ونحن مع احترامنا للنبي المكرم عيسى نقول: قد أجاد الأستاذ في تنظيره وتمثيله، ألا يعلم لويس أن شرب الدخان في النارجيلة أو غيرها إنما حدث بعد اكتشاف كولومبوس أمريكا، ولم ينتشر إلا في الأزمنة الأخيرة، بل في هذا الزمان نفسه لو دخلت مجلس أمير من بني تميم أهل اليمامة لم تر فيها نارجيلة فضلاً عن الخمر؛ فهل بلغ به هوان نفسه عليه أن يزعم أن مجالس أمراء أبي بكر وعمر كانت محتوية على الخمر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فأي رجل من زنوج إفريقية، بل قبائل إسكيمو يلقي نظرة إجمالية على التاريخ ويتوهم وجود الخمر في مجالس أمراء الخلفاء ولم تمضِ على انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى إلا أيام قلائل ولم يروِ لنا التاريخ شرب الخمر في مجالس الأمراء إلا بعد ذلك بأزمان طويلة؟ وليس مقصودي أن أبرئ خالدًا من الوجهة الدينية، أو أدعي له العصمة الواجبة للأنبياء؛ لأن الكاتب لم يتصدَّ لهذا الأمر إلا من الوجهة التاريخية والأدبية؛ ولذلك أحصر ردي عليه فيهما؛ فهل يستطيع أن ينقل لنا كلمة واحدة من التواريخ المعتبرة يثبت بها ما افتلعه؟ هيهات ذلك.
لقد كنا نظن أن مجلاتنا الأدبية لمَّا تصل بعد إلى المستوى الأعلى من التحقيق في التاريخ والأدب، وأن كتابنا لا تزال بضائعهم مزجاة في ذلك، ولكننا بعد ما رأينا هذا المقال اغتبطنا أيما اغتباط بمجلاتنا وكتابنا.
وكنا نظن أن كاتبًا شهيرًا قد تصدى لكتابة سلسلة مقالات في التاريخ والشرقيين في أشهر المجلات الإنكليزية في الهند وعرضها على علماء الشرق والغرب يربأ بنفسه أن يرتكب الخلط والخبط والكذب البحت، ولكن أبى الله إلا أن يفضح هذا الأديب الكبير ليعلم مطايا الإفرنج ومقلدوهم أن أدباءهم ليسوا معصومين كما يزعمون من الوهم والغلط والجهل والكذب، بل ربما فاقوا غيرهم في ذلك، وسترى في الرد على مقاله ما يجلو كل شك ويلاشي كل ريب.
ومن العجيب أن الأديب ” كرهام ” جعل من خالد خالدَيْنِ، ولرجل واحد صورتين، فالصورة الأولى التي تقدم الكلام عليها تخالف تمامًا صورة خالد التي نشر تحتها ترجمة خالد بن الوليد وأعماله وسيرته في المجلة نفسها، في جزء 8 أكتوبر 1933 فخالد الأول مستطيل الوجه مائل إلى الاستدارة، ذو لحية مقصوصة قصًّا غير بليغ؛ وأما الثاني فإن وجهه صغير مخروطي، وملامحه مخالفة أشد المخالفة لملامح الأول، ذو لحية فرنسية مخروطية منهوكة بلا عارضين، فهكذا يكون التخبط، وإلا فلا.
الرد على مقاله ومناقشته الحساب
(1) زعم الكاتب الكاذب أن ليلى بنت الجودي الغسانية كانت زوجًا لمالك بن نويرة ثم تزوجها خالد بن الوليد ثم تعشقها وغنى بحبها عبد الرحمن -يعني ابن أبي بكر الصديق – ومازال ملحًّا في طلبها إلى أن ظفر بها أخيرًا، ففتن بها حتى أعرض عن نسائه وسراريه وجعلها سيدة البيت، ثم لم يلبث أن هجرها وفارقها فرجعت إلى بيت والدها بدمشق، وقضت بقية حياتها فيه، هذا ملخص قصة ليلى بزعمه.
أقول: وهذا كذب محض، وجهل فاضح؛ فإن ليلى بنت الجودي لم يتزوج بها مالك بن نويرة، وكيف يتزوج بها وهو من أهل اليمامة في قلب جزيرة العرب وكان وثنيًّا مشركًا، وليلى بنت الجودي نصرانية، وأبوها أحد رؤساء النصرانية في دمشق. وامرأة مالك بن نويرة التي تزوجها خالد بعد قتل زوجها اسمها أم تميم بنت المنهال، لم يتعشقها عبد الرحمن، ولم يتغن بحبها ولا تزوجها. وقد التبس الأمر على هذا الكاتب المسكين لفقره في الأدب الشرقي، فمزج امرأتين وعجنهما وجعلهما شيئًا واحدًا لحول في عين بصيرته، وسيجيء الكلام على ليلى بنت الجودى في آخر الرد، إن شاء الله.
(2) زعم أن ليلى زوجة مالك بن نويرة وقعت مع زوجها في أسر خالد، وهو كذب أيضًا؛ إذ لم يذكر أحد من المؤرخين (فيما نعلم) أن خيل خالد أخذت مع مالك زوجته، والحقيقة – كما في الطبري والكامل وابن خلدون وغيرها – أن خالد ابن الوليد نزل بالبطاح، وبث سراياه، فجاءته الخيل بجماعة من بني يربوع، منهم مالك بن نويرة، فسأل خالد الذين جاءوا بهم: أهم مسلمون فيبقيهم أم مرتدون فيقتلهم؟ فاختلفوا فشهد أبو قتادة ونفر أنهم مسلمون، وأنهم أذَّنوا وصلوا معهم وشهد آخرون أنهم غير مسلمين فأمر بهم خالد فقتلوا، ولم يذكر أحد أنه كانت معهم امرأة، مع أن الرواة ذكروا كل شيء، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكر أن ذلك كان ليلاً، وأن البرد كان شديدًا.
(3) زعم أن امرأة مالك كانت قد وهبت قلبها لزوجها، وأزمعت أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في فدية زوجها، فتزينت بحليها وحللها وذهبت إلى خالد لتشفع لزوجها؛ فلما رآها عشقها، وأصدر أمره بقتل زوجها، ودعوة إمام لعقد النكاح، وخلق لها عباءة كثيفة، وزعم أن النساء يومئذ كن محتجبات وكان كشف وجوههن عارًا، وهذا كله كذب وجهل، فإن الحجاب لم يكن له وجود في ذلك الزمان حتى في نساء المسلمين؛ فكيف بنساء المرتدين؟ وإنما حدث الحجاب بعد ذلك بزمن طويل، (انظر كتابنا: الإسفار في مسألة الحجاب والسفور) ولم يكن عقد النكاح يتوقف على إمام المسجد في بلاد العرب في ذلك الزمان ولا في هذا أيضًا، وإنما هي عادة من عادات المسلمين في الهند وفي كثير من البلاد الإسلامية، وليس ذلك بمشروع في الإسلام، ويكفي لعقد النكاح أن يشهد شاهدا عدل من المسلمين، ولكن أهل البلاد المتحضرة يحضرون القاضي أو نائبه عادة، وأما خالد فلم يكن له إمام، بل هو القائد والإمام كما هي العادة في ذلك الزمان أن يكون الأمير هو الإمام، ولم يدخل خالد بامرأته في تلك الليلة، بل تركها حتى تنقضي عدتها كما في ابن جرير: مجلد 64 ص 192.
(4) لو فرضنا أن أم تميم ذهبت إلى خالد لتشفع في زوجها لما أمكن أن يتصور متصور – حتى في هذا الزمن – أن امرأة شريفة زوج أمير تنزين بما عندها من حلي وحلل وتذهب في الليل البهيم، فتدخل على رجل أجنبي يملك ناصيتها، وتخلو به في خيمته، لأمور:
(أ) أن التجمل والتحلي إنما يكون وقت الفرح لا وقت الحزن، ولاسيما في ذلك الوقت العصيب حين أحب الأحباب إليها تحت خطر الموت، ينتظر كلمة تخرج من بين شفتي القائد تحييه أو تقتله، فتزينها في ذلك الوقت مما لا يعقله أحد يعرف عادات العرب وأحوالهم؛ لأنها لو فعلت ذلك لقضت على نفسها وعلى خالد؛ إذ الخلوة بالأجنبية – ولا سيما في الليل – فسق موجب للعزل والتعزير، ولا يمكن لامرأة عرفت بذلك أن تكون زوجة لسيد من سادات العرب، بل ولا من أوساطهم ولا لرجل عرف بذلك أن يكون أميرًا لأبي بكر.
(ب) أن (الديمقراطية) عند العرب كانت في عنفوان شبابها، ولم يكن الجنود يخضعون ولا يطيعون الأمير إذا رأوا منه منكرًا، والدليل موجود في نفس القصة وهو شيئان: (الأول): أن بعض الجند – وهم الأنصار – اختلفوا مع قائدهم خالد في التوجه إلى البطاح [1]، فقال لهم خالد: لا أكره أحدًا منكم، أما أنا فذاهب؛ فتخلفوا عنه وذهب، ثم بعد ذلك ندموا ولحقوا به. (الثاني): أن أبا قتادة أعلن إنكاره على خالد في قتل مالك وأصحابه، حتى ذهب مغاضبًا له إلى المدينة، واشتكى لأبي بكر الصديق الخليفة ما رأى من خالد، واستعان بعمر واجتهدا أن يحملا أبا بكر على عزل خالد فلم يفعل.
(ج) لو أن أبا قتادة ومن وافقه من الناقمين على خالد، وفيهم عمر بن الخطاب الذي كان كالوزير لأبي بكر، وكان إذ ذاك مجتهدًا في حمل أبي بكر على عزل خالد، وبقيت في قلبه حزازة على خالد حتى إنه حين تولى الخلافة عجل بعزله، فلو أن قتادة رأى خالدًا قد خلا بامرأة مالك ليلاً قبل عقد النكاح، بل في حياة زوجها، لأخبر بذلك عمر، وكانت حجته قائمة على فسق خالد، ثم لشنع عمر بذلك على خالد، وألزم أبا بكر عزله، فلا يجد منه بدًّا.
(4) ربما تكون العادة عند الأوروبيين – قوم الكاتب – أن المرأة إذا أرادت أن تشفع عند أمير تجملت وتزينت وتغنجت وتدللت لتسبي قلب ذلك الأمير، فيقضي حاجتها، وأما العرب فإن العادة عندهم على خلاف ذلك، فإن المرأة إذا ذهبت إلى رجل أجنبي ولم يكن أميرًا تذهب إليه حزينة متبذلة باكية حيية خاشعة، وأما المرأة التي تتزين وتتبرج وتذهب للأجانب فهي في نظر العرب بغيّ فاجرة، لا تتمكن من الدخول على الأشراف.
(5) زعم ” كارهام لويس ” أن تلك الليلة كانت ليلة هياط ومياط، وأكل وشرب، وسكْر ورقص، وخلاعة وبطر؛ احتفالاً بالنصر والظفر، وقد زل حماره في الطين في هذا أيضًا، ولو أشرف إشرافة على التاريخ الإسلامي أو ألمَّ إلمامة به، ولا سيما في أوله لعلم أنه كاذب، ولخجل من نفسه (كما يقول الإنكليز) قبل خجله من الناس. لو كانت الجنود المحمدية يا مستر كراهام تحتفل عند الانتصار بالأكل والزمر والخمر والعهر، ما أكلت جنود أسلافكم وسادتكم الذين استعبدوكم قرونًا – أعني الروم الجبابرة – في ربع قرن أو أقل على قلة عددهم وعُددهم.
إني أرثي لجهلك يا مستر كراهام، وأتمنى أن تعلم – ولو قليلاً – سيرة محمد وأصحابه الأبرار الأطهار. أفتظن أن أصحاب محمد كأصحاب نابليون وكجنودكم في الوقت الحاضر: كلما انتصروا فزعوا إلى اللهو والفواحش كالدواب؟ إن أصحاب محمد كانوا يحيون لياليهم في معسكرهم بالصلاة وتلاوة القرآن اقتداء بنبيهم، اقرأ يا كراهام في سورة السجدة من القرآن: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ] ثم اقرأ في سورة الفتح: [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ] ثم اقرأ في سورة الذاريات: [كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] وكذلك كان هدي نبيهم وإمامهم كما وصفه الشاعر بقوله:
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
(يتبع)
________________________
(*) نشرها (كرهام لويس) المستشرق الإنكليزي في جريدة المصور الأسبوعي للهند، صور فيها الصحابي خالد بن الوليد القائد الحربي الأعظم في فسطاط كمجالس راجات الهند تدار فيه كؤوس المُدام، واصطفت نراجيل دخان التبغ، وصور ليلى بنت جويد متزينة بأحدث أزياء نساء أوربة وحلي الشرق، تدخل عليه لتشفع لمالك بن نويرة زوجها بزعمه إذ أسرها معه في حرب الردة، فعشقها، وأمر بقتله وتزوجها.
وقد نشرنا الفصل الأول في ج 7 م 34.
(1) أرض بني يربوع، قوم مالك بن نويرة.
مجلة المنار: ج 1 المجلد 35 (30 ربيع الأول 1354 – 1 يوليو 1935) ص: 82-86