قال الله تعالى في سورة الأحزاب (33 إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال (إنما يريد الله) الآية.
ومن حديث وائلة بن الأسقع عند ابن أبي شيبة وأحمد وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ما غطاهم بالكساء : اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
فأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أحق الناس بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونشر ألويتهما بين الناس، وتبوأ أعلى المراتب في الدين والدنيا، فهم سرج هداية، ومصابيح الظلام، كلما عظمت الخطوب، وأظلمت الآفاق بدا منهم سراج، ولاح منهم بدر كشف الظلام، وجدد الدين، وقاد السفينة إلى شاطئ السلامة والكرامة.
ومن هؤلاء المصابيح الغر الميامين الإمام الحجة المجاهد، الورع، التقي الزكي أبو الأشبال علي بن الحسن بن محمد بن الحسن بن قاسم رضوان الله عليهم، وكان هذا الإمام على قدر محبته للعلم، والجهاد في سبيل الله، وحج بيت الله الحرام، والاجتهاد في عبادة الله يكره الإمارة.
وقد طلب منه أعيان غرناطة من العلماء والصالحين، وأهل الحل والعقد أن يبايعوه بإمارة المؤمنين لما رأوا من بلائه الحسن في جهاد أعداء الإسلام، وكشف الغمة عن المسلمين بالجيش الذي جاء به من المغرب من المجاهدين، فأبى عليهم كل الآباء، ورعا وزهدا، وتباعدا عن زهرة الحياة الدنيا اقتداء بجده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أخرج من ذريته رجال صدق، وأئمة هدى، ومصابيح ظلام أنقذوا المغرب من نكبته وأقالوه من عترته، وأقاموا من كبوته، فقطعوا رؤوس الفتن، وجمعوا شمل الشعب، وطهروا الثغور من رجس الأعداء المغتصبين، ولم يتم لهم ذلك إلا لتمسكهم بكتاب الله، واهتدائهم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا، فإن العز والنصر، والسعادة والسيادة في بلادنا هذه، وفي سائر البلدان التي فتحها الله على المسلمين، كل ذلك منوط بإعلاء كلمة الله، واتباع كتاب الله، وهذه مواقف شريفة، وقفها هؤلاء الأئمة أمام كتاب الله وسنة رسوله تدل على مبلغ تمسكهم بهما.
الموقف الأول للإمام المولى محمد بن الشريف لما بايع أهل سجلماسة وأهل درعة ونواحيهما المولى محمد بن الشريف، وكانت هاتان الناحيتان وغيرهما من الأراضي الجنوبية من بلاد السوس تحت حكم أبي حسون، فتقلص ظله منهما، وأجمع أهاليهما على نصرة هذا الأمير الجليل توجه للناحية الشرقية من المغرب، فبايعته الأحلاف، وهم العمارنة، وعرب بني معقل، فسار بهم إلى بني ( يزناسن)، فاستولى عليها، ثم انثنى إلى وجدة، وكان أهلها حزبين: حزب يدعو إلى الأتراك، وحزب ثابت على ولائه لدولته المغربية فاعتز المواطنون الصادقون بمقدم الأمير العلوي محمد ابن الشريف، فانقضوا على الحزب الداعي إلى الأتراك، فخضعوا شوكتهم، وفتكوا بهم وردوهم إلى الصراط المستقيم، وصفت وجدة ونواحيها للأمير محمد بن الشريف، ولم يبق فيها معارض ولا مشاغب، وكان ذلك سنة 1060هـ.
ثم استولى المولى محمد بن الشريف على ندرومة وتلمسان، وما يحيط بهما من القبائل، وتصدت له الحامية التركية التي كانت في تلمسان، فهزمها شر هزيمة، وقدم عليه محمود شيخ حميان مع أعيان قبيلته وبايعه، ودخل في طاعته، ووصل إلى عين ماضي والأغواط في الناحية الشرقية من الجزائر، واستبشرت قبائل العرب كلها في الجزائر بهذا الأمير الميمون، وكانوا كارهين لحكم الأتراك المغيرين المغتصبين، ثم رجع الأمير سالما غانما منصورا مظفرا، بعد ما شب نيران الحرب في الإيالة التركية، ونسفها نسفا، وضرب أولها بآخرها، كما يقول الناصري في الاستقصا، وخاف الأتراك على أنفسهم، فاستعملوا العقل والحكمة وبعثوا وفدا مؤلفا من عالمين وقائدين تركيين، فوصلوا إلى سجلماسة، ومعهم كتاب من رئيسهم عثمان باشا يناشد المولى محمد بن الشريف الله، ويحاكموه إلى شريعة جده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول له: نحن مسلمون، فبماذا تستحلون قتالنا؟
فتأثر الأمير محمد بهذه الرسالة، وأخذته القشعريرة وقال: والله ما أوقعنا في هذه المحذورة إلا شياطين العرب، انتصروا بنا على أعدائهم، وأوقعونا في معصية الله، وأبلغناهم غرضهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وإني أعاهد الله تعالى لا أعرض بعد هذا اليوم لبلادكم ولا لرعيتكم بسوء، وإني أعطيكم ذمة الله، وذمة رسوله، لا قطعت وادي تافنا إلى ناحيتكم إلا فيما يرضي الله ورسوله. وكتب لهم بذلك عهدا إلى صاحب الجزائر، وقنع بما فتح الله عليه من سجلماسة ودرعة وأعمالهما. انتهى.
وهذا الموقف الذي وقفه هذا الأمير الجليل يدل على خوف من الله، واتهام للنفس، ووقوف عند حدود الشريعة، وتعظيم لحرماتها، مع أنه لو أراد أن يتأول، لكان له في التأويل مجال.
فقد أخرج الطبراني بسند صحيح من حديث عبد الله بن السائب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدموا قريشا ولا تقدموها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها ما لخيارها عند الله تعالى. وله شاهد عند البزار من حديث علي ابن أبي طالب، وآخر عند ابن عدي من حديث أبي هريرة.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الخلافة في قريش ما أقاموا الدين، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه في النار.
فكان للأمير محمد بن الشريف الحق في أن يتقبل بيعة من بايعه من تلك القبائل، وأن يتقدم ويحكم، فهو أحق بالحكم من أولئك الأتراك، ولكن كما تقدم من شيعة آل البيت النبوي الكريم التواضع لله ولإخوانهم المسلمين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى بقوله في سورة الشعراء 142- 215 (وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين).
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحذر أقرب الناس إليه أن يتكلموا على قرابتهم منه ولا يعملوا عملا صالحا ينجيهم من عذاب الله، فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر ربه فقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، وأنقذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئا، ثم قال: يا صفية عمة رسول الله أنقذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله أنقذ نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني هاشم، لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالدنيا فتقولون: يا محمد، فأقول: لا، قد بلغت. أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فمثل هذه النصوص هي التي جعلت الأمير محمد بن الشريف يعتذر للأتراك ويعاهدهم كما تقدم.
فإن قال: ما علاقة هذا الخبر التاريخي بالموضوع الذي أنت متصل للكتابة فيه، وهو تمسك أئمة الدولة العلوية بكتاب الله وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم،
فالجـواب:
إن معنى التمسك بكتاب الله، هو إتباع الكتاب العزيز، والوقوف عند حدود الله، والتحاكم إلى الكتاب الله عند النزاع، والرضا بحكمه والتسليم له، كما قال تعالى في سورة النور 51- 52 (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله، ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله، ويخش الله ويتقه، فأولئك هم الفائزون) وهذا عين ما فعله الأمير محمد بن الشريف رحمه الله.
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: قدم عيينة ابن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبابا، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال : سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه : (خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل. وهكذا كان أئمة الدولة العلوية الذين سادوا وقادوا هذه الأمة خير قيادة.
الموقف الثاني موقف مؤسس الدولة العلوية الشريفة، ومرسي قواعدها الإمام رشيد ابن الشريف رحمه الله. كان هذا الإمام متمسكا بكتاب الله وسنة رسوله، محبا لأهل العلم بهما، ومقربا لهم، يكرمهم غاية الإكرام، ويستشيرهم في جميع الأمور، ويصدر عن إرشادهم ونصيحتهم، ولذلك مكن الله له في الأرض وقطع بسيفه رؤوس الفتنة، وجمع به الشمل بعد الشتات، وأصلح به الأمور بعد الفساد.
وقال صاحب الاستقصا نقلا عن صاحب النزهة ج 7 ص 35 ما نصه : وكان دخوله حضرة فاس القديمة صبيحة يوم الاثنين أوائل ذي الحجة سنة 1076 وبويع بها يومه ذلك، ولما تمت له البيعة أفاض المال على علمائها، وغمرهم بجزيل العطاء، وبسط على أهلها جناح الشفقة والرحمة، وأظهر إحياء السنة ونصر الشريعة، فحل من قلوبهم بالمكان الأرفع، وتمكنت محبته من قلوب الخاصة والعامة . أهـ
ثم قال في ص 44 نقلا عن صاحب (نشر المثاني) من أخبار الإمام رشيد بن الشريف : وكان يحضر مجلس الشيخ اليوسي بالقرويين. أهـ وهذه لعمري منقبة فخيمة، ومأثرة جسيمة، فرحم الله تلك الهمم التي كانت تعرف للعلم حقه وتقدره قدره. ثم قال : وفي أيامه كثر العلم، وعز أهله، وظهرت عليهم أبهته، وكانت أيامه أيام سكون ودعة، ورخاء عظيم. أهـ
الثالث مواقف الإمام المؤيد بالله ركن الدولة وصاحب القوة والعزم والصولة مولاي إسماعيل بن الشريف رحمه الله.
منها ما حكاه صاحب الاستقصا ص 58 قال : وأما سبب تسمية هذا الجيش (بعبيد البخاري) فإن المولى اسماعيل رحمه الله لما جمعهم، وظفر بمراده بعصبيتهم، واستغنى بهم عن الانتصار بالقبائل بعضهم على بعض، حمد الله تعالى وأثنى عليه، وجمع أعيانهم، وأحضر نسخة من صحيح البخاري وقال لهم : (أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب، فكل ما أمر به نفعله، وكل ما نهى عنه نتركه، وعليه نقاتل).
فعاهدوه على ذلك، وأمر بالاحتفاظ بتلك النسخة وأمرهم أن يحملوها حال ركوبهم ويقدموها أمام حروبهم، وما زال الأمر على ذلك إلى هذا العهد، فلهذا قيل لهم (عبيد البخاري) أ. هـ.
لما قرأت هذا الموقف أصابتني قشعريرة، ولم أدر كيف أقدر هذا الإمام، وكيف أثني عليه، فإن كلمته هذه لها مغزى عظيم يهز القلوب، ويسمو بأرواح المؤمنة إلى أعلى مستوى من الإيمان واليقين، هذا الملك العظيم الذي كانت تحسب له ملوك أوربا ألف حساب، وكان يخاطبهم في مراسلاته معهم بأخشن خطاب، وكان الأمير شكيب رحمه الله معجبا أشد الإعجاب بمواقفه مع ملوك أوربا، لا يمل من عرضها وتكرارها على كل زائر وكل مجالس، وكانت تأخذه أريحية عظيمة حين يقرأ علينا سيرة هذا الإمام العلوي العظيم.
استمع إليه يقول لعبيده وجنده : (أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب، فكل ما أمر به نفعله، وكل ما نهى عنه نتركه، وعليه نقاتل)، هذا الكلام الحكيم البليغ يشبه كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام التابعين والأئمة المجتهدين في دقته وأحكامه.
فقد دل هذا الكلام على ستة أركان، كل دولة حافظت عليها لابد أن تبلغ أوج السعادة والعزة والنصر المبين، ولا يستغرب بعد الإطلاع على هذا ما أعطى الله إسماعيل من العزة والنصر، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائه داخل المملكة وخارجها، وكون راياته في حروبه الكثيرة مقرونة بالنصر والظفر.
الركن الأول (أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه) استوى المالك والمملوك، ومن خدم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى فيها نفسه بعبيده وجنده فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وما أحسن قول البوصيري إذا فسر بهذا المعنى :
ومن تكن برسول الله نصرتـه *** تلقـه الأسـد في آجامها تجم
يعني من يكن خادما لسنة رسول الله بصدق وإخلاص تنفتح له جميع الأبواب، وتنهزم أمامه جميع الأعداء، وترتجف قلوب الأسد، وهي في عرائنها هيبة له وإجلالا.
الركن الثاني أن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموع في صحيح البخاري، إذن فلابد من العمل به، كما سيصرح به هذا الإمام تصريحا ينقشع معه كل ظلام، أما سرد ألفاظه سردا مجردا عن الدراسة والعلم والعمل، فإن ذلك لا يغني فتيلا.
الركن الثالث ( كل ما أمر به نفعله) يعني بلا قيد ولا شرط، لأنه معصوم (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).
الركن الرابع (وكل ما نهى عنه نتركه) وهو كذلك بلا قيد ولا شرط.
الركن الخامس (وعليه نقاتل) أي وعليه نوالي وعليه نعادي، وعليه نحب وعليه نبغض، وهذا معنى الخبر (أوثق عرى الإيمان، الحب في الله والبغض في الله، والموالاة لله والمعاداة لله.
الركن السادس (فعاهدوه على ذلك) أي عاهد الجند ملكهم وقائدهم معاهدة الرعية راعيها، ونحن نشهد بالله أننا أيضا عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإننا نعاهد على ما عاهد عليه أولئك الجنود ذلك الإمام العظيم.
ومنها ما ذكره صاحب الاستقصا ص 69 من حوادث سنة 1099 قال : وفي خامس جمادى الأولى استدعى السلطان فقهاء فاس لحضور ختم التفسير عند قاضيه أبي عبد الله المجاصي فحضروا وأكرمهم ووصلهم. أهـ
قد قسمت ما شفى وكفى في تمسك الإمام إسماعيل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر بذلك على مقدار عنايته بتفسير كتاب الله عز وجل، وهذه شروط السعادة والعزة والقوة، فكل من فسر تلك القوة العظيمة، والنصر المبين المتكرر المتوالي عشرات السنين الذي منحه الله هذا الملك السعيد بغير التمسك بالكتاب والسنة، فقد خبط خبط عشواء في ليلة ظلماء.
ومنها ما ذكره صاحب الاستقصا ص 78 قال : ولما ولى المامون على مراكش أمر برئيس الحضرة، وإمام الكتاب الفقيه أبي العباس أحمد اليحمدي أن يعطيه التقليد ويوصيه بما تنبغي الوصاية به، وكان المولى المامون منحرفا عن الوزير المذكور، فمشى إليه على كره منه، وحاز منه التقليد، واستمع لوصيته امتثالا لأمر والده، ثم عاد إليه وقال : يا مولانا إن اليحمدي ينقصك، ويزعم أنه الذي علمك دينك، في كلام آخر.
فقال له السلطان رحمه الله : والله إن كان قد قال ذلك، إنه لصادق، فإنه الذي علمني ديني وعرفني بربي. نقل هذه الحكاية صاحب البستان وصاحب الجيش، وكلاهما قال : انه سمعهما من السلطان المرحوم المولى سليمان بن محمد رحمه الله، وهي منقبة فخيمة للمولى إسماعيل في الخضوع للحق والاعتراف به، رحم الله الجميع. أ هـ
ومنها أن الشيخ أبا علي الحسن اليوسي وجه رسالة إلى الإمام إسماعيل رحمة الله عليه بقصد النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتقد حكمه فيها من ثلاثة أوجه : الأول في جباية المال من وجه شرعي، وصرفه بوجه شرعي. الثاني في إقامة الجهاد والمرابطة في الثغور، الثالث في الانتصاف للظالم من المظلوم، وكف اليد العادية عن الرعية.
وكان نقده صريحا مكشوفا شديدا، فقبله هذا الإمام الجليل مع ما كان له من الهيبة عند الخاصة والعامة في داخل المملكة وخارجها، ولم يكن أحد يتجرأ على معارضته، وإن جل قدره.
ومن المعلوم أن الشيخ اليوسي كان أستاذ أهل زاوية الدلاء وربيب نعمتهم قد أبدأ وأعاد في مدحهم وموالاتهم، والحنين إليهم، وهم من أشد أعداء الدولة العلوية، ولولا أن الإمام إسماعيل كان عنده من تعظيم العلماء، وخفض الجناح لهم، وقبول نصحهم، وإن كان مرا، لأتهم اليوسي لتشيعه لأرباب نعمته، والنظر
إلى الحكم العلوي بعين السخط التي تبدي المساوئ وبطش به، ولكنه رحمه الله كان فوق ذلك. ومن أراد الوقوف على هذه الرسالة ليرى ما فيها من النقد الشديد، ويعلم فضل الإمام إسماعيل، وإذعانه للحق فليقرأها في كتاب الاستقصا ص 82، ولولا طولها لنقلتها، ولكني أكتفي بالإحالة عليها. واقتصر على هذا القدر، لأن المقام لا يتسع لأكثر منه في ذكر تمسك هذا الإمام بالكتاب والسنة.
أما السلطان سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل الذي يسمى بحق : عالم الملوك وملك العلماء، فحدث عن البحر ولا حرج في تمسكه بالكتاب والسنة، ونشره علم الحديث، وعكوفه على دروسه، وبذله كل جهد في ذلك، ولم يكتف بذلك حتى ألف كتبا نفيسة خلدت له ذكرا وفخرا لا تحوه الأيام منها مسانيد الأئمة الأربعة، ومنها محاذي الرسالة، وكان نقادا مجتهدا يكره مختصرات الرأي وينفر الناس عنها، ويرغب في كتب الحديث، والفقه المبسوطة التي تجعل كل مسألة مقرونة بدليلها من الكتاب والسنة، وقد ذكرت بشيء من التفصيل مواقف هذا الإمام من علوم الكتاب والسنة، وتنفيره عن الرأي والبدعة، وتمسكه بالعقائد السلفية الخالصة من كل شبهة في الجزء الخاص بأمجاد الدولة العلوية من مجلة دعوة الحق الصادر في ذي القعدة 86 هـ- مارس 67 م فأغنى عن إعادته هنا، وقد جبلت الطباع على معاداة المعادات.
وكذلك السلطان مولاي سليمان بن محمد ذكرت في ذلك المقال نبذة من تمسكه بالكتاب والسنة، ووقوفه عند ورود كتاب الأمير عبد الله بن سعود أمير مكة يشرح فيها دعوة آل سعود، ودعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمهما الله، فقد وقف السلطان الجليل المولى سليمان رحمة الله عليه موقف الناقد البصير، المتحري للحق، القائل به غير خائف في الله لومة لائم.
ومن المعلوم أن السلطان العثماني كان قد اغتاظ غيظا شديدا على استقلال العرب عن حكمه، ورجوع إمارة بلادهم، وخصوصا الحرمين الشريفين اللذين كان السلطان العثماني يتخذ الحكم فيهما دليلا على صحة خلافته وشمولها لجميع المسلمين، حتى يعد من خرج عن حكمه خارجا على إمام المسلمين.
ومن المعلوم أن بلاد العرب كلها، وبلاد الإسلام في إفريقيا وآسيا كانت خاضعة لسلاطين آل عثمان إلا المملكة المغربية، فإنها لم تخضع قط لهم، بل كانت تسالمهم إذا سالموها؛ وتحاربهم إذا حاربوها، وكانوا معترفين باستقلال ملوكها. فالملك العلوي سليمان بن محمد لم يبال بعداوة السلطان العثماني لآل سعود، لأنه عزيز مستقل لا يخضع إلا الله، ولم يكن رحمه الله من قلة العلم بالمكان الذي يستطيع جيش العلماء المرتزقة الذين عبأتهم السلطنة العثمانية لتكفير آل سعود وتضليلهم، حسبما سول لها حبها للاستيلاء على بلاد العرب، أقول : لم يكن هذا الملك الجليل من قلة العلم بالمكان الذي يستطيع فيه أولئك العلماء المرتشون أن يضموه إلى صفوفهم، وأن يلبسوا عليه الحق بالباطل، ويوهموه أن عقيدة آل سعود ضالة ومخالفة للكتاب والسنة، كما لبسوا على غيره من الأمراء والقادة فأعلن مولاي سليمان موافقته لما يدعو إليه عبد الله بن سعود، لأنه وجده مطابقا للكتاب والسنة، ولم يكتف بأن يجيب رسالة برسالة، بل أوفد ابنه أبا إسحاق المولى إبراهيم، ومعه وفد من علماء المغرب إلى الأمير عبد الله بن سعود، وبعث معه هدايا وتحفا فأكرم الأمير السعودي وفادتهم، وتباحث العلماء المغاربة برئاسة أميرهم مع العلماء السعوديين برئاسة أميرهم، فكللت المباحثات بالوفاق التام على إتباع كتاب الله وسنة رسوله، وترك الغلو في قبور الصالحين وغيرهم، وتجريد توحيد العبادة لله رب العالمين.
وعلى أثر ذلك ألف السلطان مولاي سليمان رسالته المشهورة المتضمنة لإتباع الكتاب والسنة، ومحاربة البدع والمحدثات، ومنها الغلو في قبور الصالحين الذين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله، وأمر أن تقرأ على المنابر في جميع أنحاء المملكة المغربية، فتركها منقبة خالدة على مرور الأيام، فرحمه الله وأثابه رضاه.
أما الملوك الثلاثة الأئمة الأبرار الحسن الأول، وعبد العزيز الأول، ومحمد الخامس، فتمسكهم بالكتاب والسنة أمر مشهور. أما الحسن الأول، وعبد العزيز الأول، فقد حدثني غير واحد من الثقات أنهما كانا يعتمدان كل الاعتماد على الإمام المحدث المجتهد، ناصر السنة، وقامع البدعة، عبد الله السنوسي نزيل طنجة في آخر حياته، وبها توفي رحمه الله، وأجل من حدثني عنه العالم السلفي، والمصلح البر الوفي مولاي عبد العزيز بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن رحمهم الله رحمة واسعة، وهذا الرجل الكريم، وإن لم ينجح في أيام ملكه لصغر سنه، وكثرة الفتن، وفساد الرؤساء، فقد نجح بعد اعتزاله الملك أيما نجاح، فقضى عمره في دراسة العلوم السلفية مع أستاذه المذكور، ومن سعد بمجالستهما من الناس، مكثرا من الأعمال الصالحة وإفاضة البر والإحسان، وأحيل القارئ على ما كتبته في ترجمته في جزء دعوة الحق من جزء ذي القعدة 86 هـ مارس 67م.
ومن أخبار عبد الله السنوسي الطريفة ما حدثني به أخي في الله العالم السلفي الورع الرباني الأستاذ محمد أبو طالب الإدريسي الحسني، رحمة الله عليه قال : كان عند الفقهاء بفاس احتفال بدعي في بعض الأضرحة، فأنكر عليهم عبد الله السنوسي واعتزلهم فجاءه أحد الفقهاء وأراد أن يداعبه بكلام يغضبه ليستخرج من عنده من الدرر التي تجيء عفوا في حال غضبه فقال له القولة الجاهلية المشهورة عند المقلدين (نحن خليليون، إن دخل خليل الجنة دخلناها معه، وإن دخل النار دخلناها معه) فأجابه الإمام السنوسي على البديهة بقوله تعالى في سورة الأنبياء (67 أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون).
أما الإمام المنقذ الذي أجرى الله على يديه الكرامة الكبرى، والمزية العظمى، وهي تحرير المغارب الثلاثة من براثن عدو قوي، فصارت له منقبة خالدة لم يسبقه فيها سابق، ولا لحقه فيها لاحق :
وما أحاشي من الأقوام من أحد إلا شبله وخليفته ووارث سره أمام الوقت جلالة الحسن الثاني أيده الله ووفقه وزاده من فضله، فإنه شريكه في تلك الحركات المباركة التي عم نفعها للأولياء، وكانت قاصمة الظهر على الأعداء، أقول : أن الإمام محمدا الخامس كان سلفيا، ليس عنده حجة إلا في كتاب الله وسنة رسوله، وكان لا يرد ولا يصدر إلا عن استشارة العلماء السلفيين كالإمام الحجة، خاتمة المحققين، بقية السلف، وعمدة الخلف شعيب الدكالي، والإمام الحجة، بحر العلوم، منطوقها والمفهوم، سيف الله المسلول، على أهل البدع والغلول أبو مصطفى محمد ابن العربي العلوي الحسني رحمهم الله رحمة واسعة.
أما إمام الزمان، ونابغة العصر والأوان أبو محمد الحسن الثاني، حفظه الله بالسبع المثاني، فإنه سار على سنن سلفه، وزاده الله من فضله، فلم يزل يبديء ويعيد، وتصدر منه المكرمة تلو المكرمة، والآية بعد الآية، ومفاخره التي أكرمه الله بها لا يمكن إحصاؤها، فلنقتصر على ما نحن بصدده، وهو التمسك بالكتاب والسنة، وبذل الجهد في ذلك.
فإنه أيده الله بنصره كان وزيرا لوالده، ومشاركا في سلوكه ومناقبه، ولما انتقل والده المبرور إلى رحمة الله، وتقلد أعباء الدولة، سار على ذلك النهج القويم، وأشهد بالله إني سمعت المعلقين السياسيين من البريطانيين يبدون تحفظا شديدا في استطاعة الحسن الثاني أن يتم حل المشاكل التي بدأ يسعى في حلها والده، وأن يحافظ على الاستقرار، وهيبة الدولة والصولة التي كانت لوالده رحمه الله في داخل المملكة وخارجها لعلمهم بصعوبة تلك المشاكل وشدة تعقدها، ووجود العقاب في طريق حلها، وأخذ أولئك السياسيون يراقبون سير الحسن الثاني، ويحصون خطواته، فأخذ ريبهم يتبخر ويذوب شيئا فشيئا، فما دار الحول على حكمه حتى زال عنهم كل ريب، وانطلقت ألسنتهم بالإعجاب والإجلال.
ومن حدث عما يذاع في إذاعة لندن العالمية، فإنه لا يفشي سرا، وقد وفقه الله لحل تلك المشاكل السياسية والاقتصادية على وجه فوق ما كانوا يتصورون، ثم حدثت له مشاكل أعظم منها، فسلك فيها مسلك الحكيم البارع المتوكل على الله، المتنبرئ من حوله وقوته، فخرج منها مظفرا مؤيدا منصورا أقوى مما كان حين دخلها، وانعقد الاجتماع اليوم على كفاءته ونبوغه، وكمال سياسته.
أما عنايته بكتاب الله وسنة رسوله، فقد بذل ذلك جهودا محمودة، وسعى مساعي مشكورة، فمنها تأسيسه لدار الحديث، وهي أمنية لطالما أخذت بألباب الملوك السابقين، ولكن الله ادخرها لهذا الإمام الجليل، وكم ترك الأول للآخر، ولا حاجة إلى شرح ما لهذه المنقبة من الأهمية، فإنها قائمة بعينها تحدث عن نفسها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فله أجر مائة شهيد. وفي دار الحديث إحياء سنن كثيرة.
ومنها مدارس القرءان التي أمر نصره الله بإنشائها في جميع أنحاء المملكة، ولا تزال في أول نشأتها لا تخلو من ضعف، وكذلك الأمور في بدايتها، وأول الغيث قطر ثم ينسكب.
ومنها المحافل القرءانية السنية التي يقيمها في كل سنة، ويدعو لها كبار العلماء من أنحاء الدنيا وأرجائها.
ومنها خطبه البليغة التي صرح فيها أيده الله بنصره بوجوب إتباع الحجة، وترك الرأي والتقليد. ومنها كثرة الدعاء في عهده الميمون إلى الإصلاح بإتباع كتاب الله وسنة رسوله، وترك كل ما خالفهما، فإن ذلك يقع بحضرته الشريفة، كما هو ظاهر من خطب العلامة الفاروقي، ويقع في أنحاء مختلفة من مملكته المحروسة بالله على أيدي دعاة يصرحون بالحق كله، ولا يستطيع مخالفوهم على كثرتهم أن يمنعوهم، وأرجو أن أكون منهم، فإني كنت في العراق قبل ثورة عبد الكريم قاسم أدعو إلى اتباع الكتاب والسنة عشرات السنين، وكان المفسدون والمعارضون كثيرا ما يوسوسون إلى ملوك العراق، و يلقبونني بألقاب تدعو إلى الريبة، فلم ينجحوا قط في ذلك.
فلما جاء عبد الكريم قاسم اشتدت الأزمة وضاق الحبل على الودج، لأنه أطلق العنان للفوضويين والشيوعيين يقتلون ويخنقون ويسلحون في الشوارع في رابعة النهار، وأخيف العلماء ودعاة الإصلاح، وزلزلوا زلزالا شديدا، وصار الشيوعيون، وإن كانوا كاذبين في شيوعيتهم يتجمهرون أمام مسجدنا، فخاف التلاميذ على أنفسهم وتفرقوا، وكذلك المصلون الجمعة، وما استطعت الخروج من العراق إلا بعد اللتي والتي، فرجعت إلى وطني ومسقط رأسي ووطن أجدادي، فوجدت أبوابه مفتحة، وما رأيت من ملكه وزعيمه الإمام محمد الخامس إلا كل ترحيب وإقبال، وكذلك خلفه الأبر الملك العبقري الهمام أبو محمد الحسن الثاني، زاده الله نصرا على نصر، وتوفيقا على توفيق، وخلد ملكه، وأطال عمره، وبارك في ولي عهده، وأقر به عينه وعين شعبه، وبارك في جميع آل هذا البيت الكريم.
بقيت لي كلمة أقولها راجيا من ملكنا الهمام أن يتسع صدره لها، كما اتسع صدر سلفه الإمام إسماعيل لنصيحة الشيخ اليوسي، وهي أن القدر الذي يريده جلالته من إصلاح أمور الدين، وتحقيق أتباع الكتاب والسنة، قولا وعملا وحكما، إذ بذلك تنال السعادة العاجلة والآجلة، ويتشتت شمل الأعداء، ويقضي عليهم القضاء المبرم، ويقوم الملك على أساس متين، وتصلح السياسة، ويسعد الراعي والرعية لما نصل إليه حتى الآن، فأرجو من جلالته، ويشاركني في هذا الرجاء جميع دعاة الإصلاح أن يجرد عزمة حسنية علوية هاشمية لتحقيق تلك الأمنية وقطع دابر أهل الفساد، ولا يعينه على ذلك، ويبلغه إليه إلا الله وحده، ثم صالحوا المؤمنين.
وأنا أعلم بالعقبات الكؤود التي تقف في طريق هذا الإصلاح، وأن الذنب في ذلك ذنبنا جميعا كل على حسب قدرته، ولكن :
إذا كان عون الله للمرء ناصرا *** تهيأ له من كل صعب مراده
وإذا العناية لاحظتك عيونـهـا *** نم فالمخاوف كلهـن أمــان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل *** واقتد بها الجوزاء فهي عنــان
وهذه العناية الربانية هي التي نسأل الله تعالى أن تكون مصاحبة لعبده الخاضع لأمره، الحسن الثاني وولي عهده سيدي محمد.
منقبة عظيمة للحسن الثاني
كنت أريد أن أخص هذه المنقبة بمقال حتى جاءت هذه المناسبة المباركة، فليكن جزء مقال، وهذه المنقبة العظيمة هي طبع كتاب (التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد) تأليف الإمام الحافظ، إمام المغرب الكبير باتفاق أئمة الشرق والغرب العالم البحر، والمسند الأكبر، أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري رحمه الله، ولا أريد أن أذكر فضائل هذا الإمام، لأنها مشهورة، لها غرر معلومة وحجول، فهي في كتب أسماء الرجال مبسوطة، وفي مقدمة كتاب ( التمهيد) مسطورة، ولكني أريد أن أسجل هنا كلمتين أولاهما في المؤلف- بكسر اللام- وثانيهما في المؤلف – بفتحها- أما الأولى فقد قال الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (238 حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) ما نصه:
وقيل : بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس، رواه ابن حاتم عن ابن عمر، وفي صحته أيضا نظر، والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري إمام ما وراء البحر، وإنها لإحدى الكبر، إذ اختاره مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. أهـ
أقول : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالا للشك أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وليس مقصودي تحقيق القول في هذه المسألة، وإنما الذي يهمني هنا هو شهادة ذلك الإمام الحافظ لأبي عمر بن عبد البر، بأنه إمام ما وراء البحر، ومعنى ذلك أنه إمام المغرب كله من مصر إلى سنكال. وهذه شهادة لها قيمة رفيعة.
أما الثانية فهي مذكورة في مقدمة كتاب التمهيد؛ وهي للإمام الحافظ أبي محمد علي بن حزم رحمه الله قال : التمهيد لصاحبنا أبي عمر بن عبد البر، لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا، فكيف أحسن منه. وقال: وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي بلغها، واستق الاعتداد به في الاختلاف، مسعود بن سليمان، ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر. انتهى.
ومن أراد أن يعرف قيمة هذه الشهادة فليطالع كتاب المحلى لابن حزم ليرى شدته وصرامته، وغلظته على مخالفيه كائنين من كانوا، لا يهاب أحدا. ومن المعلوم أن ابن حزم يخالف ابن عبد البر في المذهب أصولا وفروعا ولكن عبقريته ألانت قناة ابن حزم التي لم تلن قط لغامز، فهي كقناة عمرو بن كلثوم وقبيلته التي يقول فيها مخاطبا الملك عمرو بن هند:
قَنَاتَنا يا عَمْرُو أعْيََتْ *** عَلى الأعْداءِ قَبْلَكَ أنْ تَلينا
إذا عَضّ الثِّقافُ بها اشْمَأزّتْ *** وَوَلّتْهُ عَشَوْزَنَةً زَبُونَا
عَشَوْزَنَةً إذا انْقَلَبَتْ أرَنّتْ *** تَشُجّ قَفَا المُثَقِّفِ وَالجَبينا
وقد ألف هذا الكتاب العظيم منذ ما يربو عن تسعمائة سنة. ولاشك أن نشره ودراسته التي لا تتأتى إلا به لم يزل أمنية كل عالم، وكل ملك وأمير، وكل غني ورئيس، ومن جملة الملوك الذين كانوا يتمنون نشره السلطان العالم الجليل مولاي عبد العزيز بن الحسن، كما أخبرني بذلك مرارا، وأخبرني أن والده السلطان المكرم مولاي الحسن بن محمد أعطاه نسخة مخطوطة من التمهيد قال : وهي باقية ضمن كتبي بفاس، وسبب إخباره بذلك لأول مرة أني قلت له : أني سمعت أن الإمام عبد الله السنوسي كانت عنده نسخة كاملة من التمهيد، فقال لي : لا أدري، ثم ذكر لي الخبر المتقدم، ومنه نعلم عناية السلطان مولاي الحسن بن محمد بهذا الكتاب أيضا، فلم يتح لواحد منهم أن ينشره، ولا بتكثير المخطوطات، ولا بالطبع حتى كاد ينقرض، ولكنها مكرمة ومفخرة ادخرها الله تعالى لجلالة الملك الحسن الثاني، وهي يد بيضاء على كل طالب علم وعالم، لا من المسلمين فقط، بل من جميع البشر، فلا توجد خزانة في الدنيا، لا في أمريكا ولا في أوربا، ولا في آسيا تستغني من نسخة فأكثر، ولا أقصد خزائن الأفراد، بل جميع الخزائن العامة التابعة للجامعات وغيرها.
وسيحدث نشر هذا الكتاب انقلابا عظيما في دراسات الفقه على جميع المذاهب الإسلامية، ولذلك التمس بالنيابة عن كل طالب علم في الدنيا من جلالة الملك المظفر، ثم من معالي وزير الأوقاف الأستاذ الحازم السيد الحاج احمد بركاش التعجيل بإنجاز طبع هذا الكتاب، وبذل كل جهد في ذلك، فإن للتأخير آفات.
ولي التماس آخر، وهو أن يباع الكتاب بالدراهم وأن لا يوهب إلا لضرورة، أو للخزائن العامة، أما العلماء وطلبة العلم، ومن يريدون أن يزينوا خزائنهم، فالواجب الحتم أن يؤدوا ثمنه، وحسب الوزارة كرما أن يكون الثمن معتدلا فإن هذا الكتاب لا ينشر النشر اللائق به إلا إذا بيع، وحجتي على ما ذكرت القصة التالية :
من المعلوم أن الكاتب القصصي (برناردشو) الإنكليزي الشهير، كانت القصة الواحدة من تأليفه يبلغ حق طبعها عشرين ألف جنيه فأكثر، وتتنافس فيها الدول لا الناشرون فقط، ومن المأثور عنه أنه ألف كتابا، فلما طبع، كتبت إليه رئيسة ناد نسائي تلتمس منه أن يقدم لخزانة النادي نسخة من ذلك الكتاب على سبيل الهدية، فكتب لها في الجواب: أن الكتاب الذي لا يدفع ثمنه لا يقرأ، فصدمت بخيبة الأمل، وقصدت بائع كتب لتشتري نسخة من ذلك الكتاب، فاشتكت لذلك البائع غلبة المادية على المؤلفين وبخلهم وزدهم في التبرع للنوادي الخيرية وحكت له قصتها مع برناردشو، فقال لها : وأين جواب برناردشو الذي كتب إليك؟ فأرته إياه، فقال لها : أنا أقبل هذا الجواب ثمنا لهذا الكتاب، ففرحت بذلك ومنحته إياه، فباعه هو من شخص آخر يجمع الآثار والتواقيع بخمسة دنانير.
أقول هذا : وأنا مستعد أن أدفع ثمن النسخة من كتاب التمهيد التي تكرمت وزارة الأوقاف الموقرة بإهدائها إلي المجلد الأول منها. والذي يحملني على ذلك حرصي على نشر هذا الكتاب، فجزى الله الملك الحسن الثاني على هذه اليد البيضاء أحسن الجزاء، ووفقه إلى أمثالها وأمثال أمثالها إنه سميع مجيب.
مكناس: الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق، العدد 4 ـ السنة 11. ذو القعدة 1387هـ/يناير 1968م. ص: 13-15