الحمد لله الذي جعل من كل شيء تشتهيه نفس الإنسان حلالا وحراما، فأحل الحلال وحرم الحرام، وجعل تحريمه لزاما. فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116-117). وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد الذي أخرجت به عبادك المؤمنين من الظلمات إلى النور، وأمرتهم بالاقتصار على الحلال، وبينت لهم ما فيه من الأجور، وعلى آله وأصحابه الذين هم القدوة في جميع الأمور.
أما بعد:
فيقول العبد الفقير، إلى الكبير المتعالي، محمد تقي الدين الحسيني الهلالي، سألني أحد الإخوان الصادقين، المتبعين للنبي الأمين، عن حكم الله في مصافحة المرأة المسلمة للرجال الأجانب، الذين لا يحرم عليهم التزوج بها تحريما مطلقا.
فأقول وبالله التوفيق:
أجمع المسلمون من السلف والخلف على أن لمس المرأة الأجنبية في أي موضع من جسمها حرام ومعصية لله، وقد وقعت لي في ذلك قصة عجيبة في بلاد الهند، كان لي تلميذ وهو الشيخ عبد الباري الزواوي من أهل مسقط في عمان، كنت رئيسا لأساتذة الأدب العربي في ندوة العلماء بالهند، فقال لي: إن أخي يسكن مدينة كراتشي وهو من التجار الكبار، فأرجو منك إذا مررت بكراتشي أن تنزل عنده، ولا تنزل في أحد الفنادق وأعطاني عنوانه، فبحثت عنه فوجدته، ورأيته محافظا على الصلاة في أوقاتها فسرني ذلك، ثم ركبنا السيارة وسار بنا إلى بيته، وإذا هو قصر عظيم تحيط به حديقة، فجلست في الحديقة على كرسي أقرأ في صحيفة، فشعرت بشيء وقف أمامي، فرفعت بصري فإذا الرجل تقف إلى جنبه امرأة مكشوفة الصدر والعنق والرأس والذراعين والساقين، فمدت إلي يدها للمصافحة، فلففت طرف طيلساني على يدي، ومددت يدي إليها، وقبضت يدها وغضبت وانصرفت، فقال لي بعلها: كيف تهين زوجتي ؟
فقلت: إن كانت هناك إهانة فأنت الذي أهانها. فقال لي: لماذا امتنعت من مصافحتها هل في يدها جرب، فقلت له: لا تغالط. إن جسم المرأة كله يحرم لمسه على الأجنبي لمسه وموضع لا يجوز، فأخذ يجادلني حتى انقطع.
والآن ينبغي أن أذكر الدليل على ما أفتيت به هنا. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة.
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره في آخر سورة الممتحنة عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} الآية ما نصه: روى البخاري، عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد بايعتك” كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله: “قد بايعتك على ذلك” هذا لفظ البخاري. وروى الإمام أحمد، عن أمية بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: “أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ” الآية، وقال: “فيما استطعتن وأطقتن”، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا ؟ قال: “إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة “.
وعن سلمى بنت قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم – وقد صلت معه إلى القبلتين، قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف قال: “ولا تغششن أزواجكن” قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غش أزواجنا؟ قالت، فسألته فقال: “تأخذ ماله فتحابي به غيره”.
وقال الإمام أحمد عن عائشة بنت قدامة- يعنى ابن مظعون- قالت: أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: ” أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف- قلن نعم- فيما استطعن” فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي: أي بنية نعم، فكنت أقول كما يقلن. وقال البخاري، عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها، قالت: أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها، فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها، وفي رواية: فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد، كما روى البخاري، عن ابن عباس، قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد. فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يُجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: “أنتن على ذلك؟” فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري حسن من هي، قال: فتصدقن، قال: وبسط بلال ثوبه، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال.
وعن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: “تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولاتزنوا ولا تقتلوا أولادكم- قرأ الآية التي أخذت على النساء: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فمن وفى منكما فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه “. وقد روى ابن جرير، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: “قل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئا” وكانت (هند بنت عتبة بن ربيعة) التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء، فقالت هند وهي متنكرة: كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من الرجال؟ فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعمر: “قل لهن، ولا يسرقن”، قالت هند: والله إني لأصيب من أبى سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا، قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: {وَلَا يَزْنِينَ} فقالت: يا رسول الله وهل تزنى امرأة حرة، قال: “لا والله ما تزنى الحرة ” قال: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر، قال: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قَالَ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}. قال: منعهن أن ينحن وكان نساء الجاهلية يمزقن الثياب، ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور.
قال محمد تقي الدين من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب، وأن المبايعة وهي المعاهدة كان الرجال يصافحونه عندها، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من مصافحة النساء حتى يبين أن مصافحة الرجال للنساء حرام، وحتى لا يقتدي به الخلفاء الذين يجيئون من بعده، ثم إن مصافحة الرجال للنساء الأجنبيات مأخوذ من الأوروبيين النصارى، وقد أمرنا بمخالفتهم، وهم لا يكتفون بالمصافحة بل يرقص الرجل مع المرأة بطنا لبطن، فمن تشبه بهم فهو منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فالواجب على المرأة المسلمة أن لا تسمح لرجل أجنبي أن يلمس شيئا من جسمها، لا اليدين ولا غيرهما، إلا إذا كانت مريضة، ولم تجد امرأة تداويها، فحينئذ يجوز للطبيب (….) أن يداويها ولو لمس جسمها ولا يستثنى من ذلك زوج الأخت، ولا حمو المرأة وهو أخ زوجها، ولا ابن عمها، ولا ابن خالها، لأنهم أجانب شرعا.
والله يوفقنا جميعا للعمل بما أمرنا به وترك ما نهانا عنه أو نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ منه بعد العصر يوم الخميس سابع ذي الحجة سنة 1400هـ للهجرة.
مجموعة رئاسل في السفور والحجاب، ص: 65