عقد القاضي عياض أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي فصلا في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه المسمى بالشفاء بتعريف حقوق المصطفى، أذكر في هذا المقال بعض ما جاء فيه بحول الله تعالى مبينا أغراضه حتى يفهمها القراء، وينتفع بها من شاء الله منهم.قال القاضي عياض في الكتاب المذكور، فصل وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه فقد قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31] اهـ. قال محمد تقي الدين الهلالي: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لجميع الناس إن كنتم تحبون الله فاتبعوني فإن اتباعي شرط في محبة الله تعالى لكم ومغفرته لذنوبكم.
وبدون اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينال أحد محبة الله له، ولا مغفرته لذنوبه، فمن أباح لنفسه أن يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أي مسألة من مسائل الدين تعصبا لقبيلة أو وطن أو مذهب أو غير ذلك من الأسباب التي تحمل الإنسان على مخالفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عرض نفسه للحرمان من محبة الله ورحمته ومغفرته لذنوبه وذلك هو الخسران المبين.
ولنضرب لذلك مثلا فبالمثال يتضح المقال، أكثر المغاربة يسدلون أيديهم في الصلاة ولا يضعون أيديهم فوق شمائلهم حتى العلماء الذين يعلمون يقينا أن النبي صلى الله كان في صلاته يضع اليمنى على اليسرى، روى عنه ذلك جميع المحدثين بدون استثناء وقد نقل حافظ المشرق في زمانه ابن حجر العسقلاني عن حافظ المغرب في زمانه أبو عمر بن عبد البر أنه قال لم يرد فيه خلاف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بسدل اليدين أو أقر ذلك، فالذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يحبه أكثر من والده وولده والناس أجمعين بل أكثر من نفسه كما ثبت في الأحاديث الصحيحة فمن ذلك حديث أنس بن مالك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، قال المحققون ويدخل في الناس نفسه وفي الحديث الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي، فقال: “لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك”، فقال عمر يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “الآن يا عمر”. فلنترك المحاباة جانبا، ونكون نصحاء، كما أمرنا الله تعالى، فهل يعقل أن من يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويلتزم اتباعه، وهو في الدين فرض على كل مسلم، يخالفه على صلاته على عمد؟ خصوصا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث في آخر حديث طويل “وصلوا كما رأيتموني أصلي” ثم إذا قيل لهذا المخالف لماذا خالفت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم الفرائض بعد الشهادتين؟ يجيب بعذر أقبح من الذنب، فيقول اتبعت الإمام مالكا، ومن قلد عالما لقي الله سالما، فإذا قيل له عمن تسأل في قبرك وفي يوم القيامة، أعن الإمام محمد بن عبد الله، أم عن الإمام مالك بن أنس؟ فلا يجد جوابا إلا المكابرة والعناد كقولهم وكيف يخفى هذا على الإمام مالك، فيقال له وهل أحاط الإمام مالك بكل شيء علما وهل هو معصوم لا يخطئ أبدا وهل أمرك الله في الكتاب العزيز أو في السنة المطهرة باتباعه فلا يبقى له إلا حجة الكفار إنا وجدنا آباءنا. فادعاء محبة النبي صلى الله عليه وسلم والتزام اتباعه بالقول أمر سهل، ولكن عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
والدعـاوى مـا لم يـقيمـوا عليها
بـيـنــات أبـنـاؤهــا أدعـيـــاء
وفي مثل هذا ينشد:
تعصى الرسول وأنت تظهر حبه
هـذا لـعـمـري في القياس بديع
لــو كـان حـبـك صــادقا لأطـعـته
إن المـحـب لمـن يـحـب مطيــع
على أن ما نسبوا إلى الإمام مالك من القول بالسدل باطل، فإنه عقد لوضع اليمنى على اليسرى بابا في كتابه الموطأ الذي ألفه ودرسه ستين سنة ومازال يحذف منه ما ظهر له خلافه حتى أنه حذف منه الثلثين كما قال عياض في المدارك ولم يحذف منه باب وضع اليمنى على اليسرى ولا حذف الحديثين الذين استدل بهما على ذلك، ورواهما عنه أكثر المحدثين واحتجوا بهما وقد تعلل بعضهم بقوله أن وضع اليمنى على اليسرى من سنن الصلاة لا من فرائضها فإذا تركها المصلي لم تبطل صلاته، فنقول له إذا خالف النبي صلى الله عليه وسلم متعمدا بطل إيمانه كله، لا صلاته وحدها، لأن خلاف النبي صلى الله عليه وسلم على عمد من أعظم الضلالات التي تجر صاحبها إلى سوء الخاتمه، قال تعالى في آخر سورة النور {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. قال أحمد بن حنبل رحمه الله لصاحبه الفضل بن زياد في تفسير هذه الآية: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ترك بعض قوله، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقع في قلبه زيغ فيهلك. قال محمد تقي الدين الهلالي: لأن كل من خالفه عن عمد فإما يزول حبه عن قلبه وإما أن ينقص، ولا بد، لأنك إذا اعتقدت فيه الكمال والعصمة من الخطأ لا تخالفه إلا بغضا وعنادا وذلك يجر إلى الوبال.
ومن الأدلة على أن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم على عمد توصل إلى الهلاك ولو كانت في أمر غير واجب ما ثبت في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل يأكل بشماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك، فقال لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت، فما رفعها إلى فيه. اهـ. وأكثر العلماء يقولون أن الأكل باليمين من المستحبات لا من الفرائض، ومعلوم أن المستحب في علم الأصول ما في فعله ثواب وليس في تركه عقاب، فلماذا عاقب الله سبحانه وتعالى رجلا رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعينه ونال شرف الأكل معه بهذا العقاب الشديد وهو شلل يده بسبب مخالفته أمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وسواء أكان الأكل باليمين فرضا كما هو الظاهر أو مستحبا كما يقول أكثر الفقهاء، فإن المخالفة فيه على عمد من الكبائر التي توجب غضب الله وعقابه كما رأينا.
ومن الأدلة على أنه فرض ما صرحت به الأحاديث الأخرى التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالأكل باليمين ففيها “فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله” وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة الشيطان من الفرائض.
عود إلى ما نقله القاضي عياض رحمه الله
وقال: {فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِیِّ ٱلۡأُمِّیِّ ٱلَّذِی یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ}، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ} إلى قوله {تَسۡلِیمࣰا}، أي ينقادوا لحكمك، يقال سلم واستسلم وأسلم القياد إذا انقاد.
أيها القراء الأعزاء لا ينبغي لنا أن نمر بهذه الآية الكريمة التي احتج بها هذا الإمام العظيم مرور الكرام باللغو، بل يجب علينا أن نقف بها وقفة المحب على آثار الحبيب، فأذكر الآية بتمامها، لأن أكثر القراء في هذا الزمان ـ من سوء الحظ ـ لا يحفظون القرآن، قال تعالى في سورة النساء (65): {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} “لا” هنا لتوكيد القسم والمقسم عليه، أقسم الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم في خطابه لنبيه الكريم أنه لا يؤمن أحد الإيمان الذي ينجيه من عذاب الله تعالى إلا إذا جعل الحكم في كل نزاع يقع بينه وبين غيره للرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا علم حكم الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك النزاع يتلقاه بالقبول والرضا والتسليم، والانقياد والطاعة والتعظيم والاغتباط والسرور، ولو كان فيه ذهاب روحه أو فقدان ماله أو فراق أحب الناس إليه من أهل وعشيرة ووطن وأحبة.
أما إذا علم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة المتنازع فيها كسدل اليدين في الصلاة المتقدم الذكر، ودعاء الاستفتاح ورفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول والجهر بالتأمين في الجهرية، والتسليمة الثانية والجلوس على القدم في التشهد الأول وما يشبه ذلك من المسائل التي يخالف فيها كثير من الناس بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير ولم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بل رده وغضب على من دعاه إليه وعتا عليه عتوا كبيرا، فإن هذا ليس بصادق في ادعائه محبة النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبين اتباعه ما بين الثرى والثريا، لأنه وجد في نفسه حرجا مما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم لأمره تسليما، وقال تعالى في سورة النساء أيضا (59) : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أمر الله المؤمنين أن يردوا كل نزاع يقع بينهم أو يقع بينهم وبين غيرهم إلى الله والرسول. قال العلماء: الر إلى الله رد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته هو رد إليه نفسه عليه الصلاة والسلام، والرد إلى سنته بعد وفاته, وتأمل قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} يعني تحكيم كتاب الله ورسوله خير للمؤمنين في عاجلهم وآجلهم وخلافه شر لهم في العاجل والآجل.
ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} إلى آخر الآية، وفي هذا الكلام الرباني فوائد جليلة:
الأولى: أن كل من رضي بالتحاكم إلى شرع غير الكتاب والسنة إيمانه غير صحيح لأن (زعم) مطية الكذب، قال تعالى في سورة التغابن: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن:7] وقال الشافعي رحمه الله: كل زعم في كتاب الله فهو كذب أو باطل، ففيه نفي الإيمان عنهم.
الثانية: قال العلماء: الطواغيت كثيرة ورؤساؤهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن حكم بغير ما أنزل الله كما تدل عليه الآية، ومن دعا الناس إلى عبادته أو عبادة غيره من المخلوقين، والكاهن الذي يدعي علم الغيب ويخبر الناس بالمغيبات، والساحر.
الثالثة: يجب على المؤمن أن يكفر بهذه الطواغيت الخمسة وبسائر الطواغيت، لأن الإيمان بها لا يجتمع مع الإيمان بالله ورسوله، كما قال تعالى في هذه الآية {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، وقال تعالى في سورة البقرة (256) : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال علماء القلوب: لا يصح الإيمان بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت لأن القلب ما دام وسخا متنجسا بالشرك بالطواغيت لا يمكن أن يستقر فيه الإيمان كالإناء الوسخ المتنجس إذا وضعت فيه طعاما طيبا خبث ذلك الطعام ولم ينتفع به، ويقولون التحلية قبل التخلية، وكذلك التوحيد لا يجتمع مع الشرك، فلو عبد الإنسان ربه وخالقه الذي يستحق العبادة 24 ساعة وأشرك به دقيقة واحدة بطلت عبادته. قال تعالى في سورة الزمر(65-66) : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الصغائر والكبائر فكيف بالشرك؟ ولكن الله خاطبه بذلك تحذيرا من الشرك به ولبيان أنه لا تنفع مع الشرك طاعة وإن كثرت.
الرابعة: أن كل متحاكِم إلى غير الكتاب والسنة وما في معناهما من الإجماع والقياس الصحيح عند فقد النص، فقد اتبع الشيطان ولا بد أن يوصله إلى الضلال البعيد.
الخامسة: أن من علامات المنافقين اليقينية أنهم إذا قيل لهم تعالوا نتحاكم إلى شرع الله أعرضوا وصدوا عن الداعي وسخطوا عليه.
السادسة: أن كل فرد أو جماعة تحاكموا إلى شرع الله لا بد أن تصيبهم مصيبة عظيمة في دنياهم وآخرتهم بسبب ذلك، فإذا كنا نعتز بأن الإمام عياضا من الذين أنجبهم المغرب القطر الإسلامي العظيم، فينبغي لنا أن ننتفع بعلمه ولا يكون ذلك إلا إذا شمرنا عن ساق الجد في معرفة ما خلفه لنا من المعلومات والعمل بها وإلا كان افتخارنا به حجة علينا، وصدق علينا قول الشاعر:
إن كنت تسمو بآباء ذوي حسب فقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
وقول الآخر:
عجبت لذي جهل يظن جـدوده تـرقيـه والمرفـوع بالـفـعل فاعله
ثم قال الإمام القاضي بعد ذلك ما نصه: وقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ومعنى هذه الآية أن كل مؤمن يجب عليه أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم اقتداء حسنا ليس فيه مخالفة ولا جفاء ولا تفريط في كل أمر ليس خاصا به عليه الصلاة والسلام من أمور الدين ولا يقوم بذلك حق القيام من المسلمين إلا الصالحون الأتقياء الذين يخافون الله ويرجعون رحمته ويؤمنون باليوم الآخر إيمانا كاملا ويعملون الأعمال الصالحة التي تقربهم إلى الله تعالى وتجعلهم من الآمنين، ومن علاماتهم أنهم يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم ذكرا كثيرا، ولا حظ في هذه المنزلة لمن خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم متعمدا، ثم قال الإمام القاضي بعد ذكر آية الأحزاب ما نصه: قال محمد بن علي الترمذي، الأسوة في الرسول الاقتداء به والاتباع لسنته وترك مخالفته في قول أو فعل، وقال غير واحد من المفسرين بمعناه، وقال سهل في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} قال بمتابعة السنة فأمرهم الله تعالى بذلك ووعدهم الاهتداء باتباعه لأن الله تعالى أرسله بالهدى ودين الحق ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، ووعدهم بمحبته تعالى في الآية الأخرى ومغفرته إذا اتبعوه وآثروه على أهوائهم وما تجنح إليه نفوسهم وأن صيحة إيمانهم بانقيادهم له ورضاهم بحكمه وترك الاعتراض عليه، ثم روى الإمام القاضي بسند متصل عن العرباض بن سارية رضي الله عنه في حديثه في موعظة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة” زاد في حديث جابر بمعناه وكل ضلالة في النار. وفي حديث أبي رافع عنه صلى الله عليه وسلم: “لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه”. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “القرآن صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وفهمه وحفظه جاء مع القرآن ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة، أمرت أمتي أن يأخذوا بقولي ويطيعوا أمري ويتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن. قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وقال صلى الله عليه وسلم: “من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها” وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد”، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن بني إسرائيل افترقوا على اثنين وسبعين ملة وإن أمتي تفترق على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة، قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال : الذي أنا عليه وأصحابي”. وعن أنس قال صلى الله عليه وسلم: “من أحيى سنتي فقد أحياني ومن أحياني كان معي في الجنة” أهـ. قال محمد تقي الدين: قول النبي صلى الله عليه وسلم “فقد أحياني” أي أحيا ما جئت به من الهدى. وعن عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: “من أحيى سنة من سنتي بعد أن أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا”.
ثم عقد القاضي فصلا فيما جاء عن السلف من الحث على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والإقتداء به، انقل منه ما تيسر ويحتمله المقام. روى عياض عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: يا ابن أخي إن الله بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا وإنما نفعل كما رأيناه يفعل”، وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغيرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها من اقتدى بها فهو مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، وقال الحسن بن أبي الحسن عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة، وقال ابن شهاب: بلغنا عن رجال من أهل العلم قالوا الاعتصام بالسنة نجاة، وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أعماله بتعلم السنة والفرائض واللحن أي اللغة، وقال أن ناسا يجادلونكم يعني بالقرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله، وفيه خبره حين صلى بذي الحليفة ركعتين، فقال أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. وعن علي رضي الله عنه حين قرن فقال له عثمان ترى أني أنهى عنه الناس وتفعله، فقال لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس. وقال ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر. وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إلى عمر بحال بلده وكثرة لصوصه هل يأخذهم بالظنة أو يحملهم على البينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، وقال عمر ونظر إلى الحجر الأسود إنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ثم قبله. وقال أبو عثمان الحيري : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، وقال سهل التسترى أصول مذهبنا ثلاثة، الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال، وجاء في تفسير قوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه}، أنه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكي عن أحمد بن حنبل قال: كنت مع جماعة تجردوا ودخلوا الماء فاستعملت الحديث “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر” ولم أتجرد، فرأيت تلك الليلة قائلا لي يا أحمد أبشر فإن الله قد غفر لك باستعمالك السنة، وجعلك إماما يقتدى بك، قلت من أنت؟ قال جبريل.
إيضاح لبعض ما تقدم
قوله: وعن علي حين قرن، الخ… معناه قرن الحج بالعمرة، أي أحرم بهما، وكان عثمان ينهى عن القران فأجابه رضي الله عنه بقوله: لم أكن أدع سنة رسول صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا بين الحج والعمرة وأحرم بذلك كثير من أصحاب رسول الله فلما وصل إلى مكة أمرهم أن يفسخوا نية القران وأن يجعلوها عمرة ويحلوا من إحرامهم، ثم يحرمون بالحج يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة إلا من ساق الهدي منهم، أي جاء معه ببدنة أو بقرة أو شاة قاصدا ذبحها يوم النحر، فهؤلاء أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا على إحرامهم وكان علي رضي الله عنه منهم فامتنع من طاعة عثمان حين أمره برأي مخالف لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خاتمة
لم أتعرض لتخريج الأحاديث التي نقلتها من الشفا لأمرين، أحدهما أن مؤلفه إمام حافظ لا يتعمد أن يدخل فيه حديثا موضوعا وإن كان بعض الحفاظ انتقد عليه أحاديث وجدها واهية جدا، حسب اجتهاده. الثاني، أن الحديث الضعيف يجوز الأخذ به في فضائل الأعمال التي ثبتت بدليل آخر، نص على ذلك غير واحد من المحقين. والله أسأل أن ينفع بهذا المقال ممليه وكاتبه وقارئه ويوفق الجميع لاتباع هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
حرر بالمدينة النبوية لعشر بقين من محرم فاتح 1392 من هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.