لما فتح الله هذه البلاد المباركة لعباده المصلحين وجدوا فيها داء الطرق يسمها ويمزق أوصالها ويهوي بها في دركات الانحطاط فتوجهت العناية منهم جزاهم الله خيرا إلى علاج هذا الداء الوبيل على أحسن حال من اللين والسهولة والملاطفة رفقا بالناس وتحميا من إعانتهم فنظر في ذلك رئيس هيئة مراقبة القضاء العالم العامل المصلح الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ أدام الله فضلهم فأمر بإحصار الزوايا التي بمكة المشرفة ثم دعا مشايخها فقال لهم ما تريدون بهذه الزوايا فقالوا لذكر الله ومذاكرة العلم فقال أحسنتم وإن الحكومة تريد مساعدتكم على هذا العمل الصالح بأن ترتب في كل زاوية رجلا من طلبة العلم يصلي فيها المكتوبات ويعلم أهلها ما أوجب الله عليهم تعلمه ويذكرهم ويعظهم بكتاب الله وسنة نبيه وكلام أئمة أهل السنة رحمهم الله فأجاب أكثرهم لذلك فرتب في كل زاوية رجلا من المصلحين وتعلل بعضهم بأن الزاوية ملك لهم لم يجعلوها وقفا وهي ملاصقة لبيوتهم فتارة يجعلون فيها ضيفا-يريدون الوفود التي تأتي بالنذور-وتارة يخزنون فيها أمتعتهم فلا يمكن أن تكون مسجدا ففحص الشيخ في دعواهم فوجدها غير صحيحة فقال لهم أنتم أقررتم بأنكم جعلتم هذا المكان لذكر الله ومذاكرة العلم فما كان لكم أن ترجعوا في ذلك ولاسيما بعد ما كفيتم مؤونة الإمام والوعظ فاذعنوا لذلك وبه مات الشهيق والنهيق الذي كانوا يزعمون أنه ذكر الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وغاض ماء النذور الغمر:
وساء ساوة أن غاضت بحيرتها *** ورد واردها بالغيظ حين ظمي
ثم توجه الشيخ عبد الله بن حسن بارك الله في أعماله بأمر الملك أيده الله إلى المدينة ومعه معاونه الأستاذ الشيخ محمد بن التركي وكاتب هذه السطور والأستاذ الشيخ محمد عبد الرزاق المصري خطيب المسجد النبوي ومراقب الأمور الدينية فيه إلى طيبة الطيبة لينظر الشيخ ومعاونه في شؤونها الدينية فتفقد الدوائر كلها الأوقاف والمعارف والعسكرية والشرطة والعدلية والإدارة العامة ودائرة الأمير ونظمها الشيخ على أحسن ما يمكن وعزل بعض الموظفين ووضع لجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظاما شرعيا يسيرون عليه ثم ألقى نظرة إلى مشائخ الطرائق فوجد أمرهم بالمدينة خفيا خفيفا وسترها لم يبحث عنهم أكثر من ذلك آخذا بقاعدة البدعة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت ضرت الناس كلهم. وقد كان أصحاب الطرائق في الزمن الماضي يجتمعون لأذكارهم المبتدعة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم بلا حياء ولا حشمة فلما دخل الإصلاح منعوا من ذلك وأمروا أن يذكروا الله في أنفسهم تضرعا وخيفة على وفق السنة فتركوا الاجتماع إلا التجانيين فإنهم نقلوا وظيفتهم من المسجد إلى الزاوية وهي قصر اشتروه بـ: 1200 ليرة ذهبا والليرة الواحدة تساوي: 120 فرنكا.
وهنا شعرت بسؤال يصدر من أكثر القراء وهو من أين جاءهم هذا المال يا ترى أمن أهل الحجاز مع ضعفهم وقلة ما بأيديهم زيادة على أن من كان مغفلا منخدعا من أهل الحجاز إنما ينخدع في أمر فيه أخذ مال أما الدفع فهم أعقل من أن يدفعوا مالهم الذي جعل الله لهم قياما وقيما في سبيل الترهات فمن أين جاء التجانيون الذين تسعة أعشارهم سودان فقراء فقرا مدقعا أعني تجاني المدينة. فلأجل حل هذا الإشكال وغزالة الحيرة -و الحديث شجون- أقول إن ذلك المال وأمثاله من الأموال التي تنفق هنا لتدعيم أساس الطريقة إنما هو صادر من بلاد الجزائر وحدها جمعه وجمع من قبل أضعافه رجل جزائري معروف يأتي هذه البلاد المقدسة كل سنة حاملا معه أموالا كثيرة ينفقها هنا وينتفع بها كثير من الناس والرجل في حد ذاته متصف بالوفاء والكرم ولو مما يجمعه من فقراء الجزائر لكنه اشرب في قلبه خرافات طرقية ملكت عليه مشاعره وساعده على ذلك إلمامه بالعلم زيادة على النشأة في وسط ملآن بالأباطيل نسأل الله أن يهدينا وإياه سواء الصراط فلو اجتهد في نصر سنة النبي صلى الله عليه وسلم عشر ما يجتهد في الطريقة لفاز فوزا عظيما. وبعد استقرارنا في المدينة علمنا أن الوظيفة التجانية وحدها تقرأ في زاويتهم المشتراة بـ: 1200 جنيه فقط ولو أنفق هذا المال على فقراء الجزائر أو فقراء المدينة لسد منهم خلات كثيرة والتوفيق بيد الله فسألني الشيخ عبد الله عن الطريقة التجانية ما هي فأخبرته بما حضرني منها فاقشعر جلده واستعاذ بالله من تلك العقائد وفي ذات يوم دعاني ثم استدعى شيخ الطريقة التجانية بالمدينة وهو الفاهاشم السنغالي ابن أخ الحاج عمر الفوتي أحد أركان الطريقة ومن العجب أننا وجدنا الفاهاشم هداه الله من المدرسين الذين يأخذون راتبا شهريا من الحكومة زيادة على ما يأتيه من المغرب من النذور والهدايا الطرقية وإنما تعطيه الحكومة ذلك الراتب ليدعو إلى السنة والتوحيد وينفر من البدعة والشرك لكنه أراد أن يجمع بين الفضيلتين بل بين العطاءين.
حضر الفاهاشم فرحب به الشيخ الرئيس وسأله عن الحال ثم بعد ما جلس وأدنى الشيخ مجلسه وأكرمه قال له يا شيخ نحن نظن بك الخير ونأمل أن تكون داعيا إلى الحق قامعا للباطل وأن يهدي الله بك من شاء من عباده لكن بلغنا أنك مستمسك بطريقة بل يقال إنك شيخ متبوع فيها فهل ذلك صحيح؟ فقال الفاهاشم: نعم أنا متمسك بطريقة التجانية جاء بها عمنا من المشرق حين حج وأخذناها عنه وهي ليس فيها شيء يخالف السنة إنما هي أذكار مشروعة الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله. فنظر إلي الشيخ إماء إلى أن أتكلم فقلت يا الفاهاشم إني كنت تجانيا وقرأت كتب الطريقة وعرفتها مثل ما تعرفها أنت وهي ليست ذكرا مجردا بل هي أقوال وأفعال وعقائد ولو سلمنا أنها أذكار مجردة فأذكارها فيها بدع كثيرة من تحديد ما لم يحد الله ولا رسوله بالعدد والوقت الاختياري والضروري والقضاء لما فات والاجتماع على هيئة غير مشروعة وألفاظ من كلام أهل الوحدة مثل اللهم صل وسلم على عين الحق -وعين ذاتك العلية- ووصف النبي بالأسقم أي الأمرض وغير ذلك فقال له الشيخ الرئيس أن فلانا يعنيني يعرف ما بهذه الطريقة مما يخالف الشريعة وهو عارضه عليك لتبدي رأيك فيه ثم قال اعرض عليه بعض الأمور المخالفة للشريعة من طريقته ، فأخذت صحيفة كنت قد قيدت فيها بعض أباطيل تلك الطريقة من حفظي وأخذت أقرأ عليه ما نصه:
الأولى/ اعتقادهم بإخبار شيخهم أن روحه كانت مع روح النبي صلى الله عليه وسلم هكذا وقرن بين إصبعيه السبابة والإبهام.
الشيخ الرئيس لالفاهاشم هذا صحيح؟ فقال: نعم موجود في كتب الطريق وأنا لا اعتقده، فقال له الشيخ هذا حق أم باطل؟ فقال لا أعتقده (حاد عن الجواب ولات حين مناص) فقال الشيخ قل حق أو باطل فقال باطل ثم قال لي اقرأ فقرأت.
الثانية/ اعتقادهم ما أخبرهم به شيخهم بقوله أنا محمد الأولياء من لدن آدم إلى النفخ في الصور.
فقال الشيخ لالفاهاشم: هذا موجود عندكم؟ فقال: نعم وأنا لا أعتقده. فقال: حق أم باطل؟ فحاد كما فعل أولاً ثم أعاد عليه السؤال فقال باطل.
يتبع..
محمد تقي الهلالي المدرس بالمسجد النبوي
مجلة “الشهاب” العدد:151/السنة الرابعة