كنت وعدت القارئ الكريم في مقالي السابق (الأرواح تزهق جوعا) على أنني سأوافيه عن موضوع منع المرأة من الجلباب وما أحدث من سيئات.
أصدرت الباشوية أمرها بمنع المرأة مطلقا من لبس الجلباب والحذاء، كما أعطت أمرها للحراس بأن يسوقوا كل من عثروا عليها لابسة لذلك إلى السجن، وقد أحدث هذا المنع أمرا تعرق لسماعه الجبين.
كنت يوما مارا بشارع بوخشخاش، خارج البلد، حيث كنت قاصدا بستانا جميلا بهذه الناحية اعتدت الجلوس به لحسن موقعه أولا، ولخلوه ثانيا من الملأ، وكان بيدي كتاب من كتب الآداب أردد النظر فيه زمن جلوسي بهذا البستان، وبعدما استقررت في مقعد من مقاعده، فتحت كتابي ومضيت في قراءة فقرة من فقراته طويلا، ثم رفعت رأسي من مطالعتي الطويلة كي آخذ حظي من الطبيعة، لأكون جامعا بين الطبيعة والاستفادة، فوقع بصري على شخص مسلم مقبل نحوي
وبمعيته أنيسة في لبسة فرنجية أنيقة لم أعهد قط معرفتها، ولا وقع بصري على شخصها الجميل، فظننت أنها أجنبية، بيد أن صاحبها المسلم سبق لي أني أعرفه معرفة سطحية، فمضيت في قراءة كتابي معتقدا أن مسلما مصاحبا لأجنبية، وهذا أمر ليس بمستغرب، وكنت في أثناء قراءتي أسمعهما مرة يتكلمان بالفرنسية ومرة بالإسبانية، وبعد مدة من جلوسهما نهضا معا، حيث ذهبا توا إلى دار للسكنى هناك، أدركت أنها لناس بسطاء يسكنونها، وبعد أن اقتربا من المحل المذكور ودع كل صاحبه، حيث دخلت الأجنبية(المظنونة) إلى المحل المذكور. فقلت في نفسي بعد تخمين: إنه يمكن أن يكون للأجنبية صديقة مسلمة هناك، حيث أن المسلمات يخدمن بكثرة مع الأجنبيات، وبعد مفارقة المسلم صاحبته، رجع قاصدا البستان، حيث جلس في مقعده الذي كان جالسا وصديقته فيه، فكلمته بالتحية مريدا بذلك استطلاع الخبر، وبعد مذاكرة تناولتها وإياه في شتى النواحي، جاذبته الحديث في شأن صديقته الأجنبية فسألته عن جنسيتها، حيث شككت في جنسيتها زمن تكلمهما، فأجابني في ابتسامة تبدو منها السخرية: لا يا صديقي الحميم، إن المرأة مغربية وليست بأجنبية. فاشتد عجبي من قوله، وصرت أردد قوله في نفسي بين تصديق وتكذيب، ثم سألته ثانيا: وما حاملها على لبس زي الأجنبيات؟ فأجابني الصديق قائلا: إنه في الأسبوع الماضي كانت مارة بشارع من شوارع البلد، فاقتفى أثرها حارس من الحراس الجدد حيث كاد أن يسوقها إلى السجن لولا أنها تخلصت منه بوعد وعدته إياه. فنظرا لكي تخرج حرة لبست حلة الفرنجيات كي لا تعرف، وها هي اليوم طليقة تمشي حيث تشاء ولا من يكلمها من الحراس، وإنها حدثته إن الوقت وقت رقي وحضارة لا وقت خمول وجمود. هذا ما قصه علي هذا الصديق، ويعلم الله كيف كان يخفق قلبي زمن حكايته أسفا وحزنا على ما آل إليه حال الإسلام، فقلت له ونفسي تكاد تفور: إني ممن يحبون التقدم والرقي ويكرهون الخمول والجمود، بيد أني أتأسف كثيرا حينما أرى المسلمات يلبسن الحلل الفرنجية وهن جاهلات لأن جهلهن ربما أفضى بهن إلى اعتناق المسيحية ظنا منهن أن ذلك من أسباب التقدم والرقي.
إن منع الجلباب والحذاء على المرأة ليس من الصواب في شيء، لأننا نتسائل عن سبب هذا المنع، فإن كان الجواب هو منع البغاء، فإننا نحصر فكرة البغاء في أمور ثلاثة: 1-إما منعه بالمرة 2-أو تنظيمه 3- أو تخفيفه. أما منعه بالمرة فهو أمر مستحيل ولا نطيل القول في سبيله، إذ لو كان يسوغ ذلك لما ذكر في الكتاب العزيز، أما تنظيمه فهو أيضا أمر صعب ولا يتفق بتاتا مع شرف الإسلام، أما تخفيفه، أعني منع البغاء الرسمي فممكن مع الاهتمام المستمر. فيبقى إذن منع الجلباب والحذاء لا محل لهما من الإعراب.
ثم إن مما يزيدنا استياء هو أن بعض الحراس منهم تجب الحراسة، حيث يعرفهم الخاص والعام أنهم ممن عرفوا بسوء السيرة، والناس كلهم يقولون هذا، من ذلك ما حدثني به صديق أن أهله خرجوا يوما لزيارة بعض عائلاتهم، وكانت إحداهن لابسة للجلباب والحذاء، وبعد أن وصلوا إلى شارع البارود اقتفى أثرهم حارس جديد، يسمى محيي الدين (الضباغ سابقا) حيث عمد إلى لابسة الجلباب وحاول هتك عرضها لولا أنها دافعت عن كرامتها ووجهت إليه كلاما، لم يكن لهذا الحارس إلا أن اختفى كاللص، على أننا نعتقد أنه يميز ويفرق بين ذوي العرض وغيرهن، وإنما نعد فعله هذا مجرد تجاهل منه وانتهاز للفرصة، إذ من الفساد أن يعمد هذا الحارس ويحاول هتك أعراض الناس على مرأى ومسمع.
إن ساكني طنجة أجمعين لا فرق بين طبقة دون أخرى، ينتقدون فكرة منع المرأة من لبس الجلباب ويرون ذلك من الزوائد التي لا يجمل الاهتمام بها، وإنما يجب الاهتمام ويتعين فيما هو جدير بالعناية، ولمثله فليعمل العاملون. والمجد والسمو للمغرب (*).
طنجة / ملاحظ
————
* كان الشيخ محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله إذا أراد أن لا يظهر اسمه في آخر المقال يكتب هذه العبارة (والمجد والسمو للمغرب).
جريدة الحرية العدد 579 السنة 5 – 18 جمادى الثانية 1360 – 14 يوليه 1942 – ص 1