يحاول بعض الناس – حسبما يبلغنا عنهم- أن يخلطوا من الوطنية والسلفية، إما جهلا أو تجاهلا؛ فلذلك أردنا أن نبسط القول في بيانهما بسطا لا ينبغي فيه لبس؛ {لیَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَیِّنَة وَیَحۡیَىٰ مَنۡ حَیَّ عَنۢ بَیِّنَة} [الأنفال: 42].
فالوطنية معناها: مراعاة حقوق المواطنين وبذل النفس والنفائس في إسعادهم أو تخفیف شقائهم؛ ومن لازِم ذلك: عدم غدرهم وخيانتهم، ولا يشترط فيها شيء أكثر من هذا؛ فأنت ترى أنها لا تختص بالمسلمين، ولا بأهل دين دون آخر؛ فقد يتصف بها الكافر والمؤمن، ولذلك نرى غير المسلمين من النصارى والوثنيين من اليابانيين والصينيين والهنود متمسكين بالوطنية، قد ضربوا فيها الأمثال، وعملوا في ميدانها أعمالا باهرة.
ومن جملة الأمم التي أبلت فيها البلاء الحسن، ولم تترك مقالا لقائل: الأمة الأسبانية، وصبرها وجِلادها وجهادها في حروبها الخارجية والأهلية مسطورة مشهورة.
ومَن لم یكن وطنيا على ما شرحنا؛ فهو إما شيوعي أو خائن لوطنه وقومه، ولا ثالث لهما.
والوطنية عند غير المسلمين من الأمم فضيلة من أعظم المسائل، لا خلاف في ذلك عند علماء الأخلاق وفلاسفتها من الشرقيين والغربيين والأولين والآخرين، وشدة تضييع حقوق المواطنين وغدرهم وخيانتهم وتلك جريمة بإجماعهم؛ بل هو أعظم جرم وأكبر خزي، وقد أجمعت قوانين الأمم المتمدنة على استقباح ذلك، ووجوب عقاب صاحبه بما يردعه، ويكف أذاه من حبس ونفي وقتل، وهذا من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، وهي معلومة بالضرورة.
أما في الإسلام؛ ففي ذلك تفصيل لا بد من بسطه:
وذلك أن الوطنية إما أن يكون المراد بها مراعاة حقوق المواطنين، والإخلاص لهم، وعدم غدرهم، وعدم مظاهرة أعدائهم عليهم، وذلك واجب شرعا وطبعا.
وقد اتصف به أسلافنا، وبلغوا فيه الدرجة القصوى، فحين كان المسلمون دولة واحدة في زمان النبي، ودولة الخلفاء الراشدين، ودولة بني أمية، وأوائل دولة بني العباس؛ كان الوطن هو حوزة المسلمين، وكان المسلمون -كما أمرهم الله ورسوله- إخوانا نصراء، يدا على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، يدافعون جميعا عن الوطن الأكبر الذي تصان فيه حقوق المسلم أيا كان، فكان المغربي يسافر إلى خراسان؛ فيجد شريعة واحدة، ودولة واحدة، وإخوانًا أنصارا، وكذلك الخراساني إذا جاء إلى المغرب.
وكان الذي يتعصب لجزء من الوطن بعينه، ولأهل بلد من البلدان؛ يعد خارجيا مارقا، وشعوبيا هالكا، ولجماعة المسلمين مفارقا، وعن طاعة إمامهم -وهو الخليفة- خارجا، وقد وردت الأحاديث بذم من هذا شأنه، وإهدار دمه، وأنه إن مات على ذلك يموت ميتة جاهلية(1)؛ ولا خلاف في ذلك عند أهل السنة.
لكن الأمر لم يدم على ذلك؛ فقد انحلت الدولة العباسية، وضعفت وعجزت عن القيام بسياسة الوطن الأكبر؛ فنشأت دول إسلامية، وتعددت الخلافة؛ فصار لكل دولة كبيرة خليفة، تابعه علماء وقته، وأوجبوا له ولدولته ولوطنهم الأصغر تلك الحقوق نفسها التي كانت واجبة عليهم للخليفة الأعظم والدولة الإسلامية والوطن الإسلامي الأكبر، فصار الخارج والخائن للوطن الأصغر والأمة الصغرى في الشرع مثل الخائن للوطن الأكبر، والشواهد والأدلة على هذا أوضح من شمس الضحى، وأكثر من أن تستقصى؛ ففي تاريخ مغربنا وأسلافنا ودفاعهم المجيد عن الوطن ما يشفي الغليل.
ودليله من كتاب الله قوله – تعالى -: {فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ} [التغابن: 16]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر؛ فاثبتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا»(2)، وأهل القطر الواحد – كالمغرب مثلا- لما عجزوا عن إقامة دولة تنتظم جميع المسلمين، ونصب خليفة واحد لجميع المسلمين، وكانوا قادرين على إقامة ذلك في بلادهم؛ وجب عليهم جمع الكلمة على إمام، وحماية وطنهم؛ فعملوا ما استطاعوا من أمر الله.
وهذا الفرض باقي في رقبة كل مسلم لا ينسخه ناسخ، ولا تبرأ منه الذمة أبدا فواجب على كل مغربي -وكل مسلم في أي بلد كان- النصيحة لإخوانه المسلمين المواطنين له؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»(3)، ومن خان أهل وطنه وغشهم؛ فهو لمن سواهم من المسلمين أخون.
وقوله: «الدين النصيحة»؛ فيه: أن من لا نصيحة له لا دين له، وقد تقدم أن الوطنية عند المسلمين لا معنى لها إلا النصيحة لأهل الوطن، ومراعاة حقوقهم، وعدم غشهم، والسعي في إصلاح حالهم، ودفع الأذى عنهم؛ وهذا واجب شرعا، وعقلا، وطبعا.
أما شرعا؛ فقد تقدم دليله، وزد عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: «والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»(4)؛ أي: شره وأذاه، وخائن الوطن متصف بهذه الصفة التي حلف النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات أن صاحبها لا يؤمن.
وقد قال العلماء في حق الجار: يشد إلى أربعين دارا؛ وإذا راعى كل جار حقوق جيرانه إلى أربعين دارا كان أهل البلد كلهم إخوانا متناصرین غیر متخاذلين، وتلك هي الوطنية عينها، إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية التي توجب للقريب في الدار من الحق ما لا توجبه لغيره، وإذا تأمل الإنسان حكمة الوصية بالجار في القرآن والحديث؛ عرف أن ذلك داع إلى الاتحاد والتعاون والتآخي؛ لأن الإنسان إذا عاداه البعيد الدار يقدر على الاحتراز منه. وأما إذا عاده الجار؛ فلا سبيل إلى دفع شره، وإذا صار كل جار لا يأمن جاره؛ وقع التمادي والتخاذل بين أهل البلد الواحد؛ فهلكوا جميعا.
وفي معناه: البلد المجاور لبلدك من الحق عليك أكثر مما للبلد البعيد، فإذا روعيت حقوق جار الدار؛ صلح حال البلد، وأمنوا كلهم، وكانوا إخوانا نصراء، وفي ذلك سعادتهم، وإذا روعيت حقوق البلدان المجاورة؛ صلحت حال القطر كله.
فهذه حكمة الوصية بالجار التي كان أسلافنا من خير المحافظين عليها، وما عثر
جِدنا وساء حظنا وأدبر أمرنا؛ إلا بعد تضييعها.
هذا؛ وإن جميع زعماء المسلمين وقادتهم مجمعون على ما ذكرنا، فهذا المفتي الأكبر مجدد دین جدهم -صلى الله عليه وسلم -، وحامي ديار الإسلام، السيد محمد أمين الحسيني – حفظه الله وأيده -، وهذا الشيخ الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، الأستاذ محمد مصطفى المراغي، وهذا شيخ جمعية العلماء في الهند، مولانا كفاية الله خان، وشيخ جمعية العلماء الجزائريين، الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ الصالح سيدي عبدالرحمن بن القرشي، والسيد رشيد رضا، والحاج نعمان الأعظمي، والشيخ محمد حسين آل كاشف مجتهد الشيعة(5) في العراق، وغيرهم من العلماء -رحم الله من مات منهم، وبارك في حياة من بقي؛ كلهم يرون في الوطنية الإسلامية مثل ما ذكرنا.
وأما عقلا؛ فكل ما تقدم من الأدلة مما يجمع عليه العقلاء من جميع الأمم في جميع الأزمنة والأمكنة، وأما طبعًا؛ فلأن الله جعل حب الوطن غريزة في الحيوان فضلًا عن الإنسان، فجمهورية النمل ومملكة النحل -وهما من أصغر الحشرات- ضربتا بالعمل أفضل الأمثال في الوطنية الصادقة، والتعاون والإخلاص ومعاقبة الخائن؛ كما بينه علماء الحيوان في كتبهم.
وكان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- متصفين بحب الوطن كغيره من السجايا الكريمة؛ فقد روى البخاري في «صحيحه»(6) عن عائشة -رضي الله عنها- قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم – المدينة وُعِكَ أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبت! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئٍ مُصَبَّحٌ في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى؛ يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة
بِوادٍ وحَولي إِذخر وجليلُ
وهل أَرِدْنَ يوما مياه مَجَنَّة
وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفيلُ
قالت عائشة فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفة» اهـ.
و(وعك) -بضم الواو وكسر العين-: مرض، و(كيف تجدك) أي: كيف تَجِدُكَ نَفسَك، و(عقيرته): صوته، والبيتان اللذان كان بلال ينشدهما حين تزول منه الحمى؛ كان يتشوق بهما إلى وطنه الذي هاجر منه؛ وهو مكة، و(الوادي): هو وادي مكة، و(الإذخر والجليل): نباتان ينبتان بمكة، و(مجنة): موضع قريب من مكة، و(شامة وطفيل): جبلان، و(الجحفة): بلدة كان يسكنها اليهود، وكانت قريبة من رابغ، وقد خربت منذ زمان طويل، وقوله: (صححها) أي: اجعل جوها ملائما للصحة، والشاهد في حنين بلال إلى مكة، وحب النبي وأصحابه لمكة وطنهم، ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم – الله أن يحبب له ولأصحابه المهاجرين المدينة كما حبب لهم مكة.
فانظر كيف كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم – يحبون وطنهم مكة ويحنون إليه، مع كونهم تركوه لله ومعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى دعا لهم النبي أن يحبب الله لهم المدينة، ودعا لنفسه بذلك، وذلك يدل على أنه هو أيضا يحب وطنه.
ومن ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المهاجرين أن يقيموا بمكة بعد قضاء حجهم أو عمرتهم أكثر من ثلاثة أيام؛ لئلا يرجعوا في هجرتهم وطنهم المحبوب الذي تركوه لله، وما ترك لله لا يرجع له، فثبت بهذا أن من لا يحب وطنه خال من الإنسانية، وهو من شرار الدواب؛ لأن كثيرا منها يحب وطنه ويدافع عنه.
وقد تغنى الناس بحب الأوطان من قديم الأزمان، ومن أجمل ما قيل في ذلك قول ابن الرومي:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
وحبيب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضَّاها الشباب هنالكا
وقال آخر:
أحب بلاد الله من بين مَنعجٍ
إليَّ وسَلمَى أن يَصوبَ سحابُها
بلادي بها نيطت علي تمائمي
وأوَّل أرض مسَّ جِلدي تُرابُها
والبريطانيون يسمون الوطن (أمًّا)، والجرمانيون يسمونه (أبًّا)، وقد صدقوا في ذلك؛ فهو أب وأم، ومن خانه فقد باء بالعقوق وصار كنودا كافرا للإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -: «من لا يشكُرُ الناسَ؛ لم يشكُرِ اللهَ»، رواه الترمذي(7) من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-، وأهل الوطن الأموات والأحياء قد أسدوا إلى كل وطني -أي: مولود في ذلك الوطن- معروفا؛ فوجب شكر أهل الوطن، فإن لم يفعل؛ فلا أقل من كف الأذى عنهم، أما كفر إحسانهم وجزاؤهم عليه شرا عليه؛ فهو ليس من أخلاق الكرام .
وقد كانت العرب في جاهليتها تراعي حقوق أوطانها الضيقة، وتحافظ عليها، وتحيي ذمارها، وكان وطن كل واحد منهم قبيلته، ففي ذلك يقول أحد سادتهم:
وإني وإن كنت ابن سید عامر
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
وهذا البيت الأخير هو المثل الأعلى في الوطنية المطابقة للإسلام، وقال الله – تعالى -: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡم یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕم} [المائدة:54]، هذا وصف المسلم الوطني المخلص؛ أن يكون ذليلا على أهل وطنه وقومه، عزيرا على أعداء قومه، والمنافق والخائن بخلاف ذلك؛ يكون ذليلا على أعداء وطنه، فظا غليظا شديدا عزيرا على قومه.
الوطنية الجاهلية
هناك وطنية جاهلية هي التي سماها النبي -صلى الله عليه وسلم- (دعوى الجاهلية) وحذر أمته منها؛ وهي العصبية للأوطان الضيقة التي كان عليها العرب قبل البعثة المحمدية، وهي العصبية للبلدان والقبائل، واعتداد كل قبيلة بنفسها، ومقاطعتها الغيرها، وعدم مراعاة حقوق الأخوة الدينية والوطنية فيهم، وقد ورد أن يهوديا رأى جماعة من الأنصار من الأوس والخزرج، فغاظه اتفاقهم؛ فذهب إليهم وأخذ ينشد الشعر الذي كانوا يقولونه في زمان عداوتهم وتقاتلهم في الجاهلية، فتفاخروا وتجادلوا وهموا بالقتال، فأُخبِر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ فجاءهم وقال: «أدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!»(8) وأصلح بينهم؛ فبكوا وتعانقوا، وذهب كيد ذلك الشيطان اليهودي.
فكل وطنية تكون مبنية على العصبية الجاهلية، ومنابذة الإسلام، وطرحه ظهريا، واتخاذ الوطنية الجاهلية بدلًا من الإسلام؛ فهي فاسدة لا تنجح أبدا ولا يفلح أهلها، ولا سيما في بلادنا؛ لأن ديننا -ولله الحمد- واحد، وهو يحضنا على مراعاة بعضنا حقوق بعض، ويحثنا على التآخي والتناصر والإنصاف لجميع الناس، والتسامح فيما لا يهدم أصلًا من أصوله، فيجب علينا الاعتصام به، وهو لا ينافي الوطنية؛ بل يؤكدها.
أما السلفية: فهي الكون على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وسائر أهل القرون المفضلة بنص الحديث؛ إذ كان الإسلام صافيا خالصا لم تخالطه بدعة، وكانت السنة منصورة أعلامها، مرفوعة راياتها، وفي الحديث: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة»، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»(9)، ولا نعلم فرقة تدعو إلى ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتلازمه بلا زيادة ولا نقصان، وتعض عليه بنواجذها؛ إلا السلفيين، فهم الفرقة الناجية بنص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وكل سلفي وطني؛ أي: لا يغدر إخوانه المواطنين له، ولا يخونهم، ويتعاون معهم على البر والتقوى، ولا عكس؛ أي: ليس كل وطني سلفيا.
وأخرج أحمد بن حنبل وأحمد بن شعيب وغيرهما عن ابن مسعود قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما»، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط شماله، وعن شماله، ثم قال: «وهذه السبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان ثم يدعو إليه»، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیما فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِ}[الأنعام:153](10)، وسئل عبدالله بن مسعود عن الصراط المستقيم؟ فقال: هو ما تركنا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(11).
فمن كان سلفيا حقا فهو وطني، ومن كان وطنيا مجاهدا في سبيل الله، وقد أخل بشيء من السلفية لقصور في علم أو عمل؛ فالله يغفر له، وأما من استخف بالإسلام وزعم أن هذا الزمان لا يصلح فيه الاهتداء بهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن العقول قد تطورت وارتقت، واتخذ لوطنيته أساسا غير هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فنحن نبرأ إلى الله منه، فنحن نعمل على شاكلتنا ولنا عملنا وله عمله، ولكننا لم نسمع أن في الوطنيين المغاربة أحدا على تلك الشاكلة، اللهم إلا بعض السفهاء الذين كانوا في حياة الدولة الفرنسية في زمان بلوم يتبعون شياطين الشيوعية الفرنسيين -دمر الله عليهم-، وأولئك ليسوا بوطنيين؛ لأن الوطنية كما تقدم لا تجتمع مع الشيوعية.
وقد تبين بما قدمناه وأوضحناه أن من رمى الوطنية بالانحراف عن الإسلام أو زعم أنها مقتبسة من الأجانب لمحاربة الإسلام، ومن زعم أن السلفية شعبة من الوطنية الأجنبية؛ فهو إما من الخائنين المارقين الذين فارقوا الجماعة واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون، وإما من الجهال الذين هم كالأنعام أو أضل سبيلا، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقیم.
جمعها وعلق عليها فضيلة الشيخ مشهور آل سلمان
جريدة «الحرية» التطوانية، السنة السادسة،
العدد (860)، الثلاثاء 25 رمضان 1361هـ – 6 أكتوبر 1942م، (ص1)،
والعدد (861)، الأربعاء 26 رمضان 1361هـ – 7 أكتوبر 1942م، (ص1)، والتتمة (ص2).
——————
(1) يشير إلى ما أخرجه مسلم (1848) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري (7388) ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -.
(3) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري (6016) من حديث أبي شريح خويلد بن عمرو رضي الله عنه -.
(5) تغير رأي الهلالي في الشيعة والتشيع وله جهود عظيمة في الرد عليهم، تحتاج إلى إبراز وإفراد، والله الموفق.
(6) برقم (3926).
(7) برقم (1955)، وإسناده ضعيف.
وأخرجه أبو داود (4811) والترمذي (1954) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -، وإسناده قوي.
(8) أخرجه الطبري في «التفسير» (627/5) بسنده إلى زيد بن أسلم مرسلا مطولًا، وفيه اللفظ المذكور، وإسناده ضعيف جدا مع إرساله.
وأخرجه البخاري (3518، 4905 ، 4907) ومسلم (2584) من حديث جابر -رضي الله عنه- وفيه قصة، واللفظ عندهما: «ما بال دعوى أهل الجاهلية؟ … دعوها؛ فإنّها منتنة».
ولم ترد لفظة: «وأنا بين أظهركم» إلا عند الطبري.
(9) أخرجه الترمذي في «الجامع» (2641) -وقال: «هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه» – والآجرّي في «الشريعة» (ص15، 16) والمروزي في «السنة» (ص18) والحاكم في «المستدرك» (128/1) وابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (ص85) والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/ 262) والأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة» (رقم 16، 17) واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (رقم 145-147) من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا. وإسناده ضعيف؛ من أجل عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، إلا أن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن، انظر: «السلسة الصحيحة» (رقم 1348).
وانظر: تعليقي عليه في «الموافقات» (146/5).
(10) أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 435) والنسائي في «الكبرى» (11109)، وإسناده جيد.
(11) أخرجه الطبري في «التفسير» (9/ 671)، وإسناده ضعيف جدا.