نحمد الله تعالى ونصلي ونسلم على محمد رسوله وعلى آله وصحبه.
في هذه المسألة اليوم ثلاثة مذاهب متباينة:
المذهب الأول: عدم تعليمهن أكثر من قراءة المصحف بدون فهم.
قال أصحاب هذا المذهب: إنه أحسن المذاهب وأولاها بالصواب، وهو الذي وجدنا عليه آباءنا وهم كانوا أحسن منا، وتعليم النساء يفسد أخلاقهن، فإن المرأة التي لا تقرأ ولا تكتب تكون بعيدة عن متناول شياطين الإنس، فإن القلم كما لا يخفى أحد اللسانين، فبعدم معرفتها للقراءة والكتابة تأمن شر هذا اللسان وبضرب الحجاب المتين عليها تأمن شر اللسان الثاني، فيتم لها الأمن.
وكم رأينا من متعلمات لم يأتهن الشر إلا من قبل تعلمهن، وهذا في زمان الإسلام والعفاف والأنفة العربية، وأما في هذا الزمان فقد بلغ السيل الزبى، واتسع الخرق على الراقع. فإن معرفة الفتاة للقراءة توصل إلى ذهنها جميع ما يقع في الدنيا من الفساد والمخادنة وتملأ فكرها بهواجس خبيثة كانت في عافية منها.
وفي الحديث: “لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسورة النور” فهذه هي التربية الصحيحة، فتعليم الكتابة ذريعة إلى المكاتبة مع الفجار, وإسكانهن الغرف ذريعة إلى التخاطب ولو بالإشارة مع الفساق, وتعليمهن المغزل فيه شغل نافع لهن بما فيه من رياضة البدن والفكر وبما يثمره الغزل من المال الذي يستعن به على معاشهن، وتعليمهن سورة النور يحملهن على العفاف، لأن فيها حد الزنا والزجر عنه، وحد القذف، وتوبيخ فاعله، وفيها حكم اللعان وما يلحق صاحبيه من العار والخزي، وفيها قصة الإفك والمرأة الظاهرة البريئة، وبيان ما أعد الله لمن يقذف المحصنات الغافلات عن الشر المؤمنات بالله من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وفيها أمر الله للمؤمنين والمؤمنات بغض البصر وعدم إظهار زينتهن والنهي عن التبرج بالزينة، وهذا والله نعم الأدب للفتاة، ولو عمل الناس بهذا الحديث لصلحت حال النساء ورأى الناس من الخير والعفاف ما لم يكن لهم به عهد منذ زمان بعيد.
المذهب الثاني: تعليمهن وتربيتهن على منهاج دعاة التفرنج.
قال أصحاب هذا المذهب: نحن لا نريد أن نطيل القيل والقال، ونضيع أوقاتنا في الجدال الفراغ، هناك أمم راقية حرة سعيدة في حياتها. وهناك أمم أخرى منحطة مستعبدة شقية في حياتها، وقد نظرنا فوجدنا أن سبب سعادة تلك وشقاء هذه هو العمل والمال، لذلك عزمنا على الاقتداء بالأمم الراقية، لنكون مثلهم: نقتدي بهم في التعلم والتعليم والتربية والتفكير والزي والمعيشة ونظام الحكم وفي كل شيء. ومن ذلك تعليم المرأة وحرية المرأة ومساواتها للرجل في كل شيء ممكن بلا قيد ولا شرط. فهذا الذي نؤمن به ونعمل على تنفيذه وقولكم بدفن النساء في قبور البيوت ومنعهن من التصرف في أموالهن وشؤونهن، ومنعكم لهن حتى من التنفس في الهواء ومن رؤية طريقهن إذا دعتهن ضرورة للخروج, بل تغاليتم حتى جعلتم صورتهن عورة ونقصتم حقهن في الميراث فجعلتموه على النصف ويا ليت النصف الباقي يسلم لهن، فإنه يضيع في أغلب الأحوال، لأن لزومها الحجاب وكون أخيها أو أبيها أو ابن عمها هو الرقيب عليها يضيع عليها النصف الذي تركتم لها، لأن هذا القريب غالبا يعتدي عليها فيأكل مالها, والحجاب يمنعها من المطالبة بحقها فتحرم من كل شيء وتبقى في ظلمات سجنها تشكو إلى ربها ظلم الرجال وجورهم.
ولا يقف الأمر عند ذلك، بل يحرم العالم من نصفه، سواء قلنا كما يقول الأوروبيون إن هذا النصف هو الأفضل، أو قلنا إنه مساو، وكيف تحيا أمة نصفها ميت تماما ونصفها الآخر أشل بسبب الجهل والانحطاط, والرقي لا يتجزأ، فإما أن يعم الآباء والأمهات والأبناء، وإما أن يكون الجميع منحطين، وهل سمعت بأمة رجالها مهذبون متمدنون ونساؤها في غاية الجهل والتوحش والبعد عن الحياة؟.
ولماذا لا تصير المرأة حاكمة وملكة ورئيسة ومحامية ونائبة في مجلس النواب, وعينا في مجلس الأعيان؟، أليس سبيل ذلك كله هو العقل والخلق وقوة الذهن وحسن التدبير؟ وهل تتجرءون أن تدّعوا أن المرأة محرومة من العقل والتفكير لا تصلح لشيء إلا للنتاج كالفرس والبقرة؟ إذن لقد نزلتم بأمهاتكم إلى أسفل سافلين.
ولعمري أن مثل هذه الأفكار جديرة أن تحط الأمم من عليائها, وتسبغ عليها ثوب الخمول بل وتقبرها في رمس الهمجية.
كم من ملايين من النساء شاركت في الحرب العالمية الأخيرة؟ وعلى مذهبكم هذا البائس لا توجد امرأة واحدة من بين النساء المقبورات في سجن البيوت تقدر أن تضرب بسهم في الدفاع عن الوطن.
وأما ما تشاغبون به من العفاف، فهو عادة والعادات دائما عرضة للتغير وإن كان أمس من الأمور التي تلحظ بعين الاعتبار فهو اليوم من الأمور التي تدعو إلى السخرية، وقد رأينا عظماء الرجال في البلاد السعيدة ذات السيادة المطلقة وفيهم الفلاسفة والعلماء والأمراء والوزراء لا يعبئون بهذه الأمور ولا يحسبون لها حسابا وقد استقر عندهم أن الفتاة إذا بلغت سبع عشرة سنة فقد صارت حرة في نفسها تصنع ما تشاء وتخالط من تحب وتسافر وحدها ليلا ونهارا، ونحن نقتدي بهذه الأمم ونترسم خطاها في جميع الشؤون.
المذهب الثالث: متوسط بين المذهبين السابقين
قد أخذ خير كل منهما وصوابه، وترك شره وخطأه، وذلك أن تعلم المرأة تعليما يناسب ما خلقت له أولا وهو تدبير المنزل وملؤه سعادة ونظاما وجعله منبتا صالحا للبنين والبنات الأبرار. وثانيا لتكون عونا للرجل في جميع شؤونه المعاشية والحربية والخلقية.
قال أصحاب هذا المذهب: إن أهل المذهب الأول مفْرطون، وأصحاب المذهب الثاني مفرّطون، ونحن نرد عليهم جميعا، ونبين ما عندهم من الخطأ، بادئين بأهل المذهب الأول فنقول:
إن منعكم المرأة من التعلم أو حصره في قراءة حروف المصحف دون فهم لمعنى ما تقرؤه منه، في غاية البعد عن الصواب، فلا هو إسلامي، ولا هو عقلي أو علمي محض، وإن زعمتم أنه موافق للإسلام وذهبتم في ذلك كل مذهب، حتى احتججتم بحديث واه ساقط لا تقوم به حجة عند أصحاب الحديث، هذا من جهة الرواية، وأما من جهة المعنى فهو باطل، فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يقرأن، ويكتبن، وغيرهن من الصحابيات، والتابعيات، والحافظات المحدثات، اللاتي روى عنهن الحفاظ.. حتى إن كتب أسماء الرجال: كتهذيب التهذيب، والميزان، ولسان الميزان، والخلاصة، وقبلها طبقات ابن سعد وغير ذلك كلها مشحونة بأسماء عالمات وفقيهات وأديبات, ذلك في زمان عظمة الإسلام حين كانت راياته منصورة وجيوش أعدائه مكسورة مدحورة.
وأما آباؤكم المتأخرون الذين تريدون أن تقتدوا بهم في تجهيل النساء، فلم يكونوا قط أهلا للاقتداء بهم، فإن زمانهم هو زمان الجاهلية الآخرة، وكل الذي يقاسيه الإسلام اليوم فهو نتيجة أعمالهم، ومع ذلك لا نسلم لكم أن أهل العلم من آبائكم كانوا يقولون بهذا القول المرذول، وكيف وقد كان في زمانهم عالمات أديبات، وإن كن قليلات، فلم ينقطع الخير عنهن بالمرة.
وأما قولكم: إن القلم أحد اللسانين، وإن المرأة لجهلها بهذا اللسان وضرب الحجاب الشديد تأمن شر اللسانين، فقد أخطأتم في ذلك خطأ فاحشا. ألم تعلموا أن الفتاة التي ساءت تربيتها لا يمكن صيانتها ولو جعلت في حق وكانت صماء بكماء، والفتاة التي ربيت على العفاف والتحصن لا يصل إليها سوء ولو كانت بين الرجال في غير ريبة، وقد كانت النساء يرافقن رجالهن في الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصحب معه نساءه في الغزو والحج، وكانت نساء الصحابة غير قابعات في بيوتهن بل يخرجن لأشغالهن إن كانت، ويعلفن الخيل، ويكدحن في أموالهن، وكان النساء يغزون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مسطور في كتب الحديث لا نطيل بذكره، فلم يضرهن ذلك لقوة إيمانهن وكمال عفافهن.
والحاصل أن تعلم الكتابة والقراءة لا يصير المرأة فاسدة ولا صالحة وحده، فإن كانت صالحة فإن تعلمها الكتابة والقراءة يزيدها سلاحا, وإن كانت تربيتها فاسدة فبتعلمها تزداد فسادا؛ لأن العلم بالقراءة والكتابة آلة صالحة للاستعمال في الخير والشر معا.
وأما تعليم سورة النور فهو من أعظم ما أدب الله به المسلمات، وهو كنز عظيم، وذخر جسيم، ولكن ينبغي للفتاة أن لا تهجر غير هذه السورة من القرآن، وسبيل تعليم القرآن هو القراءة، والقراءة لا تنفع إلا بمعرفة المعنى، ومعرفة المعنى لا يمكن إلا بتعلم النحو والصرف واللغة، ولا بد لمن تتعلمه من القراءة والكتابة وأنتم منعتم ذلك, فهذا تناقض منكم وأنتم لا تشعرون.
يصـيب وما يدري ويخطي وما درى *** و كيف يــكــون النــــوك إلا كــذلــــكا
وأما تعليم المغزل فهو حسن، ولكن أهم منه في المدن على الأقل تدبير المنزل وتدبير الصحة والتمريض وما أشبه ذلك.
وأما قولكم إن الفتاة في هذا الزمان إذا كانت قارئة تصل إلى ذهنها أنواع الشر بقراءة صحف الخلاعة ومجلاتها، فهو صحيح! ولكن الجاهلة أيضا يصل إليها ذلك بالذهاب إلى السينما ولو خلسة في غيبة الرقيب وتصل إليها بطريق الراديو، ويصل إليها بطريق زائراتها ومحدثاتها، وإذا فسد الجو لم تنفع المعتزل عزلته.
فلو أنكم انتقدتم منهاج تعليم الفتاة وطالبتم بإصلاحه وإبداله بمنهاج كامل يضمن للفتاة التربية الصحيحة بدل إنكاركم للتعليم مرة لكان ذلكم أقرب إلى الصواب.
أما أهل المذهب المقابل فقد أفرطوا وتجازوا الحدود وضلوا ضلالا بعيدا ولا بد أن نناقشهم الحساب، ونبين ما في حملتهم من الحجج الواهية الداحضة، التي هي أوهن من بيت العنكبوت فنقول لهم: أما قولكم إن أمم العالم قسمان: أمم راقية سعيدة، وأخرى منحطة شقية فهو حق، وأما قولكم إن سعادة أولئك السعداء جاءتهم من أعمالهم وأحوالهم فهو صحيح أيضا، ولكنه مجمل يحتاج إلى تفصيل وبيان، وفي إجماله أمكنكم أن تدخلوا ما أدخلتموه من المغالطة، وبيان ذلك أولا أن الأمم الأوروبية تختلف اختلافا كثيرا يكفر من أجله بعضهم بعضا, حتى أن الكاثوليكي لا يقدر أن يتزوج بامرأة بروتستانتية، وإن تجرأ على ذلك عوقب من قبل الكنيسة بالحرمان وهو مصيبة اجتماعية عظيمة. ويختلفون في مناهج الحكم، حتى يفضي بهم ذلك أن يفني بعضهم بعضا بلا إبقاء ولا رحمة، ويختلفون في شؤون النساء فمنهم من يرى وجوب مراقبة الفتاة والمحافظة التامة عليها ومنهم من يطلق لها العنان بعد بلوغها سن الرشد القانوني، ومنهم من يجيز البغاء الرسمي كالأمم اللاتينية لحصر الفساد في أماكن محدودة حسبما ظهر لهم، وهؤلاء يعاملون البغيات بشيء من الرحمة. ومنهم من يحرم البغاء الرسمي كالأمم الجرمانية والأمة البريطانية، وهؤلاء يعاملون البغيات بكل قسوة حتى إنهم ليجعلونهن طبقة منبوذة مستقذرة كالذباب، فلا يمكن البغي أن تتصل بأحد من النساء والرجال ذوي الشرف والمروءة, فهم عندهم كما قال الشاعر:
لتقعدن مقعد القصــي *** مني ذي القاذورة المقلي
ثم إن هذا التساهل في العرض الموجود عند الأوروبيين لم يكن ناتجا عن المدنية والرقي، بل لا علاقة له بهما أصلا، وإنما هي عادة ورثوها عن آبائهم في زمان جهلهم وهمجيتهم، كما يشهد ذلك تاريخهم، وكذلك بعض الأمم المجاورة للبحر الأبيض المتوسط من غير الأوروبيين، وهي قبائل البربر الذين ليس عندهم من الإسلام إلا اسمه، كآبن مكيلد، وآيت سخمان، واشقيرن، وآيت اسحاق، وآيت هودى وغيرهم، وهذه القبائل في الألوان وبرودة الدم مثل أهل شمالي أوروبة، والغيرة عندهم معدومة، حتى إني رأيتهم إذا وجد أحدهم مع زوجته رجلا يطلق رصاصة في الهواء، لا ليصيب أحدهما بأذى، بل ليعلن الأمر، فيجتمع الناس من كل حدب ينسلون، فيقول لهم الرجل: اشهدوا على فلان فقد وجده مع زوجته، فيقولون: سنشهد لك بما رأينا، فإذا اجتمع ملؤهم في الحي يدعو الزوج ذلك الرجل إلى المحاكمة، فيأتي ويحضر أمام شيوخهم، فيتهمه، ويحضر الشهود، فيشهدون، ومع ذلك كله يجحد المتهم ويقول: إنه لم يفعل شيئا، فيحملون عليه طبقا للعرف أن يدفع إلى الزوج ستة أريلة وكبشا، فيمعن المتهم في الإنكار والامتناع من أداء الغرامة، فيهم الزوج بقتله، فعند ذلك يجري الناس في الصلح بينهما، فيترك الزوج إحدى الغرامتين، إما الكبش وإما ستة أريلة.
وما لنا نذهب بعيدا، فقد جاء في صحيح البخاري أن رجلا كان عنده غلام عسيف أي أجير، فزنى هذا الغلام بامرأة مخدومه، فسأل الرجل بعض الناس ممن ظن أن عندهم علما، فأفتوه أن على الغلام أن يدفع لزوج المرأة مائة شاة، فدفعها أبوه عنه, ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالقصة، فخطأهم النبي صلى الله عليه وسلم في حكمهم وقال: “أما الغنم فهي رد على أبي الأجير وأما الأجير فعليه جلد مائة وتغريب عام”, وأما المرأة فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم رجلا اسمه أنيس وقال: “أغد عليها فإن اعترفت فارجمها”.
فأنت ترى أن مثل هذا الحكم البربري وجد في العرب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والبشر هم البشر لا يمتاز شعب عن شعب إلا بأخلاق الأنبياء وعلوم المدنية، فمن جمع بين هذين جمع السعادة الكبرى.
والمقصود هنا أن الأوروبيين لم يتسامحوا في شأن النساء نتيجة لنهضتهم المدنية، وإنما ساروا – في هذه القضية – على نهج من قبلهم، وأقروه بالعمل عليه، وتأليف القصص التمثيلية وغيرها.
أما حرية المرأة فليست مرتبطة بهتك النساء، وسقوط عفافهن، فقد توجد حرية النساء مع تمام العفاف، وقد توجد عبودية النساء مع غاية التهتك.
ونحن وجدنا آباءنا الأولين الذين سادوا العالم علما وأخلاقا وحضارة ورقيا، وكنا لهم نحن شر خلف لخير سلف، فقد كانوا في قضية النساء على صراط مستقيم، فكانت المرأة عندهم عضوا حيا نشيطا تشاركهم في العلم والعمل في البيت وفي المزرعة وفي ميدان القتال، عليها حجاب يحفظ شرفها ومكانتها، ولا يمنعها من أخذ حقها إذا ظلمت، ولا من مشاركة الرجال في الأعمال السلمية والحربية عند الحاجة، ولذلك أدرك أسلافنا من المدنية أعلاها ومن الرقي ذروته رجالا ونساء، ولم يمنع أدب القرآن المرأة من الرقي، بل هو الذي أوصلها إلى أسناه مصونة العرض والعقل والشرف.
وأما آباؤنا المتأخرون فقد انحرفوا عن الجادة في الدين والدنيا وعلومهما فلما عجزوا عن إقامة صروح العفاف والأخلاق الكريمة, وتنفيذ حدود الشرع المحمدي العظيم، لجأوا إلى الاختفاء والفرار والاختباء، فغلوا في الحجاب حتى دفنوا النساء كما قلتم، ومنعوهن من الخروج، وإذا خرجن يفرضون عليهن ستر وجوههن إلا عينا واحدة أو نصف عين، وجعلوا أصواتهن عورة، وحديثهن مع الرجال وإن كانوا صالحين، وبحضرة محارمهن أو أزواجهن وقاحة، وزادوا على ذلك فقال بعضهم بمنعهن من القراءة والكتابة, فضاعت بذلك حقوقهن التي أعطاهن الشرع المحمدي كالميراث والبيع والشراء والشهادة والوكالة وسائر التصرفات, وصرن بالأموات أشبه منهن بالأحياء، بل تعدى الأمر إلى أن جرت العادة بدس البكر في ظلمات الخدور وحجبها حتى عن النساء، فلا تراها أعين والديها وإخوتها، وبطلت بذلك السنة المحمدية التي قال فيها الرسول الكريم عليه السلام: “إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما” أي فإن ذلك أجدر أن يوقع بينهما الاتفاق إذا رأى كل منهما الآخر في غير ريبة ولا خلوة.
والجرائم التي وقعت بالغلو في الحجاب (على غير وجهه الشرعي) كثيرة ومشاهدة، وبذلك صارت حوادث التزوير تقع في الزواج فتكون عند الرجل ابنتان مثلا إحداهما جميلة والأخرى دميمة، فإذا جاء خاطب لا يعرفهما ولا تعرفهما العجوز التي تنوب عنه في الخطبة، وكانت الجميلة اسمها ليلى والدميمة اسمها دعد يوهمونها أن الدميمة هي الجميلة ويغالطونها فتقع الكارثة على رأس الرجل المسكين ويذهب ماله ضائعا.
ولو قام رجال عقلاء صالحون بتغيير هذه العادة ورد النساء إلى ما كن عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم – وهو ما عليه نساء القرى والبوادي في البلاد الإسلامية بأسرها من أول ظهور الإسلام إلى اليوم – مع أدب غض البصر ونحوه لوجب أن يصغى لإصلاحهم وأن يعانوا عليه، ولكن أكثر الذين يدعون إلى ما يسمونه: تحرير المرأة وإعطاءها حقوقها ليس لهم في قلوب الأمة ثقة ولا مكانة، ولا تطمئن إليهم النفوس، وما لهم أخلاق ولا غيرة على الدين والعرض، والجمهور لذلك متهمهم بأن لهم في دعوتهم مآرب أخرى كمآرب الذئب في رعي الحملان. وهؤلاء لا يشكون في أن النساء وإن كن قد أصابهن بالغلو في الحجاب شر عظيم، فإن الشر الذي أصابهن وسيصيبهن بالتبرج والتهتك ليس له حدود، وهو مبني على شفا جرف هار أعظم بكثير من ذلك. فقضية إصلاح حال النساء لم يعالجها طبيب ولا راق، بل صارت بين حزبين مفْرطين ومفَرِّطين، ونحن علم الله لو رأيناكم – يا دعاة تحرير المرأة – داعين إلى إصلاح النساء دعوة مبنية على أساس متين من العقل والحكمة وتوخي صلاحهن وسعادتهن، وأن يصرن أمهات كاملات الأمومة ينتجن إناثا صالحات، وذكوراً صالحين، ويملأن بيوتهن سعادة، لو رأيناكم كذلك لآزرناكم وتعاونا معكم، ولكنا رأينا فيكم الطيش، وسوء النية، والتغرير بالفتيات الغافلات، ومخادعتهن على عفافهن، وتزيين الموبقات لهن, وتصيدهن بكل حيلة، وقعودكم لهن كل سبيل مما لا يفعله العدو بعدوه, فرأينا أن جمود الجامدين أخف ضررا مما تدعون إليه.
وأما قولكم: إنكم في هذه المخادعة ونصب الحبائل التي تصيب البيوتات بالدمار والخراب تقتدون بأهل أوربة.. فهو من العجب العجاب! فقد تقدم أن أهل أوربة لم يصنعوا ذلك بأيديهم وإنما هو صنع أجيال مضت، بل حاولوا أن يصلحوا تلك الحال، ودونكم البيان:
من المعلوم أن التزوج في البلاد التي لا تزال متمسكة بشريعة الإسلام وآدابه سائرا سيرا حسنا، ومعدل المتزوجات نحو خمس وتسعين في المائة، مع ما تعلمون من شدة ذلك الحجاب، وما ذلك إلا بفضل هداية الإسلام.
أتعلمون أن حكومة هتلر لما رأت أن المتزوجين في المدن الألمانية من الرجال والنساء لا يزيد عددهم على أربعين في المائة سنت قانونا يقضي بتقديم خمسة آلاف مارك (أي أربعمائة دينار، حسب الصرف في ذلك الزمان) لمن يريد التزوج. وهذا المبلغ يكون سلفا عند الزوجين، فإن ولد لهما ولد عفي لهما عن قسط منه، وإن استمرت المرأة تلد الأولاد أسقط عنهما دفعه.
وسنت الحكومة أيضا قانون تكريم الوالدات في كل سنة في الربيع وخصصت الحكومة لهن تحفا وهدايا ذات بال. وسنت قانونا يقضي بمساعدة كل والدين بلغ عدد أولادهما خمسة مساعدات مالية طيبة مع إسقاط الضرائب عنهما. هذا وكانت ضرائب العزاب رجالا كانوا أو نساء في زمان الحرب العالمية الأخيرة تساوي ثلث دخل الشخص في كل شهر، إذا كان راتبه عاليا، والأباء والأمهات الذين بلغ عدد أولادهم خمسة معفوة من الضرائب، ومع ذلك كله لم يزد عدد المتزوجين في المدن على أربعين في المائة، أما في القرى فقد كانت نسبة المتزوجين أعلى من ذلك لضرورة التعاون على المعيشة.
فإن قلت وأي الجنسين كان يتحمل تبعة قلة التزوج في المدن؟ أقول بلا تردد ولا شك الرجال، لأن كل امرأة أيم سواء كانت غنية أم فقيرة كان قلبها يحترق شوقا إلى الزواج، حتى إن الإنسان لا يجد موضوعا يتكلم فيه مع الأيم ليسرها ويطيب نفسها أحسن ولا مماثلا لموضوع الزواج، ولا سيما إن كانت من أولئك البائسات اللاتي تسلط عليهن أحد لصوص الزواج (هايرات شفندلر) فإن هؤلاء اللصوص المجرمين كم أهلكوا من فتيات كن كأزهار الربيع في غاية التألق والسعادة والنعيم فنقلوهن إلى جحيم الشقاوة وقضوا عليهن القضاء الأخير. وهؤلاء الشياطين يردون المدن في صورة شبان قد بلغوا الغاية في الجمال والتأنق وأجادوا كل شيء يغري الفتاة ويسيل لعابها من حسن الهندام والظرف ولطف الحديث وإتقان جميع أنواع الرقص والتبذير في النفقة، وحسن الذوق في انتقاء جميع الأشياء وانتقادها. وهؤلاء لهم أسماء متعددة وكلها من أسماء البيوتات الأرسطقراطية. وقد تكون لهم هويات جوازات متعددة تثبت ذلك ولا يصيدون إلا بنات كبار الأغنياء فيظهر اللص أولا للفتاة أنه ابن أمير أو غني كبير, ويذهب أمامها إلى البنك ويخرج مبالغ كبيرة من المال أو يبعث برقية إلى أحد شركائه فيأتيه المال في الحال، وترى تلك الفتاة صورة الفتيات اللاتي أوقعهن سوء طالعهن في حبالته ومكاتباتهن معه، فترى جمالهن وعلو أدبهن وكونهن من بنات البيوتات فتزداد استهواء وفتنة حتى إذا نضجت ثمرة خداعه وعميت الفتاة وطاش لبها، تظاهر بتأخر حوالة عظيمة كان قد طلبها من أبيه واخترع لذلك عذرا، فتقوم الفتاة الغرة وتأتيه بالمبلغ الذي يريده من المال فيأخذه، ولا يعسر عليه أن يخترع سببا لسفر عاجل وأنه سيرجع إليها, فيكون آخر العهد به، وقد يتركها في بعض الأحيان حاملا، ولكن هذا نادر جدا لأنهم يحتاطون للحمل باستعمال الوسائل المانعة منه، ولا يكادون يتساهلون فيها إلا بعد عقد النكاح بصورة رسمية.
وهل يعلم هؤلاء الدعاة أن المرأة في أرقى دول أوروبا تشعر بالحاجة إلى حماية الرجل وقواميته عليها، ورئاسته ولا يغنيها عن هذه الحاجة مال ولا علم ولا شرف ولا حسب ولا منصب أبدا. ومما يحكى في هذا المعنى أن الملكة البريطانية العظيمة فكتوريا جاءت يوما إلى غرفة زوجها، فدقت الباب، فقال من بالباب؟ فقالت أنا الملكة، فقال: لا حاجة لي بالملكة، فانتبهت في الحين إلى خطئها وتلافته، فقالت افتح! أنا عزيزتك فكتوريا، فقال الآن أفتح.
وخضوع الأنثى للفحل أمر جعله الله في طبع كل أنثى من الحيوان الأبكم والناطق، ولا سبيل إلى إزالته عنها، لأنها لا تقدر أن تكون أنثى بدونه، كما جعل الله في طبعها الدلال والغنج أيضا، فهذان الخلقان معجونان في فطرتها.
هذا ولا تستغني المرأة عن حماية الرجل ولو في أرقى الأمم فقد أخبرتني (فراوزلي) في مدينة (بن) أنها حين كان زوجها في قيد الحياة، كان يجرعها غصصا، بسبب خليلة كانت له، ولكن بعد وفاته نسيت كل ذلك وحزنت على فراقه وقد ترك لها فراغا عظيما في كل شيء, حتى إنها إذا كتبت إلى شركة تطلب منها بضاعة تحذف آخر اسمها ليظن المكتب إليه أنها رجل فلا يتهاون بطلبها.
وأخبرتني أيضا أنه يأتي إلى بابها أحيانا بعض المساكين الذين يسألون الصدقة على الأبواب خلافا للقانون، فترحم السائل ولا تحب أن ترده، ولكنها تلقي إليه الفلوس من شق الباب، وتخاف أن تفتح له الباب، فيكون لصا في صورة سائل.
وكانت لي في برلين جارة لها ثلاثة أولاد صغار، فكنت حين أسمع صفارة الإنذار أسمع معه بكاء المرأة وأولادها! لأن عليها أن تملأ سطلا كبيرا تعده لإطفاء الحريق وتوقظ أولادها الثلاثة، وتلبسهم ثيابهم، وتأخذ لهم شيئا يأكلون وشيئا يشربون، لأن مدة الغارة قد تدوم ست ساعات أو أكثر، وفي ذلك الوقت – وهو من أول الحرب إلى سنة 1942 – كانت الغارات الجوية لا تأتي في الغالب إلا ليلا.
وبهذه المناسبة أذكر أن الغارات في أول زمان الحرب كانت قسمين: غارات روسية، وعلامتها أن تأتي بعد الغروب بنصف ساعة لقرب الروس، وهذه لم يكن الألمان يخافون منها، وأكثرهم لا ينزلون إلى الملاجئ وغارات إنكليزية، وهذه كانت تفتك فيهم فتكا ذريعا، وكان الألمانيون يحسبون لها حسابا وأي حساب.
قلت: إني كنت أسمع بكاء تلك الأم وأولادها، ولم يكن لها جار من الرجال غيري، فكنت آخذ أحد الأولاد في يدي وننزل الدرج، وفي أكثر الأحيان لم تكن الغارة الجوية تمهل هذه المرأة حتى تستعد للنزول، فكانت رعود الغارة والمدافع المضادة لها وبروقها تبتدئ قبل نزولنا، فكان هؤلاء المساكين يتوقفون مرتجفين عن عبور المسافة التي بين دهليز الدرج وباب السرداب لأن هذه المسافة مكشوفة تحت السماء بلا حاجب، فكنت أشجعهم حتى يعبروا، فإذا نزلت معهم أربع درجات من السرداب رجعت، لأني لم أكن أختبئ من أجل خصومة وقعت بيني وبين مراقب المخبأ, وفعلا وقعت القنابل على تلك الدار واحترقت الغرفة التي كنت أنام بها بما فيها، ولكن بعد خروجي من ألمانيا.
ولو ذهبنا نعدد الأدلة على حاجة المرأة إلى قوامية الرجل وحمايته لطال بنا القول.
وأما قساوة أرقى الأوروبيين من الأمم على النساء وعدم الرحمة والرفق بهن، فحدث عن البحر ولا حرج.
فمن ذلك أن العادة جارية عندهم بأن المرأة لا تقدر أن تتزوج حتى تحضر صداقا أقله خمسة آلاف مارك، وأكثره لا حد له، ومن أسعدها الحظ بالتزوج فعلى حسب مالها تقدر أن تجد زوجا ملائما لها، لأن الزوج لا يرغب في المرأة لجمال ولا لدين ولا لحسب، بل يقدم المال على ذلك كله.
فترى المرأة تقضي شطرا كبيرا من شبابها في العمل لجمع المال الذي به وحده يكون لها بعض الأمل في الزواج، ففي برلين تشتغل الخادمة بثلاثين (ماركا)، وفي المدن الصغيرة بعشرين (ماركا) مع أكلها في كل شهر، وتضيق على نفسها فتحرمها من كل شيء لتجمع صداقا، وقد تكون أم عجوز ضعيفة لا بد لها أن تساعدها من ذلك الراتب القليل ببعض الماركات، فكم يجب عليها أن تخدم من السنين حتى تجمع آلاف الماكرات؟ وإذا جمعت مقدارا يمكنها من التزوج بفقير مثلها، تحتاج إلى أن تؤم المجتمعات كدور الرقص والسينما وغيرها، وإذا وجدت فرصة للحديث مع رجل تغتنمها.
والعادة جارية بأن الرجل هو الذي يدعو المرأة للرقص، وهو الذي يبدأها بالكلام فقد تذهب إلى ناد من الأندية التي يجتمع فيها الناس وتنفق شيئا من المال، وهي به جد ضنية، فتدخل دار السينما أو القهوة، أو المطعم، أو دار الرقص، ولا تظفر بأحد أصلا فتعود خائبة، ثم تنتظر حتى تجد فرصة أخرى، لأن مثل هذه الفرصة لا تتيسر لها في كل يوم، بل أحسن أحوالها أن تتيسر لها في الأسبوع مرة.وإذا ساق الحظ لها واحدا فقد يكون مخالفا لها في الدين، وقد يكون مخادعا.
فإذا وجدت رجلا موافقا في كل شيء فلا بد أن تجتمع به الفينة بعد الفينة وتختبر عشرته وحاله، فإن أعجبها فإن العادة التي جرت أن يتواعدا على الزواج ويبقيا سنين طويلة متواعدين، وفي طيلة مدة التواعد تظل خائفة عليه أن ينقض عهده ويتركها.
وهذا كثير جدا: أعرف كاتبة في القسم الشرقي من جامعة (بن) كانت في قلبها غصة لا تفارقها أبدا, وذلك أن رجلا عاهدها على التزوج، وبقي معها أربع عشرة سنة يعيش معها كما يعيش الزوج مع زوجته، أي يجتمع بها في أوقات فراغهما، ويخالطها كما يخالط الرجل زوجته، لا أنه ينفق عليها شيئا أو يتعاونان على المعيشة، لأن ذلك إنما يقع بعد عقد النكاح والاجتماع الرسمي، فيسميان زوجين، وأما قبل ذلك فيسميان متخاطبين فقط، وبعد مضي أربع عشرة سنة قضت فيها زهرة شبابها معه، وجد امرأة أكثر مالا منها فتزوج بها وتركها تتقطع حسرات.
وهذا نموذج من ألوف من أمثاله، ومن غريب ما وقفت عليه من شؤون المتخاطبين عندهم أن الرجل يخطب المرأة فيتفقان على الزواج، ويبقيان مدة طويلة تعاشران عشرة المتحابين، وهي كما قلنا مخالطة تامة كمخالطة الزوجين، ثم يعقدان النكاح ويجتمعان على الزواج، فلا يلبثان أن تسوء عشرتهما، فيقع الشقاق بينهما ثم يعقبه الفراق.
ومن عجيب ما سمعت من ذلك في مدينة (بن) الألمانية أن متخاطبين بقيا مدة عشرين سنة متعاشرين في غاية الوفاق والوئام، ثم تزوجا، فلم يلبثا إلا سنة واحدة حتى وقع الطلاق بينهما، وكانت تلك السنة كلها خصومات ونزاعا بينهما، فسألت عن سر ذلك فأخبروني أن الرجل والمرأة ما داما متخاطبين يستر كل منهما أخلاقه الحقيقية ويتخلق بغيرها مصانعة وتملقا لصاحبه، مخافة أن يمله ويفسخ الخطبة، فإذا وقعت عقدة النكاح بينهما يسقط كل واحد منهما الكلفة، ويزول التملق، وتنكشف مخبآت الأخلاق والعادات، فيتلوها التنافر ثم النزاع والخصام ثم الطلاق.
وبهذا تعلم أن قول بعض الأغرار من الشرقيين باستحسان مخالطة الخاطب لمخطوبته قبل العقد، وخلوته بها ومعاشرته لها، زاعما أن ذلك يكشف لكل واحد منهما دخيلة الآخر فيقع الاتفاق، فالحب هو أساس الزواج السعيد، إن هذا القول باطل, وحديث خرافة، لأن هذين المتخاطبين لا يمكن لأحد منهما أن يعرف طباع صاحبه الحقيقية إلا بعد إسقاط الكلفة، وذلك يكون بعد العقد، ولأنهما غير معصومين من المباشرة المحرمة وعاقبتها الوخيمة في العاجل والآجل.
ولذلك حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية وقد جاء في الخبر “ما خلا رجل بامرأة، يعني أجنبية، إلا كان الشيطان ثالثهما”، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول على المغيبات – يعني النساء اللاتي أزواجهن غائبون – وسئل عن الحمو، وهو أخو البعل، هل يغتفر دخوله على زوجة أخيه وخلوته بها؟، فقال صلى الله عليه وسلم : “الحمو الموت” يريد أنه شر من البعيدة في الخلوة، ونهى صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم، كل ذلك كان منه محافظة على العرض والنسب والدين، وصلاح ذات البين، وصيانة لحقوق الرحم، أما نظر المتخاطبين كل منهما الآخر في غير خلوة ولا ريبة فلا بد منه، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقولهم: إن الزواج السعيد أساسه الحب، فيه نظر فإن الحب على أنواع، منه: حب الشهوة كحب الطعام والشراب وركوب الخيل، وما أشبه ذلك, فهذا الحب هو في الحقيقة ألم يحز في النفس، ويعظم بفقد المسكن، وهو قضاء الغرض من المطلوب فإذا ظفر صاحبه بمطلوبه سكن ألمه وضعفت رغبته في ذلك المطلوب، وصار ينظر إليه بعين غير العين التي كان ينظر إليه بها عند فقده، وقد تستمر هذه الرغبة في الضعف حتى تنعدم، والدليل على ذلك أن كثيرا من الناس كانوا يعشقون نساء، وبذلوا في سبيل التزوج بهن كل ما يستطيعون بذله، فلما وصلوا إلى غرضهم لم يلبثوا أن ملوا أولئك النساء، ولم تبق لهن قيمة عندهم، لأنهم كانوا يحبونهن حب شهوة، فلما قضيت قضى معها الحب نحبه، وهذا عام في البشر: الشرقيين منهم والغربيين. وقد سئل بعض الأوروبيين: من تحب من النساء؟ فقال: أحب جميع النساء ما عدا زوجتي! فإن لم يزل ذلك الحب بالمرة، فإنه يضعف كثيرا جدا، فإذا اتفق أن المحبوب كان غليظ الطبع جافيا سيء الخلق كان ذلك أدعى إلى موت ذلك الحب بسرعة وربما انقلب بغضا وعداوة.
ومنها حب ميل زوجي وهذا أطول عمرا من الذي قبله، فإن صادف أن المحبوب كان متصفا بأخلاق ملائمة لطبع المحب، ازداد ذلك الحب قوة على مر الأيام وثبت، وليس مقصودنا أن ننفي أن حسن الصورة من دواعي الحب الصحيح، ولا نقول بغض النظر عن كل حسن جسمي والاكتفاء بالجمال النفسي فإن هذا خطأ فإن الحب الصحيح لا يتم إلا إذا كان المحبوب جميلا في نفسه وهذا الحب يبنى على الزواج الشرعي الذي يكون كل من الزوجين قد رأى صاحبه قبل الزواج ورضي به زوجا بدون إكراه ولا إغراء، فإن صادفه الاتفاق في الأخلاق ومتانة الدين، كان ذلك أقوى له وأرسخ لقواعده، وهذا هو الذي أمر به الإسلام.
وأما اعتراضكم على الإسلام في جعله ميراث المرأة نصف ميراث الرجل، فهو اعتراض ساقط، لأن الرجل قد فرض عليه الإسلام فرائض مالية لم يفرضها على المرأة، منها دفع المهر، ومنها النفقة على الزوجة والأولاد والوالدين الفقيرين، زيادة على أن عليه حماية هؤلاء، والدفاع عنهم فهو في حاجة إلى المال، بخلاف المرأة فحاجتها في الجملة إلى المال قليلة.
مجلة التمدن الاسلامي س 19