليعد الممترون للمسألة جوابا. أهذا جزاء هذا الرجل الفذ الذي جاء في غير زمانه؟ لقد جازيناه إذاً جزاء سنمار.
إني أشكر إخواني المغاربة القاطنين في مصر على براءتهم مما فعل المهاجمون لجناب الأمير. ولم يتكلموا ـ علم الله ـ إلا بلسان كل مغربي عربيا كان أو بربريا. وأعيذهم بالله أن يكونوا للإحسان من الكافرين وللأبطال من الجاحدين.
أقلوا عليه لا أبا لأبيكم ** من اللوم أوسدوا المكان الذي سدَّا
ففي مثل هذه الحال (قطع جد حظه من المبناة) وكذلك يفعل كل مسلم وكل عربي كريم.
هذا وجدّكم الصَّغَارُ بعينه ** لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
حسبكم أيها القوم أن تغتنموا الفرصة وتستضيئوا بأنوار أفكار شكيب. حسبكم أن تقتبسوا من مشكاة علمه النافع وأخلاقه المعجزة وأدبه الخالد. لقد سطر التاريخ العالمي لشكيب ما لم يسطر مثله لعربي منذ دهر طويل
وَفي تَعَبٍ مَن يحسُدُ الشمسَ نورَها ** وَيَجْهَدُ أنْ يأتي لهَا بضَرِيبِ
إن شكيبا أخ بَرٌّ ووالد رحيم رؤوف عزيز عليه عنتكم واقف نفسه لخدمتكم – وسيد القوم خادمهم – يحنو عليكم حنو المرضعات على الفطيم. فأخلصوا له الحب واستقبلوه بقلوب طاهرة مفعمة إخلاصا فهو أزكى لكم. إن شكيبا يدرأ السيئة بالحسنة وهو صديق لا يقدر أحد منكم أن يحوله عدواً بمقالة أو بألف مقالة فلا تحاولوا المحال. فولوا وجوهكم شطره وأطيعوا أمره لعلكم تفلحون. فإن قبلتم نصيحتي فزتم وإن عصيتموني فإني بريء مما تعملون. وسيعلم كل من لم يعلم ولو بعد حين أن كل من يناوئ هذا البطل العظيم يقطع يده وأيدي أمته بيده ويجدع مارنه بكفه
سَتَقطَعُ في الدُنيا إِذا ما قَطَعتَني ** يَمينكَ فَاِنظُر أَيَّ كَفٍّ تَبَدَّلُ
وما مثل الأمير شكيب وهؤلاء المشاغبين إلا كما قال الحمامي:
وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي** وبَيْنَ بَنِي عَمّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا
أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُمُ ** دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا
وَإِنْ زَجَرُوا طَيْرًا بِنَحْسٍ تَمُرُّ بِي ** زَجَرْتُ لَهُمْ طَيْرًا تَمُرُّ بِهِمْ سَعْدَا
وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ ** وَلَيْسَ زَعيمُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا
البصرة
محمد تقي الدين الهلالي
مجلة الفتح: العدد 437 السنة 9 – 9 ذي الحجة 1353 – ص:17-19.
——-
(1) نُمَيْرًا (إدارة الموقع)