طالما خطر ببالي أن أكتب سلسلة مقالات أعرف بها القراء فضائل هذا العلم ومكانته بين العلوم وما خصه الله به من الخواص والمزايا ومناقب أهله ومآثرهم وحاجة الناس إليه وإليهم. فلما ألهم الله جلالة الملك الحسن الثاني فكرة إنشاء دار الحديث وإخراجها إلى حيز الوجود في أواخر رمضان الماضي. وهي فكرة وعمل يغبطه عليه جميع ملوك المسلمين ورؤساء دولهم في هذا العصر. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البجلي في حديث طويل سيأتي بطوله إن شاء الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعد من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
أقول لما ألهم الله جلالة الملك أبي محمد الحسن الثاني هذه الفكرة ووفقه لهذا العمل المبرور كان ذلك منشطا لهمتي وحافزا لي على المبادرة إلى كتابة هذه المقالات وإخراجها من حيز الفكر إلى حيز العمل. ولم يأت جلالة الملك الحسن الثاني ببدع في هذا العمل، فإن مجالس أسلافه الأكرمين كانت مدارس حديث طول أعمارهم، بل ظهر منهم أئمة في الحديث، كسيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل الذي صنف في هذا العلم وانتسب إلى أهله ونصره نصرا مؤزرا، ولم تشغله الفتن التي كانت منتشرة في زمانه، والدسائس في الداخل والخارج عن رفع لواء علم الحديث والمجاهرة بترك العقيدة الأشعرية والانتساب إلى عقيدة أهل الحديث. وليس المراد بالعقيدة الأشعرية، عقيدة أبي الحسن الأشعري نفسه، فإن عقيدته هي عقيدة جميع السلف ولم يفارقها سيدي محمد بن عبد الله، وإنما فارق العقيدة المنسوبة إليه الشائعة عند المغاربة. ومن ارتاب في اختلاف هذه العقيدة المنسوبة إليه مع عقيدته الحقيقية، فليقرأ كتابه (مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين) طبع في إسطنبول، وكتابه الإبانة، في أصول الديانة، طبع في دمشق. وكتاب تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، للحافظ بن عساكر، طبع في دمشق. فقراءة واحد من هذه الكتب تجلو غمام الشك والارتياب، وتكشف عن وجه الحقيقة النقاب.
ولم تكن العناية بعلم الحديث عند العلويين رحمهم الله خاصة بالملوك، بل كانت عامة في أعيانهم وديدنا لازما لهم. فقد كان مولاي رشيد بن محمد نزيل سجلماسة رحمة الله عليه كالحال المرتحل، لا يختم كتابا من كتب الحديث إلا بدأ في كتاب آخر يجتمع عليه علماء القطر لا يفتر من ذلك ولا يسأم أبدا. وقد أخذني أبي عبد القادر بن محمد الهلالي، وكان من جلسائه في جملة العلماء، إلى قصر مولاي رشيد في قرية أولاد عبد الحليم لحضور ختم كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله، وحضرته وأنا صغير مميز، ولم يكن هناك صبي غيري، وقد اجتمع عنده علماء تفيلالت، أعني خاصتهم وأعيانهم، إذ لم يكونوا كثيرا، فلما انتهى الدرس نصبت المائدة فتغذينا معه رحمه الله. واشتغاله طول عمره بكتب الحديث معروف مشهور في بلادنا.
ونحن نؤمل ونرجو لهذه الدار أن تكون عامرة بالعلم والعمل يشع نورها إلى السماء وينتشر في الآفاق، وأن يختار لها من العلماء والتلامذة الأكفاء المخلصون الذين يطبقون بالجنان والأركان ما يقولونه باللسان المتصفون بقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) فبمطابقة اسمها لمعناها تكون فاتحة عهد جديد يسري أثره في نواحي عديدة في سائر الشعب المغربي خاصته وعامته فيبعث بها العلم من مرقده ويعتز بها الإسلام ويخذل بها دعاة الكفر والفسوق، فيعودون إلى أجحارهم مرجومين بأحجارهم. وبذلك يتكامل حسن هذا العهد الحسني، وتؤتي أشجاره أكلها، ويعود الدين إلى سابق عهده، وغابر مجده، وسلطانه وهيمنته على الراعي والرعية، والرئيس والمرؤوس.
ولا يخفى أن دار الحديث هي دار القرآن، لأن خدمة الحديث، إنما هي وسيلة لفهم القرآن، وفهم القرآن وسيلة لتحكيمه والعمل به. وتحكيمه والعمل به وسيلة للسعادة العظمى، سعادة الدارين.
تل السعادة أن تلمم بساحتها *** فحط رحلك قد عوفيت من تعس
والسنة المحمدية هي بيان للقرآن وتوضيح لمعناه بالقول والفعل والتقرير، برهان ذلك قوله تعالى في سورة النحل 45 (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) يقول الله تعالى، وأنزلنا إليك القرآن الذي هو تذكرة لك ولقومك، لتوضح للناس ما نزل إليهم بأقوالك وأفعالك وتقريرك وتروكك، جمع ترك، وهو ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون العبادات، لا يجوز أن يفعله من يقتدي به اقتداء حسنا.
ثم لا بد لهذه الدار من اللغة العربية التي هي مفتاح القرآن والحديث والهادية إلى أسرارهما وكنوزهما. فإن المحدث إذا كان جاهلا بالعربية ينطبق عليه ما قال الشاعر:
إن من يقرأ الحديث وليس *** له نحو ولا له آلاته
كحمار قد علقت ليس فيها *** من شعير برأسه مخلاته
سمعت هذين البيتين من الأستاذ الأديب الشيخ أحمد سكيرج. وكان شاعرا أديبا لطيف المحاضرة، لا يخلو مجلس له من أدب، وكان ينظم البيت من الشعر في الجد أو في الهزل فيأمرني بالإجازة، فأشفعه ببيت آخر. وأحيانا ينظم الشطر الأول فيأمرني بإكمال البيت. وفي بعض الأحيان يأتي بسجعة فأشفعها أنا بأخرى، ثم ينشئ هو ثالثة وأنشئ أنا رابعة، وهكذا ودواليك. ومرة أنشد البيت الأول من البيتين المذكورين، فظننت أنه يسجع ويريد مني سجعة تالية، فقلت، على البديهة (كالحمار علقت عليه مخلاته) فقال لي، هل تحفظ هذين البيتين، فقلت، لا، إنما ظننت، أنك تريد المساجلة في السجع، فتعجب من ذلك وأنشدني البيت الثاني بتمامه. ولهذا الأستاذ فضل علي يجب أن أذكره فأشكره. وأعظم معروف أسداه إلي شفاعته لي عند القنصل الفرنسي في وجدة ونائبه في إخراج جواز السفر. وخاطر بنفسه فضمنني، ومع أني لم أوف بضمانه، بل حاربت الاستعمار الفرنسي، لم يتغير علي رحمه الله.
وبعد هذا الاستطراد أعود إلى الموضوع فأقول أن آلات فهم القرآن زيادة على علوم اللغة العربية، علوم القرآن الخاصة به وعلوم الحديث الخاصة به، ومعرفة الأصول التي تستنبط بها الأحكام من الكتاب والسنة. وفي رأيي لا بد لطلاب علم الحديث والقرآن في هذا الزمان أن يتقنوا لغة أجنبية كالإنجليزية والفرنسية، لأجل أن يعملوا بالحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن بريدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) فمقتضى هذا الحديث وما في معناه يوجب على كل من تعلم شيئا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغه. وحذف المعمول في الحديث يدل على تعميم التبليغ، كقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) المائدة 68، أي بلغه جميع الناس. فكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، بلغوا عني، ليس معناه بلغوا العرب وحدهم، أو كل من يعرف العربية، بل المراد تبليغ جميع الأمم بألسنتها حتى تعرف محاسن الإسلام وترغب فيه، وحينئذ ستتعلم وتعلم أبناءها لغة القرآن ليتدبروه بأنفسهم ويذوقوا طعمه بعقولهم، ولا يكتفون بالترجمة كما يفعله خطأ في هذا الزمان كثير من الشعوب الإسلامية، فنراها تركب الصعب والذلول في تعليم أبنائها لغة المستعمر الأجنبية وتأخذها نشوة وطرب إذا رأت أبناءها وبناتها يتراطنون باللغة الأجنبية وتهجر لغة القرآن فلا تنفق عليها وقتا ولا مالا ولا تبذل لأهلها جهدا. والذي يعد نفسه منهم متمسكا بالدين يكتفي بترجمة القرآن. ولا أقول، إن هجر القرآن والحديث خاص بالشعوب العجمية المسلمة، فإن الشعوب العربية لا تقل عنها زهدا في القرآن والحديث، مع أنهما بلغتها، ولا تحتاج من بذل الجهد في تعلم اللغة العربية، لغة القرآن والحديث مثل ما تحتاج إليه الشعوب العجمية. فصدق عليهم قوله تعالى في سورة الفرقان 28-31 (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا).
أما الأمة التي لم تبلغها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل الذي تقوم به الحجة فلا بد من تبليغ القرآن والحديث لها بلغتها. وقد جاء في الخبر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصروا حصنا في بلاد فارس واستعصى عليهم فتحه، وكان فيهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقرأ على أهل ذلك الحصن سورة الفاتحة وترجم معناها لهم بالفارسية، فأخبرهم أن المسلمين لا يقصدون استعبادهم ولا قهرهم ولا إهانتهم، وإنما يريدون أن يبلغهم رسالة الله التي جاء بها عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أن دين الإسلام هو دين العدل والمساواة بين الناس، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بتقوى الله العظيم. ففتحوا الحصن وأسلموا عن بكرة أبيهم. وسلمان هذا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت. رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك على الصحيحين. وأخرج الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في الاستيعاب بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه سئل عن سلمان فقال، علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت. قال تقي الدين، قوله علم العلم الأول والآخر. جاء في بعض الروايات مفسرا، أن العلم الأول هو الإنجيل، والعلم الآخر هو القرآن والحديث. فكيف لا يقرر سلمان المساواة، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، وهذا هو القضاء المبرم على نظام الطبقات الذي كان سائدا قبل الإسلام ولا يزال بعضه موجودا إلى الآن.
قلت فيما مضى، إن هذه المنقبة التي وفق الله لها جلالة الملك الحسن الثاني يغبطه عليها كل ملك وكل رئيس مسلم، وهذا القول له دليل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)، قال تقي الدين: والحكمة هي حديث النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى في سورة الأحزاب 35، (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) والذي كان يتلى في بيوتهن، هو كتاب الله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى في سورة الجمعة 3، (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، ومن أسس دار التعليم الحكمة فقد علمها على أكمل وجه. فيجب على كل مسلم أن يغبطه. فإن معنى الحسد في هذا الحديث، هو الغبطة، وأما الحسد بمعنى تمني زوال النعمة فهو مذموم، وهو من الكبائر. وعسى رؤساء الدول الإسلامية، إذ فاتهم السبق إلى هذه المنقبة، ألا يفوتهم الاقتداء بجلالة الملك الحسن الثاني فينشئوا كليات على غرارها إحياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورفعا لمنار الإسلام، فإن الله لا يرفعهم إلا بذلك. فقد روى الترمذي بإسناده إلى بلال بن الحارث المزني قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء). وروى الترمذي عن عمرو بن عوف قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبي للغرباء، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي) قال الترمذي، حديث صحيح. وقد سمعت من ثلاثة أيام من إذاعة لندن العربية خبر تأسيس كلية لدراسة علوم القرآن والحديث. ولا بد أن يكون هذا التأسيس صادرا عن إرادة الملك إدريس السنوسي. ولا غرابة في ذلك، فإن جده الإمام المجتهد المحدث محمد بن علي السنوسي المغربي كان من أئمة الحديث المتأخرين،وألف كتبا قيمة في الدعوة إلى علوم الكتاب والسنة دراسة وعملا وأقام الحجج القاطعة على بطلان التقيد ووجوب العمل بالكتاب والسنة واستجاب له خلق كثير فأخذوا يعملون بالكتاب والسنة ولا يلتفتون إلى ما خالفهما كائنا ما كان. ولا أستحضر الآن تاريخ وفاة هذا الإمام، ولكني لا أظن أن عصره كان بعيدا من عصر الإمام محمد بن الله بن إسماعيل العلوي. وقد سافر الإمام محمد بن علي السنوسي من وطنه المغرب الأقصى واستقر في ليبيا وأسس فيها المدارس ونشر علم الكتاب والسنة. فهذان إمامان مغربيان من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، نهضا في عصر واحد لإحياء علوم الكتاب والسنة وألفا فيها ودعوا الناس إليها، فلا غرو أن يقوم من آلهما في هذا الزمان إمامان عظيمان يقتديان بهما ويمدان حبل دعوتهما التي هي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم جدهما، ولهما ولغيرهما فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله ذكرا كثيرا. وإذا كان إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بدعوته وتجديد دينه فرضا واجبا حتما لازما على كل مسلم، فهو على آل بيته، وخصوصا الملوك والرؤساء منهم أوجب وألزم.
ومع أن تأسيس دار الحديث عمل جليل أحيا به الحسن الثاني سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكفينا من جلالته، بل نرجو أن يكون أول الغيث وأن يتبعه تحكيم الكتاب والسنة في سائر أرجاء مملكته تحكيما تاما شاملا عاما، بحيث لا يحكم حاكم إلا بهما، ولا يفتي مفت إلا بالاعتماد عليهما، ولا يقتدي إلا بهما، فهما الشمس والقمر اللذان بهما وحدهما تستضيء الأمة وتخرج منتصرة من كل كرب وغمة. وقد سبق إلى الإشارة إلى هذا المعنى أخي الأستاذ العبقري السيد عبد الله كنون في مقال نشره في مجلة دعوة الحق في الجزء الخامس من السنة السابعة تحت عنوان (دار الحديث، أفق جديد في ثقافتنا الإسلامية) وذكر بالنهضة الموحدية لإحياء علوم الكتاب والسنة وتحكيمها والعمل بهما. ونرجو أن تكون هذه المؤسسة فاتحة نهضة حسنية علوية محمدية تقر بها عيون المؤمنين وتسخن بها عيون أعداء الدين، لا في المغرب وحده، بل في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا ما تقتضيه النصيحة المفروضة علينا معشر طلبة العلم، خصوصا والمسلمين عموما، أن نبذلها خالصة لمن ولاه الله أمر عباده وبسط يده في بلاده، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، ثلاثا، قلنا لمن يا رسول الله، قال، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). قال الحافظ ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) في شرح هذا الحديث. وأما الثاني، وهو النصح لولاة الأمور ونصحهم لرعاياهم. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى عليه وسلم قال: إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. وفي المسند وغيره عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في خطبته بالخيف من منى، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين.
قال تقي الدين، معنى هذا الحديث، إن من كانت فيه هذه الخصال الثلاث، وهي إخلاص العمل الذي يراد به وجه الله لله وحده لا شريك له، بحيث يكون خاليا من الشرك الأكبر، كدعاء غير الله والذبح والنذر له والاستغاثة به والاستعانة به فيما لا يقدر عليه إلا الله، كإنزال المطر وإعطاء الأولاد وما أشبه ذلك، وخاليا أيضا من الشرك الأصغر. وهو أن يعمل العمل مما يراد به وجه الله، كالصلاة والزكاة والحج وتعليم العلم والجهاد ليراه الناس ويمدحوه. ومناصحة ولاة الأمر، بذل النصيحة وعدم الخروج عليهم ما أقاموا الدين، والدفاع عنهم ومحاربة من أراد أن يشق عصا الطاعة وطاعتهم إذا لم يأمروا بمعصية الله وإرادة الخير لهم. وأما لزوم جماعة المسلمين، المراد بالجماعة هنا أهل الحق المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله، وإن كانوا قليلا. من كانت فيه هذه الخصال يكون قلبه طاهرا من الحقد والضغن على المسلمين، ويكون ممن شرح الله صدره للإسلام فهو نور من ربه. ثم قال ابن رجب في شرح الحديث مبينا ما يجب على ولاة الأمور من النصح لرعيتهم ما نصه: وفي الصحيحين عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحته إلا لم يدخل الجنة. وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام، أنهم نصحوا لأممهم كما أخبر الله بذلك عن نوح وعن صالح، وقال، ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله. يعني أن من تخلف عن الجهاد لعذر فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله في تخلفه، فإن المنافقين كانوا يظهرون الأعذار كاذبين ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله. ثم نقل ابن رجب عن الإمام محمد بن نصر المروزي أنه شرح النصح لأئمة لمسلمين بقوله: والنصيحة لأئمة المسلمين، معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك.
وقال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به ونهيهم وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الجروح بالسيف عليهم، وتأليف قلوب المسلمين لطاعتهم. قال الخطابي، ومن النصيحة لهم، الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة. وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح.
قال تقي الدين، وقد رحلت في طلب علم الحديث من المغرب، غربا إلى كلكتا شرقا وإلى كابل في أفغانستان، فلم أجد من مدارس الحديث التي يدرس فيها الحديث والقرآن بقصد الاعتقاد والعمل، إلا مدارس أهل الحديث بالهند، وإلا مدرستين إحداهما بالمدينة النبوية، والأخرى بمكة، وقد أسسهما أهل الحديث الهنديون، ولكن طائفة أهل الحديث بالهند ضعفت عما كانت عليه بسبب موت العلماء وعدم وجود من يخلفهم. وقد أسس الإمام السيد رشيد رضا صاحب المنار رحمه الله مدرسة الدعوة والإرشاد في القاهرة، ولكني لم أدركها. أما السيد رشيد رضا نفسه فقد أدركته وكنت أزوره وأتردد إليه مدة إقامتي بمصر. ولم تنقطع المكاتبة بيني وبينه حتى توفي رحمه الله. ونشر لي في المنار كتاب القاضي العدل في حكم البناء على القبور ومقالات أخرى. ولقيت أصحابه المتخرجين في مدرسة الدعوة والإرشاد، ولم يبق منهم إلا اثنان، أحدهما الأستاذ الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة مدير دار الحديث بمكة، والآخر هو الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار بدمشق، ولا أعرف أحدا يساويهما في علم الحديث في البلاد العربية.
وقد عم الجهل بعلوم السنة المحمدية منذ قرون في جميع البلاد الإسلامية ما عدا طائفة أهل الحديث في الهند كما تقدم. ولما زرت مصر سنة 1341 للهجرة لقيت في جملة من لقيته من العلماء فضيلة الأستاذ الشيخ علي الزنكلوني، وهو من طبقة العليا من علماء الأزهر، فتذاكرت معه في علم الحديث، فقال لي في أثناء حديثي معه، كم حديثا تحفظ، فقلت له لا أدري. أحفظ بعض متون الحديث، بعضها أعرف صحابيه ومخرجه ودرجته من الصحة والحسن والضعف، وبعضها لا أعرف إلا متنه ومخرجه، وبعضها لا أعرف إلا المتن وحده، فقال لي أنا لا أشك في أنك تحفظ ثلاثمائة حديث على أقل تقدير. وأنا أخبرك أنه لا يوجد من علماء الأزهر كلهم من يحفظ عشرة أحاديث. إنما نقرأ سوادا في بياض. وما قرأناه من الحديث لا نعرف منه صحيحا ولا ضعيفا.
قال تقي الدين: ولا شك أن في هذا الكلام كثيرا من التواضع، ولكن أكثر علماء الأزهر في ذلك الزمان ينطبق عليهم ما قاله ذلك الشيخ. ولأجل أن يعرف القارئ أن هذا الداء قديم وأنه عام تقريبا في البلاد الإسلامية أنقل هنا ما قاله الإمام المجتهد بقية السلف، وعمدة الخلف، المحدث الرحال صالح بن محمد الفلاني، نسبة إلى فلان قبيلة بالسودان المغربي في كتابه (أيقاظ همم أولي الأبصار، للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار) طبع في مصر سنة 1354 بالمطبعة المنيرية ص 80.
واعلم رحمك الله تعالى، أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا، قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه المتهم. وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم. فطائفة تروي الحديث وتسمعه، قد رضيت بالدؤوب في جمع ما لا يفهم، وقنعت بالجهل في حمل ما يعلم، فجمعوا الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والحق والكذب في كتاب واحد، وربما في ورقة واحدة، ويدينون بالشيء وضده، ولا يعرفون ما في ذلك عليهم، قد شغلوا أنفسهم بالاستكتاب عن التدبر والاعتبار. فألسنتهم تروي العلم، وقلوبهم قد خلت من الفهم. غاية معرفة أحدهم معرفة الكتب الغربية، والاسم الغريب، والحديث المنكر. وتجده قد جهل ما لا يكاد يسمع أحدا جهله من علم صلاته وحجه وزكاته. وطائفة هي الجهل كتلك أو أشد، لم يعنوا بحفظ سنة، ولا بأصل من القرآن، ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل، فحفظوا تنزيله، ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله، ولا وقفوا على أحكامه، ولا تفقهوا في حلاله وحرامه. وقد طرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيها وأضربوا عنها. فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عولوا على حفظ ما دون لهم من الرأي والاستحسان الذين كان عند العلماء أخر العلم والبيان. وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم فيه، ويودون أن حظهم السلامة منه.
ومن حجة هذه الطائفة فيما عولوا عليه، من ذلك أنهم يقصرون وينزلون عن مراتب من له القول في الدين لجهلهم بأصوله، وأنهم مع الحاجة إليهم لا يستغنون عن أجوبة الناس في مسائلهم وأحكامهم. فلذلك اعتمدوا على ما قد كفاهم الجواب فيه غيرهم، وهم مع ذلك لا ينفكون من ورود النوازل عليهم، فيما لم يقدمهم فيه إلى الجواب، فهم يقيسون على ما حفظوا من تلك المسائل، ويعرضون الأحكام فيها، ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة، وعلماء الأمة. فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره، ولو علموا أصول الدين وطريق الأحكام وحفظوا السنن، كان ذلك قوة لهم على ما ينزل بهم، ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه وعادوا صاحبه فهم يفرطون في انتقاص الطائفة الأولى وتجهيلهم وعيبهم، وتلك تعيب هذه بضروب من العيب، وكلهم يجاوزون الحد في الذم. انتهى كلام الفلاني.
أقول هكذا كانت حال علوم الكتاب والسنة في زمانه في بلاد السودان والمغرب الأقصى. فإنه ولد بالسودان في بلد آبائه العمرين -نس- من إقليم فوت جلوا سنة 1166هـ. وتوفي بالمدينة النبوية سنة 1218هـ.
أما في زماننا هذا. فالطائفة الأولى تقتصر على سرد أول حديث من صحيح البخاري وآخر حديث منه مع ذكر أسانيدهما في المناسبات للتبرك المجرد بلا فهم ولا عمل، وإذا تعدوا ذلك سردوا في رمضان بعض فصول كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري سردا مجردا بلا شرح ولا استنباط. أما الطائفة الثانية فإنها تتعاطى بعض المختصرات الفقهية في الفروع المذهبية دون معرفة خلاف ولا وفاق، فضلا عن الترجيع بالدليل والبرهان. وبالجملة، نقول أن تأسيس كلية لعلم الحديث والقرآن وما يخدمهما من العلوم في هذا الزمان على أساس متين على نهج السلف الصالح من التحقيق والاستنباط والتبصر يعد بحق فتحا جديدا. ولذلك تلقينا هذه البشرى بهذا القدر من الفرح، وقد حركت القريحة الخادمة مؤملا أن تجود بشيء من الشعر في هذه المناسبة فتقاعست ولم تجد إلا بشيء تافه لا يسمن ولا يغني من جوع، فترددت في إثباته هنا لتفاهته وقلة غنائه، ثم عزمت على إثباته عملا بقوله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا).
بدار حديث المصطفى حقت البشرى *** فأشرقت الآفاق وامتلأت بشرا
هي الفكرة الحسنى بها الحسن ارتقى *** إلى ذروة الإحسان وهو بها أحرى
فلا شك أن الله ألهم عبده *** لذا العمل المبرور والنعمة الكبرى
وصية خير الخلق طرا وعهده *** إلى أمة القرآن يا سعد من برا
على حين عم الجهل في الناس كلهم *** ولا سيما بالذكر والسنة الغرا
وشاع ابتداع فاتك في ربوعهم *** فأظلمت الأرجاء وامتلأت نكرا
وساد رؤوس الجهل واشتد كيدهم *** وقد أضمروا للأمة المكر والغدرا
مضوا يسلبون المال والعقل والهدى *** ويستعبدون الناس بالحيل الحقرا
فأطلعها نورا يضيء حنادسا *** من الجهل ذاق الناس من طعمها المرا
وأحيا من الآمال ما كان ميتا *** فأصبح ثغر العلم والدين مفترا
ومن يحيى سنات الرسول وهديه *** يهيئ له الرحمن من أمره يسرا
ويعظم له أجرا ويرفع ذكره *** ويبلغه آمالا ويشرح له الصدرا
ومن رام من أعدائه أن يكيده *** يبغي فإن الله يمنحه النصرا
ومن ينصر الرحمن ينصره عاجلا *** وينصره يوم الحشر في النشأة الأخرا
ومن يقرأ القرآن من غير سنة *** يضل ويلقى في عواقبه خسرا
فتفسير قول الله هدي رسوله *** وذلك في القرآن متضح يقرا
فيا أيها الملك الهمام الذي سرت *** بأخباره الركبان تنشرها نشرا
وما زال بالأفعال يشفع قوله *** فتبني له بين الورى المجد والفخرا
جزاك إله الناس خير جزائه *** على دار علم شدتها للهدى فجرا
إليك أسوق اليوم نظما ملفقا *** وكان بودي أن أنظمه درا
ولكن هجرت الشعر دهرا فأوصدت *** بوجهي قوافيه وكافأني هجرا
فقابله بالصفح الذي أنت أهله *** وأسدل عليه من جميل الرضا سترا
مكناس: تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق، العدد 7 السنة السابعة – ذو الحجة 1383 – أبريل 1964 – ص 1-7