بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على محمد وعلى آل محمد.
أما بعد فهذه (دفعة) أخرى من أجوبة الأسئلة التي وجهتها اللجنة إلى الأستاذ تقي الدين الهلالي وأجاب عليها الأجوبة التي نشرت في النشرات الخامسة عشرة والسادسة عشرة والثانية والعشرون.
وهي حلقة أخرى من حلقات جهاد المغرب الإسلامي ننشرها خطوة أخرى في سبيل تعريف المسلمين في هذه البلاد بإخوانهم هناك وتذكيرهم بواجبهم نحوهم الذي نسوه، وعملها الذي أهملوه.
أما بعد فهذه ذكرى.. ألا إن الذكرى تنفع المؤمنين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(لجنة المسجد)
س 14 – ماذا تذكرون من مؤامرات الفرنسيين ومكرهم في حرب الإسلام؟
ج 14 – في المثل إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فكذلك يقال أنما استولت فرنسا على المغرب كله يوم استولت على الجزائر، فمنذ ذلك الحين أي منذ قرن وربع طمعت فرنسا في الاستيلاء على الشمال الإفريقي بأسره فاستولت على تونس بعد الجزائر ثم وجهت مكايدها إلى مراكش ومن مكايدها أنها أخدت ترسل دعاتها تارة بشكل أولياء صالحين وتارة بشكل غزاة فاتحين يريدون إنقاذ المغرب من الظلم والفوضى وحفظه من استيلاء الأعداء!!.. وقد كانت تتربص أن يغلب جيش السلطان وتشتعل عليه نار الثورات التي توقدها فرنسا بإرسال الدعاة من الجزائر والأسلحة والأموال حتى إذا رأت أن السلطان قد أحيط به وضاقت عليه الأرض بما رحبت، تقدمت إليه بالمعونة والإنقاذ من أيدي الثوار وبهذه الطريقة استولت على المغرب (مراكش) وبها نفسها عزلت السلطان محمد بن يوسف في هذه الأيام. فهي مكيدة قديمة. وما كانت فرنسا تظهر أنها تحتاج إلى استعمال هذه الطريقة بعد أن فتحت المغرب كله وأخمدت أنفاسه وتمكنت من الأخذ بناصيته لولا نبوغ السلطان ومناصرة الوطنيين لدعوته.
ويحسن هنا أن نخبر القراء الكرام أن فتح فرنسا لمراكش لم يكن بالأمر الهين الذي يتم في يوم أو أسبوع أو شهر، فإنه استمر من عام 1912 إلى 1934 : اثنتين وعشرين سنة كلفت فرنسا على ما ذكره بعض مؤرخيها مئة وخمسين ألف قتيل، وكلفتها سلاحا ونفقات كبيرة، وكان جيش الفتح مشتملا على خليط من جميع أجناس أوربا من الألمانيين والإيطاليين وسائر الأوروبيين ذكر ذلك أمريكي رحال شاهد ذلك الجيش بعينه في رحلته، وهذه المقاومة لم تكن من جيش السلطان ولا من جيش أمير من الامراء، فإن جيش السلطان انكسر في يوم واحد، وإنما كانت من المراكشيين ولم يكونوا مجتمعين، بل كانت تفتحهم بلدا فبلدا وقبيلة فقبيلة. فيجتمع على القبيلة الواحدة الجيش الفرنسي بما فيه من أخلاط وسنغاليين وجزائريين، فلا تزال تقاتل صابرة على الجوع حتى تهدم قراها وتلتجئ إلى المغارات لتضع نساءها وأطفالها فيها.
ومما كتبه الجنرال ليوتي الذي فتح المغرب، كتب ذلك سنة 1923، قال: (قد مضت علينا في فتح المغرب إحدى عشرة سنة وما فتحنا إلا ثلثه). ومن أسباب تأخر هذا الفتح الحرب العالمية الأولى. وقد طلب كثير من ذوي الرأي في فرنسا التخلي عن مراكش إلى أن تنتهي الحرب ثم تعيد فرنسا الكرة عليه ولكن الجنرال ليوتي أبى ذلك وقال لهم: (أعطوني المال وما يفضل عن حاجتكم من السلاح وأنا أضمن لكم المحافظة على ما فتحناه من المغرب، بل أضمن لكم استمرار الفتح (ولو ببطء) فتم له ما أراد.
– كيف كانت فرنسا تفتح البلاد المغربية؟
– كان الجيش الفرنسي إذا استولى على بلد عنوة يصدر القائد أمره (بالسيبة) ثلاثة أيام ومعنى (السيبة) أن كل جندي وجد مالا في بيت من بيوت البلد فهو له وجميع نساء البلد مباحات للجند، فكانت النساء إذا استولى الجيش الفرنسي يهربن هائمات على وجوههن إلى الصحراء فيمتن عطشا وجوعا أو تأكلهن الذئاب.. وإذا كان بقربهن بحر، ألقين بأنفسهن في البحر فرارا من العار وبعد ثلاثة أيام وهي أيام (السيبة) يأمر القائد الفرنسي بجمع الرجال والصبيان المميزين فيفرض عليهم الأشغال الشاقة، وهذه الأشغال لا يلزم أن تكون نافعة للفرنسيين كبناء بيوت أو تعبيد طرق مثلا. بل يقصد بها الإهانة، فيؤمرون مثلا بالتقاط روث الخيل أينما كان! فلا يتركون روثة في الميادين الواسعة. ويؤمرون بنقل الرمل من مكان إلى مكان في ثيابهم التي يلبسونها ويستمرون عل هذا العمل المهين بضعة أيام إلى أن يشفي القائد الفرنسي غيظه. ثم يفرض غرامة على البلد من دراهم وحبوب وغيرها.
ومن معاملة الافرنسيين أنهم يستولون على الأوقاف كلها. أما في الجزائر فقد أخذوها وامتلكوها كما برهن عليه الأمير شكيب ارسلان في مجلة: (LA NATION ARABE)، وأما في مراكش فإنهم يضعون أحد أذنابهم من المغاربة ناظرا على الأوقاف وهم يتصرفون في ريعها وأموالها – ولا يولون إماما أو مدرسا أو مؤذنا أو كناسا للمسجد أو شيخ زاوية من المتصوفين إلا إذا كان من أذنابهم يحث الناس على طاعتهم ويمدحهم في كل مناسبة. وإذا أراد عالم أو أديب أن يبقى على الحياد لا يمدحهم ولا يقدح فيهم ولا يتولى منصبا في الأوقاف الإسلامية فإنهم لا يتركونه أبدا بل يدعونه ويعرضون عليه الوظائف الدينية والعلمية ويقولون له (مثلك لا يبقى عاطلا لا ينتفع الناس منه)، فإذا امتنع عن قبولها سجلوا عليه بأنه عدو فرنسا وأخذوا يضايقونه، إن كان تاجرا يعرقلون تجارته وإن كان مزارعا يفسدون عليه زراعته ويتربصون به الدوائر حتى يجدوا سبيلا لنفيه وحبسه. إذن فليس هناك حياد لدى المستعمرين الفرنسيين فإما أن يكون العالم والأديب بوقا من أبواقهم أو يستعد للعذاب!.. وهذا السبب هو الذي دعاني إلى الخروج من المغرب مع أني كنت في أوائل الشباب إذ عرض علي قاضي القضاة سيدي أحمد سكيرج أن أكون قاضيا في مدينة بقرب (وجدة) (لا أجده أو أجة كما يقول المذيعون)، فلم أقبل بهذا المنصب لأني رأيته هو نفسه وهو قاضي القضاة وعضو في جمعية أوقاف الحرمين وعالم وأديب كبير في كل سبت يجتمع بالـ(CONTROLEUR) المراقب المدني فيعرض عليه قضايا الأسبوع التي جرت في المحكمة ويأخذ رأيه فيها، فقلت في نفسي: هو على جلالة قدره يَخضَع ويُخضِع الشريعة الإسلامية لهذا الكافر فكيف يكون حالي أنا، فأنا لا يتيسر لي إلا حاكم صغير جدا من أمثالي في السن أعرض عليه شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحكم إلا بإذنه، ومع ذلك أقول أنني أحكم بالشريعة الإسلامية. فعزفت نفسي عن ذلك، ومن هذا يعلم القارئ الكريم تدخل الفرنسيين في كل شيء من أمور العلم والدين والدنيا.
ومن مكايدهم للسلطان أنهم يصدرون جميع الأحكام ويرتكبون الجرائم باسمه مدعين أنهم إنما جاؤوا لحمايته من رعيته! ولتنفيذ أمره! ولكنهم يسعون في محو نفوذه فلا يمكنونه من لقاء وفد من وفود رعيته إلا إذا كان الوفد من أذنابهم، ويعملون على تهوين حكمه وتحقير شأنه في الداخل والخارج، فلا يتركون اسمه يذكر خارج المغرب، مثلا في عيد تتويج الملك جورج ملك بريطانيا وجهت الحكومة البريطانية دعوة للسلطان سيدي محمد بن يوسف لحضور عيد التتويج فمنعه الفرنسيون وأرسلوا ثلاثة من الموظفين الأذناب الذين لا يمتون إلى السلطان بصلة نسب ولا شيء، وكذلك في عيد تتويج الملكة الحالية.
ومن مكايدهم في إهانة علماء الدين أنهم يقيمون حفلات خيرية بزعمهم، وفي هذه الحفلات يأتون بالراقصات من بناتهم وهن عاريات لا يستر أجسامهم إلا شيء ضئيل يلبس للزي لا للستر ويبعثون دعوة إلى قاضي القضاة والمفتي والمدرسين والأئمة وسائر علماء الدين.. لماذا؟ ليحضروا هذه الخلاعة والخمور وتشرب والراقصات تلعب ويتبرعوا لجرحى الحرب مثلا ويحثون الناس على التبرع فالعالم الورع يبعث لهم بتبرع ولا يحضر ذلك الاحتفال الذي يكون في (التياترو)، وقل من يفضل هذا، فأكثر العلماء يحضرون بلحاهم الطويلة وعمائمهم الكبيرة وثيابهم الفضفاضة فيكونون سخرية للساخرين. وللفرنسيين في هذه الدعوة مقاصد وغايات، أولها إهانة العلماء التي هي إهانة الدين وإهانة الأمة، وثانيها اختبار العلماء وامتحانهم ليعلموا من بقي عنده شيء من عزة النفس والحياء فيكتفي بإرسال التبرع ولا يحضر، ومن ماتت نفسه وانعدمت مروءته. ولا بد أن يكيدوا لذلك المتخلف بعض الكيد ويحذروه.
ومن مكايدهم أنهم يلوحون لعلماء الدين بمحبتهم للطعام المغربي حتى يقيم لهم العالم مأدبة ويخدمهم بنفسه إهانة له ولأمته واطمئنانا على موت قلبه.
ومع موت هؤلاء العلماء المعنوي وفقدهم للشهامة والمروءة فإنهم يخيفونهم أحيانا فيدعون الواحد منهم ويقولون أنت ذكرت في درسك في اليوم الفلاني في المسجد آية أو حديثا يدل على الجهاد، فماذا تعني بهذا الجهاد؟ فيعتذر ويقول إنما ذكرت شيئا مضى، فيقولون هذا لا يراد به إلا تهييج الناس على قتالنا فلا يزال يعتذر ويتنصل وهم يضحكون ويسخرون منه في قلوبهم. ورأيت إجازة لأحد علماء الدين من الحاكم الفرنسي في القسم العسكري من بلاد الجزائر وفيها ما معناه: (بشرط ألا يذكر في درسه شيئا من القرآن أو الحديث يدل على الجهاد، وألا يدرس شيئا من الباب الخامس من مختصر خليل – في الفقه المالكي- يعنون باب الجهاد).
المصحف المزيف
ومن مكايدهم ما حدثني به جماعة والعهدة عليهم أن الفرنسيين اتفقوا مع ناشر كتب اسمه (عمر الخياط) من مدينة فاس أن يطبع لهم خمسة آلاف نسخة من المصحف ويحذف منها لفظ (منكم) في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ففعل ذلك وأرادوا توزيع هذا المصحف في مدينة (داكار) عاصمة سنغال. وظنوا أن هذا المكر يروج عند السنغاليين لعجمة ألسنتهم وجهلهم، ولكن المكيدة افتضحت وانتشر خبرها فجمعوا النسخ التي وزعوها وأحرقوا كل ما طبعوا. ومقصودهم بذلك أن يفسروا أولي الأمر بكل متسلط وإن كان كافرا من أعداء الإسلام.
ومكايد الإفرنسيين و الاسبانيين والإيطاليين في المغارب الثلاثة الأدنى والأوسط والأقصى لا تعد ولا تحصى وهذا نموذج يقاس عليه.
س 15 – شيء عن جهادكم ضد الفرنسيين وموقفهم منكم…
ج 15 – خرجت من المغرب بعدما أتممت دراستي مباشرة ولم أتول أي عمل هناك خوفا من الوقوع في خيانة الله وخيانة الإسلام وقد تشدد الفرنسيون في إعطائي جواز السفر تشددا كبيرا بدون سبب حتى ضمنني الأستاذ أحمد سكيرج وصرح لهم بأنني محب للفرنسيين وهو رجل له منزلة عالية عندهم وله فضل علي كبير. ولم يبد مني أي دليل على أني سأعاديهم. ولم تنته امتحاناتهم إلا بكتاب كتبه الأستاذ المذكور إلى وزير فرنسا المفوض في القاهرة يوصيه بي خيرا. هذا الكتاب جعل الحكام الممتحنين يطمئنون، مع أني سافرت لطلب العلم.
فلما وصلت إلى القاهرة ذهبت إلى مسيو (جيار) وزير فرنسا المفوض وقدمت له الكتاب فرحب بي ودعا بالقهوة فقال عند إرادة شربها (باسم الله)، وفي أثناء حديثه قال لي إن أردت أي منصب في المغرب فأنا أكتب لك من هنا بتوليتك إياه. فقلت إنني أريد الجولان لأجل لقاء علماء الحديث والأخذ منهم والوقوف على كتب الحديث المخطوطة. وبعد خمس سنين مررت بالقاهرة في طريقي إلى الحج للمرة الثانية في سنة 1345 فذهبت إلى مسيو (جيار) لمشكلة حصلت لي فقال لي من أين جئت؟ فقلت جئت من العراق فقال لي بطريق سورية؟ قلت نعم. قال فهل رأيت هنالك حربا؟ قلت ما رأيت شيئا. فقال: الصحف المصرية تخترع حربا خيالية في سورية وكان ذلك آخر العهد به.
وكنت في كل مكان أذكر جرائم الحكم الفرنسي والاستيلاء الفرنسي على المغرب ولكنني لم ابدأ بنشر ذلك في الصحف إلا في سنة 1349 من الهجرة واستمررت على ذلك إلى سنة 1353 هجرية فأحسست بان الفرنسيون ممتعضون مني وصاروا يسيئون معاملتي عند تجديد جواز السفر فتجنست بالجنسية العراقية ولقيت صعوبة كبيرة في هذا التجنس. ولما أرادت وزارة الدعاية الألمانية أن تنشئ إذاعة عربية في مارس سنة 1939 سألت العلماء المستشرقين عن المدرسين من العرب في ألمانيا أيهم أولى بالاستشارة والاستعانة به في هذا الأمر فدلها البروفسور مورتيس وغيره علي، فدعيت للاستشارة فتوجهت من (بون)، التي كنت مدرسا في جامعتها وطالبا إلى برلين وأبديت رأيي بعدما قال لي الموظف الخاص إن إيطاليا أنشأت إذاعة عربية منذ أربع سنين. وهذه الإذاعات الأوروبية العربية تعطي أخبار ألمانيا مشوهة فنحن مضطرون إلى إنشاء إذاعة عربية لمدة ربع ساعة نعطي فيها أخبار ألمانيا للبلاد العربية على وجهها وليس لنا غرض استعماري في البلاد العربية. هذا ما قاله (هرولدونر) فقلت له هذا رأي صحيح وكان ينبغي لكم أن تؤسسوا إذاعة عربية قبل الآن. فقال: وهل يمكن أن تشاركنا في هذه الإذاعة؟ فقلت: نعم أشارككم بتصحيح ما يذاع والمذيعون فيهم كثير. فاتفقنا على ذلك وفي اليوم 23 من نيسان من سنة 1939 افتتحت الإذاعة العربية في برلين، فأخذت أكتب مقالات أسبوعية اشرح فيها جرائم الاستعمار الفرنسي والبريطاني وغيره.
ومن هنا بدأ غيظ الفرنسيين يشتد علي، فأخذت إذاعاتهم في باريس تشتمني، وأخذت جريدة الطان (LE TEMPS) الباريسية وغيرها من الصحف في الجزائر والمغرب ومصر تصورني صورا كاريكاتورية وتشتمني وتزعم أني مأجور للدكتور غوبلز وزير الدعاية الألمانية. ويعلم الله، ثم يعلم سماحة المفتي السيد أمين الحسيني، أن الإذاعة ضيعت لي إثني عشر ألف مارك من راتبي الخاص. وأما المقالات التي ألقيتها في إذاعة برلين العربية فإني لم أتقاض عليها شيئا، بل كنت أنفق عليها من مالي لأنني كنت مكلفا أن أترجم كل مقال باللغة الألمانية قبل نشره وأطبع منه أربع نسخ بالآلة الكاتبة وأعرضها على أربع دوائر، فإذا وافقت هذه الدوائر كنت أركب قطار تحت الأرض وسميته أنا (قطار النفق) في الليل المظلم في وقت الحرب وقبله متعرضا للغارات الجوية وألقي تلك المقالات جهارا لأعداء الله وأعداء المسلمين.
ولما استولت ألمانيا على فرنسا سنة 1941 وتمكنت من السيطرة عليها منعتني وزارة الخارجية الألمانية أن أذكر فرنسا أو المقيم (أي المندوب السامي) في المغرب بسوء. فقلت للموظف الذي صرح بالمنع: (أنتم قلتم في إذاعتكم من فرانكفورت باللغة الفرنسية قبل استيلائكم غلى فرنسا: (إن المقيم العام “نُجيْس” يهودي ولم تتركوا عيبا إلا ألصقتموه به وسائر المتنفذين الفرنسيين وأنا في هذا المقال أثبت بالبرهان أن “نُجيْس” ماسوني وليس يهودي، وأثبت حقائق هي في مصلحتكم وفي مصلحتنا جميعا). فقال لي: (لا يمكن أن يذاع شيء من الانتقاد يوجه إلى فرنسا في إذاعتنا أبدا. هذا قرار وزارة الخارجية. ولكن عليك ببريطانيا قل فيها ما شئت) فقلت له: (أنا ما ذكرت بريطانيا إلا بالتبع لفرنسا وينبغي أن تعلم أننا نشعر بالواجبات الوطنية كما تشعرون بها أنتم أو أكثر لأنكم أنتم لكم حكومة تمدكم بالأموال والمساعدات الأدبية ونحن نجاهد منفردين، كل واحد وحده ولن ألقي مقالا منذ اليوم لا في انتقاد بريطانيا ولا غيرها). وبعد ذلك بمدة طلب مني هذا الموظف نفسه، ولا يزال على قيد الحياة، أن أكتب مقالا في غرض من أغراض وزارة الخارجية فقلت له: (كأنك لم تصدق ما قلت لك من قبل من أنني أنا لا اشتغل في هذه المقالات إلا لخدمة الوطن الإسلامي ثم العربي. وسددت الهاتف بدون تحية).
وإلى الآن لم أعرف ماذا حكمت علي به فرنسا. وفي سنة 1946 كنت أسعى في الرجوع إلى العراق لأرى أهلي وعيالي فتعسر علي الأمر ومنعني القائم بالأعمال في القنصلية الفرنسية في مدريد من سمة المرور بمصر حتى أحصل على سمة من لبنان مخافة أن أبقى في مصر، فكتبت إلى الأمير شكيب أرسلان رحمه الله بذلك فقال لي: (اكتب كتابا إلى بشارة الخوري واطلب منه منح سمة دخول لبنان وابعث الكتاب إلي لأصحبه بكتاب من عندي فإن لي فضلا على والده فإني أنقذته من الموت وطلب له راتبا من الحكومة العثمانية زيادة على إنقاذه من الموت). فكتبت الكتاب وبعثته إلى الأمير شكيب رحمة الله عليه، فبعد شهر جاءني كتاب من وزارة الخارجية اللبنانية يشتمل على رسالة إلى القنصل الفرنسي في تطوان فيه ما معناه: (نرجو أن تمنح الدكتور تقي الدين الهلالي سمة الدخول إلى لبنان بالنيابة عنا) وكان القنصل الفرنسي مغتاظا مني أشد الغيظ وقد احتج مرتين على الحكومة الإسبانية بسبب المقالات التي كنت انشرها في جريدة الحرية فعطلت الجريدة وغرمت مرتين. فلما وصلت إليه نظر إلي شزرا ولم يعطني كرسيا للجلوس وقال لي بلهجة خشنة: (هذه دولة استقلت وما بقي بيننا وبينها علاقة). فقلت له (أريد جوابا مكتوبا) فقال: (انا لا استطيع إعطاء جوابا مكتوبا سأبعث هذه الرسالة إلى المقيم العام في الرباط. ومتى جاء الجواب اخبرتك به) فانصرفت وبعد شهرين جاء الجواب بالموافقة وفي هذه المرة تلقاني ببشاشة وقدم لي كرسيا وقال: (أنا عمري الآن 55 سنة، 35 منها قضيتها في المغرب فانا مغربي أكثر من كوني فرنسيا ونحن نحب أن نتعاون مع المغاربة بمودة وصداقة ولكن الدول الأجنبية تنفق الأموال للتفريق بيننا وبينكم). فقلت له: (لست أنا ممن يشترى بالأموال) فقال: (لا أقصدك أنت ولكن يوجد من المغاربة من يأخذ الأموال من الأجانب) فقلت له: (إن السفير الفرنسي في طنجة طلب من السفير الإنجليزي والسفير الامريكي الموافقة على منعي من دخول منطقة طنجة بدعوى أنني من عملاء ألمانيا (اجاند الماني)، وهذا كذب منه. فإنني لم أكن قط من عملاء أية دولة أجنبية وإنما من عملاء مراكش) فقال لي أنا لست مسؤولا عما يفعل أو يقول السفير الفرنسي في طنجة وأنا أحب أن تخرج من عندي مسرورا وكل ما في قدرتي اعمله لذلك، فإن شئت أن تسافر على طريق فرنسا يباح لك ذلك بشرط أن نعلم ان عندك ما يكفي لنفقة شهر في مرسيليا إذ ربما لا تجد باخرة تتوجه إلى الشرق إلا بعد مدة فقلت له وهل يجوز لي أن أسافر عن طريق الجزائر وتونس؟ وكان قصدي بذلك اختباره واستدراجه ليقر بما حكمت علي حكومته به. فقال لي هذا ليس في يدي ولا يمكن أن تنزل في الجزائر ولا في تونس وإنما تسافر إلى مرسيليا رأسا. فأردت أن ازداد علما بما عنده فقلت له وهي يمكنني أن أسافر إلى الرباط لرؤية بعض الأصدقاء والأقارب قبل سفري إلى الشرق؟ فقال هذا أيضا ليس في يدي، وإن شئت أن اكتب بهذا إلى المقيم العام فعلت وتنتظر إلى أن يجيء الجواب..
قلت له: لا حاجة لي بالسفر على طريق مرسيليا، فسأسافر بطريق جبل طارق. ولما أردت السفر بطريق جبل طارق وكان القنصل البريطاني في تطوان مغتاظا علي أشد الغيظ وقد احتج على الحكومة الاسبانية بسبب نشرها مقالات نشرتها في قضية باكستان في جريدة الحرية. فلما ذهبت أسأل سمة للسفر على طريق جبل طارق امتنع عن لقائي وأمر نائبه وهو يهودي يوناني أن يلقاني فقال لي: هل حصلت على سمة المرور بمصر وسمة لبنان وسورية والعراق؟ فقلت حصلت على بعضها. ثم قال: ألم تكن موظفا عند الألمانيين في الإذاعة تتقاضى راتبا؟ فقلت نعم كنت المرجع اللغوي في الإذاعة العربية في برلين وأما المقالات التي غاظتكم فلم أتقاض عليها شيئا بل كنت أنفق عليها من عندي، وشرحت له ما تقدم. فقال: على كل حال إذا حصلت على جميع الفيزات (التأشيرات) فتعال ولما حصلت على جميع السمات من مصر ولبنان والعراق منعني من السفر على طريق جبل طارق فسافرت بطريق مدريد فالقاهرة بالجو.
وقد ظهر من كلام القنصل الفرنسي في تطوان [أنني ممنوع من الدخول إلى بلادي] (1)، ومن أخبار المسافرين الذين شاهدوا صورتي في مركز الحدود بين القسم الفرنسي والقسم الاسباني أنني منفي من المغرب كله (مراكش والجزائر وتونس) ومن منطقة طنجة الدولية كما تقدم.
سبيل الخلاص
وأنا أعتقد أن المقالات والخطب والاشتكاء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والجامعة العربية: كل هذا لا يجدي نفعا، والذي ينفع أهل المغرب هو التمسك بالإسلام وإزالة كل ما يخالفه والجهاد المستمر وتعليم الجاهلين وإيقاظ النائمين، فصلاح المغرب وعزه لا يأتيه من الخارج أبدا وإنما ينبعث من الداخل.
وهذا رأيي في حال البلاد الإسلامية كلها وقيامها وقعودها مع دول الاستعمار لا يزيدها إلا خبالا، فإن لم تقدر على حربهم ولا على أخذ الحق منهم فلا أقل من ألا تتعاون معهم إلا بقدر الضرورة.
———
(1) بياض في الأصل وأثبتنا ما يغلب على الذاكرة والظن أن الأستاذ قاله والسياق يساعد عليه.