تفرق العرب اليوم فريقين مختلفين متضادين، فريق ينادي بأعلى صوته ׃ الاشتراكية، الحرية، الوحدة، الثورة، الجمهورية، فما معنى هذه الألفاظ ؟
الاشتراكية في هذا الزمان لها معنيان ׃ الأول الشيوعية، والعرب لا يدعون إليها. والثاني الاشتراكية الجزئية _إن صح التعبير_ وهذه تنقسم إلى قسمين ׃ اشتراكية ديمقراطية، كالتي في بريطانيا عند حزب العمال وفي ألمانيا الغربية، وفي فرنسا وإيطاليا والبلاد البلجيكية وغيرها. واشتراكية نازية فاشية، أي قومية استبدادية، ويظهر أن العرب يميلون إلى هذه الأخيرة، فإن كان ذلك صحيحا، فقد جربها هتلر وموسوليني وغيرهما فلم تنجح.
فينبغي على العرب أن يعتبروا بمن سبقهم، ولاسيما إذا كان أعلم منهم، وأكثر تجارب وأمضى عزيمة، واجمع شملا، واشد بأسا، وأحد سلاحا.
و هنا أرى أن أذكر مثلا أشاعه اليهود الألمانيون في أول الحرب العالمية الأخيرة. وهذا المثل ضربوه لزعماء الدول المتحاربة، هتلر، موسوليني، وتشرشل، فقد شبه هؤلاء اليهود النصر بسمكة في بركة ماء يتنافس عليها الزعماء الثلاثة، وكل منهم يستعمل أساليبه الخاصة لاستخراجها والفوز بها.
فأما هتلر فقد جمع المهندسين والغواصين، وعلماء طبقات الأرض وغيرهم وقال لهم ׃ أريد منكم أن تعلموا أفكاركم ومقدراتكم العلمية والفنية في استخراج هذه السمكة فاستعمل العلماء علومهم وأفكارهم في تحديد مكان السمكة، فلما تم تحديده أمروا الغواصين فغاصوا وأخرجوا السمكة وقدموها إلى هتلر فأعجبته، فأخذ ينظر إليها ويقلبها في يديه ظهرا لبطن، فأفلتت من يديه ووقعت في البركة ثم اجتهد علماؤه أن يخرجوها مرة أخرى فلم يقدروا عليها.
و أما موسوليني فلم يجمع العلماء والمهندسين، بل أمر الجيش أن يغوص عليها، فغاصت الجيوش، فغرق أكثرها ورجعت البقية الباقية خائبة مذعورة.
و أما تشرشل فلم يفعل شيئا من ذلك بل عبأ شعبه كله رجالا ونساء، وأمرهم أن ينزحوا ماء البركة ليأخذوا السمكة بلا تعب.
هذا المثل سمعته وأنا في برلين سنة 1941 حين استولى هتلر على فرنسا وأكثر أوربا وأكثر أهل الأرض لا يشكون في انتصاره، ولكن الأمر جاء مطابقا لما توقعه اليهود أصحاب هذا المثل.
مزايا الانتخاب الحر وفضائله
ثم إن الشعار الثاني، وهو الحرية، يتناقض ويتنافى مع الاشتراكية لأن الحرية إذا توفرت لجميع أفراد الشعب وأبدوا آراءهم بدون خوف ولا وجل ولا تهديد فقد اتضحت السبيل، وعرفت إرادة كل الشعب أو أكثره، وسار على صراط مستقيم، آمنا من النكبات، بريئا من الأحقاد، حتى الأقلية المهزومة في الانتخاب الحر ترضى بما قسم الله لها، ولا ترى في ذلك غبنا ولا حيفا، كحزب الأحرار في بريطانيا، فلا تحقد على الأكثرية ولا تضمر لها عداوة، ولا تتربص بها الدوائر، ولا تحتاج إلى ثورة، لأن ميدان العمل مفتوح أمامها، وطريق الدعاية معبد ليس فيه عقبة. وهذه الحرية لا تكون بالقهر وحمل السلاح، وكم الأفواه، والخداع والدس والمكر، وسيلة إلى الاستيلاء على الحكم، زاعمة أن ذلك القهر، وذلك الاستبداد، إنما هو دواء مؤلم مؤقت اضطرت إلى استعماله ريثما تستقيم لها الأمور. و حينئذ تعود إلى الحرية، وتجري الانتخاب بنزاهة ليقول الشعب كلمته بملء إرادته.
و تنسى هذه الشعوب أو تتناسى ما في الإنجيل (إن العنب لا يجنى من الشوك فمتى العنف لا يجنى من الشوك) فمتى كان القهر والعنف والكبت وسيلة إلى الحرية ؟ ومتى نجحت فرقة من الشعب في ثورة مسلحة تستعمل كل الوسائل لحفظ سلطانها، وتخضع لها الفرقة الأخرى طوعا وكرها وطمعا، لا رضا وإقناعا، ولا تزال تتربص بها الدوائر، وتنتظر غرتها حتى تسنح لإحداهن الفرصة فتثب عليها، وتسقيها بالكأس التي سقت بها غيرها، وهكذا دواليك. فمتى يصل الشعب إلى الاستقرار والأمان والاطمئنان؟
و من ذلك تعلم أن سبيل الحرية ليست هي الثورة والأثرة، وإنما تكون بالدعوة الهادئة، وميل الشعب كله إلى الإنصاف والتسامح، واستنكار الغلظة والشدة.
كيف تكون الوحدة
أما الوحدة فيقال فيها ما تقدم، هذا إذا كانت بين أجزاء شعب واحد كشعب سويسرا مثلا، فانه مؤلف من ثلاثة أجناس ألمانيين وفرنسيين وايطاليين، اتحدوا بمحض إرادتهم واختيارهم، وكونوا حكومة تابثة الدعائم، مبنية على أساس متين من الحرية والمساواة، والمحبة والتناصر والتعاون.
و قد مضت على اتحادهم مئات السنين، ومضت عليهم حربان عالميتان، فلم تسمح واحدة منهما بان تمتد نارها إلى بلادهم، وحتى هتلر الذي اخضع جل الشعوب عجز عن إخضاعهم أو التفرقة بينهم، كجذب الألمانيين إلى جانبه، وهم مجاورون له، لان أولئك الألمانيين يؤمنون بالاتحاد السويسري أكثر من إيمانهم بجنسهم الألماني، ولا يؤمنون بدعوة هتلر. وفي المثل ( أخوك من واتاك لا من والاك ) وفي المثل الآخر (رب أخ لم تلده أمك).
و مثل ذلك يقال في البلاد البلجيكية، فإن سكانها جنسان. أحدهما فرنسي، والآخر فلنكي، جرماني، وفي الشعوب البريطانية الثلاثة ׃ انكلاند، وسكوتلاند وويلز، فإن حسن الجوار، والمصالح، والآلام والآمال هي التي وحدت بينها، وانفصلت عنها إيرلاندا الحرة لاختلافهما في الفكر والهدف، وإن كانا متجاورين ومتجانسين، وعجزت بريطانيا على إجبار إيرلاندا على الاتحاد معها، لا ضعفا، ولكن علما بان الاتحاد الذي يجيء بالقهر والطغيان لا يثبت ولا يدو
الثورات المحمودة
و أما الثورة، فإنها شر قد يضطر إليه المغلوب على أمره المقهور، فمتى كان الثائرون مظلومين مهضومين، قد اعتدى عليهم غريب يستعبدهم ويستغل أموالهم، متجبرا متكبرا، معتمدا على قوته، وقد شعر هؤلاء المظلومون بالقهر شعورا وحد أفكارهم، وأزال من أنفسهم جميع الأغراض الشخصية حتى صاروا كرجل واحد، واعدوا العدة لثورتهم، ونظروا في العواقب، فإن الثورة تفك أسرهم وتحررهم، وتجعلهم سادة في بلادهم، فيدوم صفوهم، ويستقيم أمرهم وذلك كأهل البلاد السويسرية في ثورتهم على أمراء النمسا الذين كانوا مستولين عليهم، وكسكان الولايات المتحدة في ثورتهم على الدولة البريطانية، فكلتا الثورتين تحقق نجاحها واطرد، وسار أهلها إلى الأمام متحدين متقدمين، فيئس منهم عدوهم فعاد يخطب ودهم.
و كثورة سكان اتحاد جنوب إفريقيا البيض على الدولة البريطانية، وبعض هؤلاء هولنديون، وبعضهم من البلاد البريطانية في الأصل. فلما عجزت الدولة البريطانية عن إخماد ثورتهم صالحتهم وتوددت إليهم فاتحدوا معها عشرات السنين.
الأبيض والأسود
و في هذا الزمان الذي طغت فيه موجة الاستقلال والتحرر من الرق الأجنبي، طالب سكان اتحاد جنوب إفريقيا السود والسمر بنصيبهم من الحرية، وامتنع الحكام البيض من إعطائهم أي نصيب من هذا الحق، فتحرج مركز الدولة البريطانية التي تخلت عن كثير من مستعمراتها بدون حرب، بعدما دافعت عن سياسة اتحاد جنوب إفريقيا، والتمست له الأعذار، واضطرت إلى أن تستنكر إصرار الاتحاد على سياسته الخرقاء الممقوتة في نظر أكثر الأمم.
فلم ترض دولة الاتحاد بهذا الخذلان، فانفصلت عن الدولة البريطانية، فقابلت بريطانيا انفصالها بتسامح وصدر رحيب. ولم تقطع علاقاتها، لا الدبلوماسية ولا التجارية معها، فضلا عن أن تكيد لها وتعلن عليها حربا كلامية، أو تدس لها الدسائس، وتنشئ فيها فرقة خامسة لتحطمها عقابا على انفصالها.
و لا بد أن اذكر هنا موقف إيرلاندا مع بريطانيا وحلفائها في زمان الحرب العالمية الأخيرة، فإن بريطانيا اتهمت إيرلاندا بمناصرة أعدائها الألمانيين واليابانيين، إذ لم تقطع إيرلاندا علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا واليابان، مع إلحاح بريطانيا وحلفائها على إيرلاندا وادعائهم انه مادام السفير الألماني ومن معه، والسفير الياباني ومن معه في إيرلاندا، لا تستطيع بريطانيا وحلفاؤها غزو أوربا الهتلرية، لان أولئك الألمانيين واليابانيين القاطنين في إيرلاندا يطلعون على الخطط الحربية، ويبعثون بأخبارهم إلى إخوانهم، فلم تلتفت دولة إيرلاندا الحرة إلى ذلك الادعاء، وأصرت على رفض الطلب، مع أن جميع الدول العربية والدولة التركية أيضا قبلوا مثل ذلك الطلب. وقطعوا علاقاتهم مع ألمانيا واليابان بلا سبب غير التزلف والخنوع لإرادة المستعمر، وإن كان استعمارا غير مباشر، ولم تكتف تلك الدول بقطع العلاقات. بل زادت إعلان الحرب على ألمانيا، وهي تلفظ النفس الأخير، ومع ذلك تحملت بريطانيا من إيرلاندا ذلك الرفض بصبر، ولم تغضب على إخوانها الايرلنديين بل احترمت حريتهم ورأيهم.
مثال من الهند
و هناك مثال آخر، وهو دولة الهند التي انضمت بعد استقلالها إلى المملكة المتحدة البريطانية ثم لم تلبث أن أعلنت النظام الجمهوري، وخرجت عن التاج البريطاني، فلم يمنعها ذلك من أن تبقى في مجموعة الدول البريطانية (كومنويلت) ثم اختارت الانضمام إلى الكتلة الحيادية، فلم يغضب ذلك بريطانيا.
و لما وقعت الحرب بين الهند وبين الصين، كانت بريطانيا ومن معها أول من هب لنجدتها بالسلاح والمدربين. فنحن نرى الدولة البريطانية التي حنكتها التجارب لا تفرض على الدول المتعاونة معها نظاما ما بعينه، وإن كانت ترغب الشعوب التي خرجت من حكمها المباشر في الانضمام إلى مجموعتها. فهي تقبل التعاون مع كل دولة بأي شكل، فإن أبت تركتها وشأنها، نعم إذا رأت بريطانيا دولة لا تريد الانضمام إليها ولا مسالمتها، فإنها تكيد لها كيدا وتستعمل ما تقدر عليه من الدسائس، ولا غرابة في ذلك، فإن الحرب خدعة.
و هناك نوع آخر من الثورات، ثورة الشعب على حكامه إذا طغوا وحادوا عن سبيل الرشد، واتبعوا أهواءهم، ولم يرقبوا في شعبهم إلا ولا ذمة، بل صاروا يعاملونه معاملة العدو لعدوه.
الملكية البريطانية
و الأمثلة الناجحة في ذلك، ثورة الشعب البريطاني على الملكية المطلقة، ووضع حد لاستبداد الملوك الغشم وثورة الشعب الفرنسي على الملكية جملة وتفصيلا.
فهاتان الثورتان لم تقم بهما فئة من الشعب لتستغلهما في مصالحها الخاصة، وإنما قام بهما الشعب كله لاكتساب حريته، والتصرف في شؤونه ولذلك أجريت الانتخابات الحرة بعد الثورة فاختار كل منهما النظام الذي يعجبه، واستقرت الأمور.
و هناك شعوب أخرى لم تحتج إلى ثورة، بل زالت منها الملكية من تلقاء نفسها، بعدما قل أنصارها وكثر أضدادها. وهناك شعوب سعيدة قوية عزيزة، لا تزال متمسكة بالنظام الملكي الدستوري، لا تبغي به بديلا، فليست الثورة مطلوبة لذاتها، وإنما ضرورة قد تضطر الشعوب إليها، كما يضطر الجسم إلى إجراء عمل جراحي للمحافظة على الصحة الموجودة، أو لاسترداد صحة مفقودة.
فمدح الثورة لذاتها، واعتماد أن كل شعب يحتاج إليها -و لا بد أن تنجح فيه، وتأتي بالخير العميم للشعب الذي يقوم بها- هو اعتماد فاسد تكذبه المشاهدة، بل الثورة التي لم تتوفر أسبابها ودواعيها، ولم تبن على أساس متين، هي مرض خطير، متى أصيب به شعب تشتت شمله، وتبعثرت قواه، وزالت وحدته، واتسع خرقه على الراقع، وسار سيرا حثيثا إلى الفناء.
الملكيات والجمهوريات
و أما الجمهورية فليست مرادة لذاتها، ولا تتوقف سعادة كل دولة وعزتها ورفاهيتها على النظام الجمهوري. فبريطانيا والسويد والنرويج والدانمارك وهولندا والبلاد البلجيكية كلها تسير على النظام الملكي، وهي موفقة سعيدة، وليست الجمهوريات بأحسن حالا منها.
و يمكن أن تتعاون دولتان إحداهما ملكية، والأخرى جمهورية تعاونا صادقا بغاية الإخلاص كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فكل منهما راضية بنظامها مغتبطة به ولا تسعى إحداهما أبدا في حمل الأخرى على موافقتها في نظامها، لان ذلك دخول فيما لا يعني وعدوان.
و ليس كل جمهورية ناجحة، ولا كل ملكية خاسرة، فإن نجاح الدولة له أسباب متى حصلت جاءت النتيجة المؤلمة، ومتى فقدت الأسباب لم تحصل النتائج. فالذي تتوقف عليه سعادة الأمة وسعادة الدولة قبل كل شيء هو العدالة والمساواة في توزيع الواجبات والحقوق، ونصر المظلوم، وإيجاد الثقة في نفوس أفراد الشعب، حتى لا يخشى احد أن يفرض عليه أكثر من واجبه، أو أن ينقص من حقه.
و هذه الثقة هي التي تبعت أفراد الشعب على التعاون الصادق الذي يفضي بهم إلى القوة والعزة والعيشة الراضية، وطمأنينة النفس، ولا حاجة بنا إلى ضرب الأمثلة، فإنها كثيرة ومشاهدة.
طراز الحكام والإسلام
هذا ما يقال إذا نظرنا إلى هذه القضية على ضوء العلم المكتسب بالتجارب، وأما إذا نظرنا إليها من الوجهة الإسلامية، فإن معاني تلك الألفاظ من اشتراكية وحرية ووحدة وثورة وجمهورية إما أن تكون موجودة في الإسلام الذي يستمد أحكامه من الكتاب والسنة، أو ليست موجودة. فإن كانت موجودة فيه، فقد وجب علينا أن نجعل الهم واحدا، ونرضى بالله صاحبا، فنجدد الدعوة إلى الإسلام الأول على صفائه وطهارته، ونخلصه من جميع الشوائب والأكدار والبدع التي طرأت عليه بمرور الزمان، وقد سعد أوائلنا به، ولم يكونوا قبله شيئا مذكورا. ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها.
و هذا الدين الحنيف صالح لكل زمان ومكان ولجميع الناس، وقد جُرِّبَ فَصَحَّ، وجُرِّبَ خلافه مند عشرات السنين فلم يصح.
أما الاشتراكية، ففرض الزكاة والكفارات، والترغيب في صدقة التطوع، وتحريم الربا، و هو أخد فائدة على القروض سواء أكانت من الحكومة لأفراد الشعب وجماعاته، أم من أبناء الشعب بعضهم لبعض، وإباحة المضاربة برؤوس الأموال والسلم، وهو شراء الحبوب والثمار وغيرها في الذمة، بالتزام البائع إحضارها بعد اجل مسمى يمض على قبض الثمن، وكذلك إباحة الشركات التعاونية، حتى شركة الأبدان التي ليست لها رأس مال. ذلك وما أشبهه من أحكام الشريعة الغراء يغنينا عن الاشتراكية الأجنبية بأنواعها. فالإسلام نظام مستقل سبق إلى كل ما في تلك المذاهب من خير وتجنب كل ما فيها من شر.
و أما الحرية فإن الإسلام إذا رجعنا إلى أصله، وتركنا التعصب جانبا لكفيل بها على أكمل الوجوه، بالنسبة إلى المسلمين، وإلى غيرهم ممن يواطنهم أو يسالمهم من الطوائف الأخرى. وكلمة عمر بن الخطاب لما انتصر للقبطي من ابن عمرو بن العاص، وهي قولة “متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” لا تزال ترن في الآذان، وقوله تعالى في سورة النحل {إِنِّ اللهَ يَأِمُرُ بِالْعَدْلِ والإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ} [الآية:90] قانون اجتماعي عظيم لمن فهمه ووقف للعمل به.
الثورات والإسلام
و أما الوحدة فنصوص الكتاب والسنة في وجوبها والتحذير من الفرقة صريحة لا تقبل التأويل، منها قوله تعالى في سورة آل عمران {واعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً ولاَ تَفَرَّقُواْ واذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الآية :103] ومنها قوله تعالى في سورة الأنعام {إن الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الآية :159].
و أما الثورة فلا تجوز في الإسلام إلا إذا ارتكب من يتولى الحكم الخيانة الكبرى، وهي الكفر بالله العلني، ومنه استحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، وترك الجهاد في سبيل الله، ولا يجوز أن يكون الثائرون متلبسين بالجريمة نفسها، أو عازمين على ارتكابها متى تم لهم الأمر، فتكون الثورة على باطل مثله أو شر منه، مع ما يترتب عليها من إخلال الأمن، وسفك الدماء البريئة، وفتح باب الفتنة، حتى يترحم الناس على الزمان الذي مضى عليهم قبل الثورة.
فمتى توفرت شروطها. وكان رجالها أكفاء مخلصين يريدون بها وجه الله والإصلاح في الأرض، ونصر المظلوم، وكسب المعدوم، فإنها تكلل بالنجاح، ولا تحتاج إلى من يثور عليها فتتسلسل الثورات، وتلك هي الطامة الكبرى، وفي الخبر (أمير غشوم، خير من فتنة تدوم).
الجمهورية والإسلام
و أما الجمهورية، فإن الإسلام يأمر بالشورى، ويشترط في الإمام شروطا معلومة، منها العلم والدين، والقدرة على القيام بالأمر، والجهاد في سبيل الله، وحماية حوزة المسلمين، ومتى وجدت هذه الشروط، استقامت الأمور، وسعد الإمام والرعية، رئيسهم ومرؤوسهم، فإن لم تتوفر فأقرب الناس إليها أقربهم من السعادة، والعكس بالعكس. هذا ما أراه واجبا علي من النصيحة لكلا الفريقين المتخاصمين من جمهوريين وملكيين.
أما الوحدة وما معها من الأمور السابقة فكلا الفريقين يدعيها، والمختلف فيه هو طريقها، فمن وجده وجدها. والشدة والعنف والارتجال أمور تتنافى مع الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الغاية بسلامة، فعليكم بالرفق، فإن الله يعطي بالرفق ما لا يعطيه بالعنف. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين.
المقال في جزئين نشر في مجلة البعث الإسلامي (الهند)
الجزء الثاني: العدد 4 المجلد 8، رجب 1383هـ – ديسمبر 1963م – ص 9-13