التمست مني إدارة مجلة “دعوة الحق” الغراء كعادتها كل سنة منذ زمان طويل كتابة مقال ينشر في العدد الخاص بعيد العرش العلوي المجيد. واقترح علي أن يكون المقال في سيرة السلطان المكرم مولاي عبد العزيز ابن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن قدس الله أرواحهم. ولم أدر أين أجد ترجمة هذا الملك مع أني لقيته مرارا وتحدثت معه في مجالس خاصة بطنجة فكلمت بالهاتف صديقي الأستاذ عبد الوهاب بن منصور مؤرخ المملكة وسألته أين أجد ترجمة وافية للسلطان المذكور. فأملى علي كلمة مختصرة مفيدة في مولد صاحب الترجمة ووفاته أستفتح بها هذا المقال.
ولد السلطان مولاي عبد العزيز بن الحسن العلوي سنة 1298. وأمه شركسية اسمها السيدة رقية جلبها الحاج العربي بريشا التطواني أحد خاصة السلطان مولاي الحسن والد صاحب الترجمة، وبويع مولاي عبد العزيز بعد وفاة والده السلطان مولاي الحسن رحمه الله سنة 1311 وعمره إذ ذاك نحو أربع عشرة سنة وتنازل عن العرش لأخيه السلطان مولاي عبد الحفيظ في شهر رمضان سنة 1326. وكانت وفاته في صبيحة يوم ثامن جمادى الثانية سنة 1362 ونقل إلى فاس فدفن بضريح جده مولاي عبد الله.
وقال لي مؤرخ المملكة الأستاذ عبد الوهاب بن منصور: لا أعرف كتابا يشتمل على ترجمة السلطان مولاي عبد العزيز. ولكن كثيرا من أخباره مذكور في ترجمة أحمد بن موسى الوزير في تاريخ مكناس لمولاي عبد الرحمن بن زيدان في الجزء الأول منه فتوجهت إلى خزانة مكتب البلدية بمكناس، وسألت مديرها السيد أحمد أجانا. أن يعيرني الجزء الأول من الكتاب المذكور. فاعتذر لي عن إعارة الجزء الأول لأنه مفقود، وقال لي يمكنك أن تطالعه هنا وأمرت تلميذي محمد بن سلام، أن يبحث عن ترجمة أحمد ابن موسى الوزير فوجدناها مطولة وفيها كثير من أخبار المولى عبد العزيز ولكنها نتف مبعثرة، ويستفاد من هذا الكتاب أن الوزير أحمد بن موسى كان مسيطرا على السلطان مولاي عبد العزيز وهو الذي كان يحكم المغرب باسمه لصغر سنه وعدم استعداده وكان رجلا جازما ذا علم وذكاء وتمسك بالدين الحنيف. وهو الذي بايع السلطان مولاي عبد العزيز بدون استشارة العلماء والأعيان كما جرت به العادة نص على ذلك مؤلف كتاب تاريخ العالم الحديث المقرر تدريسه في المدارس الثانوية المغربية. وكان زمان تولي هذا السلطان مملوءا بالفتن والثورات منها ثورة الريسوني في الشمال وثورة ماء العينين في الجنوب، والثورة العظمى التي هي أدهى وأمر ثورة الجلاني الزرهوني الملقب بأبي حمارة. وفي تاريخ مكناس أنه لقب بذلك لأنه كان في أول أمره يركب أتانا وكانت ثورته في القسم الشرقي من المملكة وقد هزم جيش الحكومة هزائم فظيعة متوالية، وثورته هذه هي التي أضعفت الدولة المغربية وأوصلتها إلى الحضيض. ومهدت الطريق لدول الاستعمار الأوربي وكانت الدولة الفرنسية مصممة على نصب الحبائل لاستعمار المغرب فبدأت التدخل في شؤونه باستغلال ناحية الضعف الشديد في الدولة المغربية وهي الناحية المالية فإن أموال الدولة المغربية كانت تتألف من الزكاة وأخذ العشر من الحبوب فعرض الفرنسيون قروضا على الدولة المغربية لينقذوها بزعمهم من ضيقها المالي واقترحوا على السلطان أن يستبدل أخذ الأعشار والزكاة بفرض جباية ضرائب على الممتلكات من المواشي والبهائم والأراضي الزراعية وبضائع التجار المستوردة وغير ذلك ولكن الدولة كانت عاجزة عن أخذ الضرائب القديمة والجديدة على السواء بسبب اختلال الأمن في كل مكان وعجز الجيش المغربي عن إخماد الثورات وتعميم الأمن فكان الفرنسيون وغيرهم من الأروبيين إذا قتل الثوار أو اللصوص واحدا منهم طالبوا وزارة المالية المغربية بدية فادحة ثقيلة ومقصودهم إفقار الدولة المغربية لتشتد حاجتها إلى المال ثم يعرضوا عليها المساعدة المالية ويتولوا هم بأنفسهم جباية المكوس في المراسي وتلك وسيلة بل ذريعة من ذرائع المستعمرين فهذه الأسباب وهي اختلال الأمن وفقر الدولة وعجز جيشها بسبب الهزائم التي أصيب بها من الثورات يضاف إلى ذلك تنافس دول الاستعمار على استعمار المغرب الخصيب ثم تصالحهم على أن يسمح لإيطاليا بالاستيلاء على ليبيا ويسمح لبريطانيا بالاستيلاء على مصر، وتقتسم فرنسا واسبانيا الأراضي المغربية فتستولي اسبانيا على الجهة الموالية لأرضها وهي الشمال وتجعل طنجة ونواحيها دولية وتستولي فرنسا على بقية أراضي المغرب وقد تم لهم هذا الاتفاق في مؤتمر الجزيرة الخضراء المجاورة للمغرب من الأراضي الاسبانية وكان ذلك سنة 1904 يضاف إلى ذلك أن السلطان كان في أول أمره طفلا. وكان الحاكم في المغرب الوزير أحمد بن موسى. وأول ما بدأ به هذا الوزير بعد استيلائه على الحكم الانتقام من الوزير الأكبر في زمان السلطان مولاي الحسن الحاج المعطي الجامعي وأخيه محمد الصغير فحبس الحاج المعطي إلى أن مات وحبس أخاه زمانا طويلا. وكان عليه أن يجهز الجيوش لإخماد الثورات وأن يجتبي الأموال اللازمة لذلك وقد بذل في المحافظة على سلامة الدولة جهدا عظيما ولكن الأمر كما قال الشاعر :
متى بلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمه
وقال آخر
وما يصنع الباني وثمت هادم *** فكيف ببان خلفه ألف هادم
فهذه الأسباب كلها مجتمعة أضعفت دولة مولاي عبد العزيز وهناك سبب آخر لم نذكره وذلك أن السلطان مولاي عبد العزيز عمل بنصيحة الأوربيين إذ أخذ ببعض الأنظمة الأوربية كفرض الضرائب والمكوس المعروفة مراكزها عند المغاربة (بالديوانات) وبعث الطلبة للدراسة في أروبا وتعيين بعض الفرنسيين في المراسي المغربية جباة للمكوس يضاف إلى ذلك كون السلطان شابا فتيا لم تحنكه التجارب. وبايع بعضهم أخاه المولى عبد الحفيظ فاستولى على الحكم واستعد لحرب أخيه فتنازل عن الحكم حقنا للدماء لئلا يزداد الخرق اتساعا ووعد السلطان مولاي عبد الحفيظ الشعب المغربي بإصلاح كل ما أفسده الزمان والأعداء وأخوه مولاي عبد العزيز فكان في وعده لهم كما قال الشاعر في عجوز متصابية :
عجوز ترجي أن تكون فتية *** وقد لحب الجنيان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعة أهلها *** وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
كذلك كانت الدولة المغربية في ذلك الزمان ولا يستطيع مولاي عبد الحفيظ أن يرد لها شبابها. لأن ذلك مكتوب عند الله لغيره ألا وهو الملك الهمام الذي أجرى الله على يده المعجزات محمد بن يوسف الملقب بالخامس وسليله النابغة جلالة الملك الحسن الثاني الذي كان رداءا له وعضدا في تأسيس الدولة المغربية العصرية. وإبدال تلك العجوز الشمطاء الحيزبون بشابة جميلة فتية وهي الدولة الحاضرة وفق الله إمامها لاستكمال رد شبابها. وشفاء عللها واله كريم . وما ذلك على الله بعزيز .
تنازل المولى عبد الحفيظ عن الملك ولم يقض فيه إلا مدة يسيرة ذاق فيها الأمرين. وخلفه أخوه مولاي يوسف وتوجه مولاي عبد الحفيظ إلى المشرق وزار البيت الحرام ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وأحسن إلى المعوزين من المغاربة في تلك البلاد. ثم رجع إلى إسبانيا وسكنها مدة من الزمان. وأخبرني بعض أهل مجريط (مدريد) والعهدة عليه أنه كان متبذرا فضاق رزقه فطلب الالتجاء إلى فرنسا. فأجابته إلى ما طلب. وأجرت عليه راتبا إلى أن توفي بها. وأما السلطان مولاي يوسف رحمه الله فإنه كان متمسكا بالدين محبا لأهل العلم مجالسه عامرة بالمذاكرات العلمية، ومن مزاياه التي اطلعت عليها في السنة التي أقمتها في وجدة في زمان حكمه وذلك أن الأديب الشاعر ذا التآليف العديدة الشيخ أحمد السكيرج دعاني وأنا مستقر بالجزائر لتعليم ابنه السيد عبد الكريم السكيرج وابن أخيه السيد عبد السلام السكيرج الأدب العربي، فقد كتب إلي قائلا : أنا لا أثق بأحد في تعليم الأدب لابني وابن أخي إلا بك . وكانت الطريقة التجانية تجمعنا هو شيخ مقدم فيها وأنا كنت متمسكا بها، حتى سنة 1340 للهجرة النبوية وفيها التقيت بالعالم الأديب المنقطع النظير المجاهد الوطني الذي وقف في وجه الاستعمار الفرنسي بحزم وشجاعة في وقت لم يكن أحد فيه يستطيع أن ينبس ببنت شفة، عصى أمر المرشال اليوطي المستعمر الغشوم وأغلظ له القول فنفاه من بلده سلا إلى وجدة، في تلك السنة علمت أن السلطان مولاي يوسف رحمه الله اعتنى عناية منقطعة النظير بتوحيد الصوم والإفطار بطريقة فقهية دقيقة. وبيان ذلك أنه كلف جميع القضاة فيما كان يسمى بالمنطقة السلطانية من المغرب أن يصعدوا إلى المنارات قبل غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان ومعهم المشهورون بحدة البصر في ذلك البلد. وطبيب عيون، وعالم فلكي. فإذا رأى أحد أولئك الرجال الهلال بعد ما يعين له الفلكي مطلعه، يقول الطبيب أره رفقائك فإن رأوه أبرق القاضي ومن معه من العدول إلى السلطان بشهادتهم. وإن رآه واحد ولم يره الآخرون فحص الطبيب عينيه وعيونه رفقائه. فإن وجده أقوى بصرا منهم أقره على شهادته واعترف بها. وإن رآه مثلهم أو دونهم في الإبصار رد شهادته وحكم عليه بالوهم. وفي نصف الليل تجتمع عند السلطان الحكيم مولاي يوسف بن الحسن رحمه الله برقيات كثيرة فيحكم هو وعلماؤه بالصيام أو الإفطار أو عدمهما وهذا الصنيع لم أستمع به عن أحد من الملوك ولا قرأته في كتاب وهو أبو البطل الأكبر الذي حرر الله عبر يده بمشاركة ولي عهده صاحب الجلالة الحسن الثاني جميع البلاد المغربية من العبودية من حدود شنقيط إلى حدود مصر إذ لم يبل أحد من الملوك والرؤساء بلاء يشبه ما أبلاه هذان المجاهدان فله ثم لهما يرجع الفضل في استقلال المغرب الأقصى وموريطانيا والجزائر وتونس وليبيا أيضا. ولذلك لم تعجب شعوب العالم بجهاد رئيس أو ملك في هذا الزمان مثل ما أعجبت بسليل مولاي يوسف وحفيده ولا ينبئك مثل خبير، فإنني كنت مستوطنا العراق في وقت تنازل المجاهد الأكبر محمد الخامس وولي عهده عن العرش الذي يخضع لاستعمار الأجانب إلى المنفى القصي وتجرع مرارة الغربة والتجرد عن الجاه، وكنت أسافر كل سنة إلى الهند ثم سافرت إلى أوربا ووجدت جميع الشعوب في دهشة عظيمة بهذا العمل العظيم، وبهذا العمل الجليل ارتفع عنا الذل نحن معشر المغاربة المبعدين عن وطننا. فإنني كلما لقيني إنسان من أي جنس كان، كان يسألني عن وطني. فأقول: أنا من المغرب فيبادرني بقوله أنت من المغرب الفرنسي أم من المغرب الاسباني، أم من طنجة الدولية ؟ فأقول إن المغرب مملكة واحدة عريقة في الشرف فقدت استقلالها، وسيعود لها إن شاء الله فيسخر مني ويضحك ويقول: دعنا من الأساطير البالية فلا أجد ما أجيب به. وكذلك قال لي نائب رئيس الوزراء العراقي سنة 1934 بتاريخ النصارى حين أراد أن يمنحني الجنسية العراقية فقال لي ما هي جنسيتك الحاضرة؟ قلت مغربية. فقال لي هذا كلام فارغ قل فرنسية فأظلمت الدنيا في عيني وغضبت ولم أعد أدر من أخاطب فقلت له هل أنت قبل سنتين أي قبل تحصيل الاستقلال الاسمي اللفظي كنت انجليزيا وكان معي الأستاذ كمال الدين الطائي من كبار علماء المذهب الحنفي في بغداد فاعتذر لنائب رئيس الوزراء وجذبني حتى أخرجني من مكتبه ولامني على تلك الجرأة. فقلت دعه يفعل ما يشاء ونسيت أن أقول أني قلت لذلك الرئيس في وقت الغضب “أمبير شرفين” معناه الإمبراطورية الشريفة فهل كتب عليه الإمبراطورية الفرنسية فاكتفي ذلك الرجل في الانتقام مني بأن كتب على أوراق الطلب التي شغلتني أربعة أشهر، شهرين في البصرة وشهرين في بغداد كلمة ـ مرفوض ـ ووقع تحتها فلم تدم تلك الوزارة في الحكم إلا إثني عشر يوما ثم سقطت وكانت وزارة جميل المدفعي فجاءت بعدها وزارة علي جودة الأيوبي ومنحتني الجنسية العراقية في ثلاثة أيام بشفاعة صديق شهم. ومند ثار البطل العظيم محمد الخامس وسليله جلالة الملك الحسن الثاني على الاستعمار الفرنسي لم يعد أحد من أي جنس كان يتجرأ على السخرية منا معشر المغاربة المغتربين بل كان الناس ينظرون إلينا بعين الإجلال والإكبار فإذا سئل الواحد منا عن وطنه فقال أنا مغربي يبادره السائل أنت من بلاد المجاهد محمد الخامس. لله دره، ما رأينا ملكا مثله. ثار في وجه الاستعمار واسترخص عرشه من أجل دينه ووطنه وهذا الأمر لا يعرفه إلا من ذاقه من المغتربين المبعدين عن وطنهم المغربي، أما المغاربة الذين لم يبعدوا ولم يخالطوا الشعوب المختلفة فإنهم وإن كانوا مجمعين على إكبار عمل هذا المجاهد البطل فإنهم لم يذوقوا ما ذقناه نحن من مرارة السخرية أولا وحلاوة التكريم بعد تلك الثورة المباركة فرحم الله المجاهد أبا الحسن وبارك في المجاهد الحسن.
اجتماع كاتب هذا المقال بالسلطان مولاي عبد العزيز بن الحسن رحمهما الله
كل ما كتبته من قبل فهو مما قرأته في الكتب، أما ما أحدث به الآن فهو حديث مشاهدة وسماع. في شهر مارس من سنة 1942، أرسلني الأستاذ المجاهد صاحب الفضيلة الشيخ محمد أمين الحسيني من برلين إلى تطوان، وإتماما للفائدة أقول، إن هذا الأستاذ المجاهد كان مع الأستاذ رشيد عالي الكيلاني نسبة إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمهما الله هكذا ينطق به أهل العراق بالكاف نسبة إلى كيلان قرية من بلاد الأكراد في شمال العراق، أرسلني للاجتماع بالزعيم عبد الخالق الطريس لأمر فيه مصلحة للمسلمين وكان سفري بجواز أرسله إلي الزعيم المذكور من تطوان على أني من أهلها بعد ما نزعت مني الجنسية العراقية بائتمار كاذب بين سفير العراق في رومة مراحم الباجيجي مع السفير الانكليزي في رومة بدون علم الحكومة العراقية لأني آذيت الحكومة الانكليزية بالأحاديث التي كنت ألقيها من إذاعة برلين العربية دفاعا عن وطني لا تكليفا من الألمانيين. ولما وصلت إلى تطوان كنت جاهلا بالاستعمار الاسباني والفرنسي وحاجتهما إلى التملق، وبدونه تعتريهم الشكوك، فنزع مني مدير الشرطة الإسباني ذلك الجواز باعتباره أنه مزور وقد بسطت هذا الخبر في كتابي (الدعوة إلى الله) فاضطررت أن أبقي فيما كان يسمى بالمنطقة الاسبانية فاضطررت إلى البقاء في تطوان وما حولها فيما كان يسمى بالمغرب الاسباني، من الأراضي المغربية إلى السنة 1947. حين تيسر لي الرجوع إلى العراق. وفي هذه السنة سنة 1942 اجتمع الزعيم عبد الخالق الطريس بالسلطان مولاي عبد العزيز الذي كان قد اتخذ طنجة مقرا له بعد اعتزال الملك فجاءني الزعيم عبد الخالق الطريس بتحية من السلطان مولاي عبد العزيز فعزمت على زيارته وقال لي الأستاذ عبد الخالق الطريس ما عليك إلا أن تأتي وكيل مولاي عبد العزيز في طنجة وهو يوصلك إلى قصره في الجبل بالسيارة فتلقاني رحمه الله بغاية الترحيب والفرح وقال لي كنت أسمع برحلتك الواسعة وكنت أحب أن أراك فجلست عنده قدر ساعة وكان طويلا أبيض ذا لحية وافرة ألا إنها مقصوصة الأطراف فتحادثنا وحدثته بما جرى لي في أسفاري ومحاربة الاستعمار الانكليزي والفرنسي لي لدفاعي عن وطني، وتحدثنا أيضا في العقيدة السلفية في توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العبادة بالتبرؤ من عباد القبور. وتوحيد التوجه إلى الله تعالى بلا واسطة. وتوحيد اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بغير تقليد ولا تمذهب فوجدته راسخ العقيدة في السلفية قدس الله روحه. وأخبرني أن أستاذه في العقيدة السلفية هو العالم السلفي المحدث المحقق الشيخ عبد الله السنوسي رحمه الله، وأخبار هذا الإمام كانت معروفة عند أهل طنجة وشمال المغرب وسأذكر طرفا منها باختصار لأن المقال قد طال وأخاف أن هذا العدد الخاص من مجلة (دعوة الحق) الغراء لا يتسع له. من ذلك أنه كان يعلن توحيد العبادة واتباع الكتاب والسنة في جميع مجالسه. وستتعجب أيها القارئ إذا أخبرتك إنني رويت كتب الحديث والإثبات عن شيخنا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركبوري الهندي، مؤلف (تحفة الأحوذي فيما شرح الترمذي) في خمسة من المجلدات في المقدمة وقد طبع ونشر، وذكرني رحمه الله في آخر المجلد الآخر عن ذكر القصيدة التي قرظت به الكتاب بطلب منه عن شيخ شيخنا الإمام نذير حسين الدهلوي عن الشيخ محمد إسحاق الدهلولي إلى آخر السند. ومن جملة شيوخ محمد إسحاق في أسانيد الحديث الشيخ عبد الله السنوسي وبسط لي أخباره السلطان مولاي عبد العزيز رحمه الله. وقال لي في جملة ما قال أن هذا الشيخ الإمام لما حضرته الوفاة ترك خزانة كتبه عندي ولا ادري أنا ما أصنع بهذه الخزانة وعند من أودعها لينتفع الناس بها دون أن تصل إليها أيدي لصوص الكتب، فلم أبدي له رأيا ولا أعرف الآن ماذا جرى على هذه الخزانة وأخبرني رحمه الله بان كتبه هو تركها في فاس .
ولقد حدثني الثقات من أهل طنجة أن المحدث الحجة الشيخ عبد الله السنوسي أستاذ السلطان مولاي عبد العزيز سافر إلى العرائش وكان له بها محبون يلتمسون منه زيارته لهم حينا بعد حين ليغترفوا من بحر علمه الغزير وكان له خادم جاهل بتوحيد العبادة فلما وصل الشيخ إلى العرائش قال الخادم: (أحنا أضياف الله عندك يا للا منانة) معناه نحن ضيوف الله عندك يا سيدتنا منانة، ومنانة اسم لوثن يعبده الجهال، وهو ضريح للمرأة المذكورة فأسرها الشيخ في نفسه وكان من عادة الشيخ أن ينزل عند أحد المحبين ويذهب خادمه إلى المقهى فيسمر فيه إلى وقت النوم حتى إذا رجع يقدم له عشاؤه. أما في تلك الليلة فقال الشيخ لأهل هذا البيت لا تتركوا للخادم عشاء فإنه مدعو للعشاء عند بعض الناس، فلما رجع وجلس ينتظر العشاء كالعادة قال له الشيخ كيف كان عشاء منانة عسى أن يكون جيدا فقال له الخادم يا سيدي أنا ما تعشيت فقال الشيخ يا عجبا أنت طلبت الضيافة من منانة فكيف تركتك بلا عشاء، اذهب لتنام فليس لك عشاء في هذه الليلة جزاء لك على الشرك بالله . وحدثني العالم السلفي الورع التقى النقي الأستاذ الشيخ محمد أبو طالب رحمه الله هنا في مكناس أن الفقهاء في فاس كان لهم اجتماع في الضريح الإدريسي كعادتهم عندما تدعو الحاجة إلى الاجتماع فلما انصرفوا من ذلك الاجتماع لقي أحدهم المحدث الإمام عبد الله السنوسي فقال له يا سيدي كنا نرجو أن تحضر معنا في ضريح مولاي إدريس فقال له أنت تعلم أني لا ادخل الأضرحة ولا أصلي في المساجد المبنية عليها فقال له إن الشيخ خليلا أباح الصلاة فيها ونحن خليليون، إن دخل خليل الجنة دخلنا معه وإن دخل النار دخلناها معه .
ومن المعلوم أن اتخاذ المساجد على القبور بدعة منكرة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد” يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره غير انه خشي أن يتخذ مسجدا. وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد أشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) هكذا رواه مالك في الموطأ مرسلا، قال الحافظ بن عبد البر ووصله عمرو بن محمد فقال، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. فزالت عنه علة الإرسال وصلح للاحتجاج على أن هذا الحكم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة وأسانيد صحيحة تكاد تبلغ حد التواتر
مكناس: محمد تقي الدين الهلالي
مجلة دعوة الحق، العدد 184-185 (العددان 2 و 3 – السنة 19) – ربيع الأول وربيع الثاني 1398هـ – فبراير ومارس 1978م – ص 51-55