اعلموا أيها الإخوان المكرمون، أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرعية هي روح الإسلام وبها سعادة المسلمين، منفردين ومجتمعين، وإنما قيدناها بالشرعية لأنها إذا لم تكن كذلك لا تضمن السعادة لصاحبها ولا النجاة من عذاب الله تعالى، وإليكم البرهان:
قال الله تعالى في سورة القصص: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين 56)
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (إنك لا تهدي من أحببت) (أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) وقال تعالى (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وقد ثبت في الصحيحين أنها في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا، طبيعيا لا شرعيا، فلما حضرته الوفاة، وحان أجله، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه، واختطف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة، قال الزهري: “حدثني سعيد ابن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) وأنزل في أبي طالب (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)”، أخرجاه من حديث الزهري، وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي من حيث يزيد ابن كيسان بن أبي حازم عن أبي هريرة قال لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة) فقال لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك لا أقولها إلا لأقر بها عينك فأنزل الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد ابن كيسان، رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى عليه ذلك، وقال أي ابن أخي ملة الأشياخ، وكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي قال كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره، ثم قال: (ممن الرجل)؟ قلت من تنوخ، قال: (هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية) قلت إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه، وقال: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
توضيح كلام الحافظ ابن كثير
1ـ قوله: ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا، يعني أن أبا طالب كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا شديدا طبيعيا بداع القرابة، لا شرعيا بداع الإيمان، ومن ثم نعرف أن المحبة نوعان: محبة طبعية، جبل عليها الإنسان، كما يحب الرجل والديه، وبنيه وزوجته وذوي قرباه، ومن يألفه من غيرهم وكما يحب المشتهيات والمستطلبات والمستحسنات، من كل ما تميل إليه نفسه ويتعلق إليه قلبه، وهذا الحب إذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للمؤمنين لا يغني عن صاحبه شيئا فلا ينجيه من عذاب الله ولا يوجب له غفران الذنوب ودخول الجنة، لأن الأعمال بالنيات، ولأن الحب لا يكون له ثواب عند الله إلا إذا كان لله ولا يكون لله إلا إذا صدر من مؤمن بالله ورسوله، يحب لله ويبغض لله ويوالي لله ويعادي لله، يشهد لذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاث منكن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) فصرح النبي صلى الله عليه وسلم بان المرء إنما يجد حلاوة الإيمان إذا أحب لله لا لغرض آخر.
والنوع الثاني، الحب لله وهذا هو الذي ينفع صاحبه ويرفعه وينجيه من العذاب، ويوجب محبة الله له، ودليل هذا الحب طاعة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وترك المعاصي والبدع لأن من ادعى محبة محبوب… وأكثر من معصيته وأصر عليها، يكون كاذبا في دعواه.
كل من يدعي بما ليس فيه *** فضحتـه شواهـد الامتحـان
وقال آخر:
تعصى الرسول وأنت تظهر حبه *** هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لاطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
و بعضهم ينشده تعصى الإله الخ… وكلاهما صحيح.
قال الحافظ في الفتح وأخرجه النسائي من طريق طلق بن حبيب عن أنس وزاد في الخصلة الثانية ذكر البغض في الله ولفظه، (وأن يحب في الله ويبغض في الله).
قال الحافظ في الفتح وشاهد هذا الحديث في القران قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم) إلى أن قال (أحب إليكم من الله ورسوله) ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: ((فتربصوا)اهـ.
يعني الحافظ آية التوبة 24 ـ (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأخواتكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين).
وهذه هي المحبوبات الثمانية التي فتنت كثيرا من الناس وآلهتهم عن ذكر الله، وصرفتهم عن طاعة الله ورسوله لأنهما حبوها كلها أو بعضها أكثر من محبة الله ورسوله فلما تعارضت لهم محبتها مع محبة الله ورسوله، رجحوا محبتها على محبة الله ورسوله، فعصوا الله ورسوله أو كفروا به فخابوا وخسروا والأزواج جمع زوج وهي امرأة الرجل والأفصح فيها زوج بدون تاء التأنيث، والعشيرة هي القبيلة التي ينتسب إليها المحب. والأموال المقترفة، المكتسبة يحبها الإنسان أكثر من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتجارة تخشون كسادها، أي تخافون أن صدقتم في حب الله ورسوله وفضلتموه على كل محبوب ألا تربحوا في تجارتكم، بل تصاب تجارتكم بالكساد، أي عدم الرواج، ومساكن ترضونها جمع مسكن وهو القصر أو البيت، يخاف ضعيف المحبة إذا فضل حب الله ورسوله على كل محبوب أن يخرج من بيته الذي يحب السكنى فيه، أو يخاف أن ينفى من وطنه الذي ألفه وأحبه ولا يبغي به بديلا، كما قال الشاعر:
و لي وطن أليـت ألا أبيعــه *** وإلا غيري له الدهر مالكـا
و حبب أوطان الرجال إليهم *** مأرب قضاها الشباب هنالكا
و قال آخر:
أحب بلاد الله ما بين منعج *** إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي *** وأول أرض مس جلدي ترابها
فالمؤمن الصادق، إذا رأى أن وطنه المحبوب سيحول بينه وبين كمال محبة الله ورسوله يهجره لله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون من أصحابه ، ومعنى قوله أحب بلاد الله الخ… هكذا، أحب بلاد الله إلي الأرض الواقعة بين منعج وسلمى، وهما موضعان في شمال جزيرة العرب في بلاد طيء، يعني أحب بلاد الله إلي أن ينزل فيها المطر، هذه الأرض والعرب تدعوا بالمطر والسقي لكل أرض تحبها ولكل شخص تحبه لقلة المطر بأرضهم ومحبتهم له. فإن قلت أيها الكاتب قد خرجت عن الموضوع وأكثرت من الاستطراد، وصار قارئك ينشد:
تكاثرت الظباء على خراش *** فما يدري خراش ما يصيد
قلت هذا مذهبي، وللناس فيما يعشقون مذاهب وإنما أفعل ذلك ليسهل على القراء الضعفاء فهم كلامي.
ووجه كون الآية تشهد للحديث، أن الحديث دل على أن من فضل حب الله ورسوله على حب غيرهما يكون قد ذاق حلاوة الإيمان، ودلت الآية على أن من فضل شيئا من تلك المحبوبات على محبة الله ورسوله فلينتظر عذاب الله.
2 ـ قول أبي طالب (ملة الأشياخ) يعني لا أستطيع أن أترك دين أبائي وهم رؤساء قريش وأشياخها وادخل في دين جديد، وهذه أحد المحبوبات الثمانية السالفة الذكر فان أبا طالب، شق عليه أن يترك دين أبائه، وكان حبهم في قلبه أعظم من حب الله ورسوله، فمن سلم من شر هذه المحبوبات أدرك ما أمل، ونجا مما خاف فان معظم الضالين المعرضين عن الحق، المؤثرين للحياة الدنيا، إنما جاءهم البلاء من هذه الثمانية أو بعضها. فنسال الله سبحانه وتعالى أن يجعل حبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا أعظم من حب ما سواهما.
3 ـ تنوخ قبيلة من نصارى العرب، وقد أسلموا بعد ذلك، وكان منهم علماء بارعون في فنون مختلفة من العلم، والذي صد رسول قيصر التنوخي عن قبول ما عرضه عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الإسلام هو أيضا أحد الثمانية وهو العشيرة فانه قال إني رسول قوم وأنا منهم، وتأمل ترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لهذا العربي النصراني في الإسلام بقوله عليه الصلاة والسلام (هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية) وقال تعالى في سورة آل عمران 21 (قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم).
(قل أطيعوا الله والرسول، فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين).
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة، هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فانه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولهذا قال (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) أي يحصل لكم ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء والحكماء ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تحب.
وقال الحسن البصري وغيره من السلف زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: (قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ثم قال: (ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا من بركة سفارته، ثم قال تعالى أمرا لكل احد من خاص وعام: (قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا) أي تخالفوا عن أ أمره فان الله لا يحب الكافرين، فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك، وان ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويقرب إليه حتى يتبع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل رسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولوا العزم منهم في زمانه وسعهم إلا أتباعه والدخول في طاعته، وإتباع شريعته.
قول الحافظ ابن كثير كما ثبت في الصحيح، يريد به صحيح مسلم، ومعناه أن من عمل عملا من صلاة وصيام، وزكاة وحج وعمرة وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وذكر لله تعالى ودعاء وابتهال وتضرع وبيع وشراء واكتساب ونكاح وطلاق، إلى غير ذلك من أمور، وكان في ذلك مخالفا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة سياسية، كمن يتقرب إلى الله تعالى، بقرع الطبول، والغناء نع آلات اللهو والرقص، واكل الثيران وشرب الماء الساخن، وما أشبه ذلك، من البدع الحقيقية التي لم يشرعها الله البتة، أو عمل عملا شرعه الله، ولكنه زاد فيه المبتدع أو نقص منه أو قيده بوقت أو هيئة أو عدد، من البدع الإضافية، كالاجتماع للذكر بلسان واحد، في وقت معين، بعدد معين، وهيئة معينة فان هذا من البدع الإضافية، فهو بذلك عمل لم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حقق الإمام أبو إسحاق الشابطي في الاعتصام، هذا المقصد، واخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي لا يقبله الله تعالى.
وقال تعالى في سورة آل عمران أيضا رقم 81 (وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
قال الحافظ ابن كثير، بخبر الله تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن أدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما أتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده.
و لهذا قال تعالى وتقدس: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب وحكمة) أي لمهما أعطيتكم من كتاب، (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري) وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإصري يعني عهدي.
وقال محمد بن إسحاق (إصري) أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقي الشديد المؤكد، (قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذلك) أي عن هذا الميثاق (فأولئك هم الفاسقون) قال علي بن أبي طالب، وابن عمه العباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ ميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. ثم قال، وقال الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن ثابت قال جاء عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أني مررت بيهودي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن ثابت، قلت له ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، قال فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (والذي نفسي بيده، لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيئين) اهـ.
و قال البزار بسنده إلى جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم، ما حل له إلا أن يتبعني) اهـ.
ومعنى الآية وما جاء من الأخبار في تفسيرها، أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم فرض على جميع الناس وكذلك اتباعه وعدم مخالفته فرض على جميع الناس حتى على الأنبياء المرسلين لو جاءوا بعد بعثته، لم يسعهم إلا اتباع سنته والاهتداء بهديه ولا يجوز لهم أن يعملوا بشرائعهم المخالفة لشريعته لأن شريعته عليه الصلاة والسلام نسخت الشرائع كلها، قال العلماء المحققون: إذا كان الأنبياء والمرسلون مع أنهم معصومون وقد نزل عليهم الوحي لو جاءوا بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ما جاز لهم أن يخالفوا شريعته، فكيف بعلماء أمته؟ الذين هم غير معصومين ولم ينزل عليهم وحي، كيف يجوز لهم أن يعتمدوا على رأيهم المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو كيف يجوز لمقلديهم أن يتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتمدوا على أراء من قلدوه وهم لا يعرفون دليله، ويعتقدون أنه غير معصوم يصيب ويخطئ وهم لا يميزون بين خطئه وصوابه، لأنهم أسارى التقليد، وعقولهم معقولة بعقاله فهم أجدر، أن يكونوا على ضلال إذا خالفوا ما جاء به الله ورسوله. وإذا كان أهل هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم لو جاءهم رسول من الرسل السابقين واتبعوه وتركوا هدي رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، لضلوا ضلالا بعيدا، فكيف إذا اتبعوا رأي من ليس بنبي ولا رسول، وتركوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
و الخلاصة:
إن محبتنا لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الكنز الأعظم الذي حافظنا عليه أدركنا السعادة في الدارين، وحلت جميع مشاكلنا، وفرجت جميع كربنا، وفزنا فوزا عظيما، ولا تتم لنا هذه المحبة إلا باتباع سنته وترك ما نهى عنه من البدع والمعاصي، والمؤمن الصادق في محبته يجعل ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم نصب عينيه في حياته كلها لا يغفل عنه أبدا وبذلك يهتدي بهديه ويقتدي بسنته في ما يأتي ويذر من الأقوال والأفعال في خاصة نفسه وفي ما بينه وبين أهله وعشيرته وفي ما بينه وبين الناس جميعا خاصتهم وعامتهم وبذلك فقط يقيم البرهان على أنه محب صادق، وينال ثمرة المحبة المصاحبة للأتباع، ومن اقتصر على ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته السامية التي هي حياة أرواح المؤمنين الصادقين في يوم واحد من بين ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما، وهي أيام السنة العربية القمرية، فإنه بعيد لعمر الله عن تَوْفية حقوق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا إذا ذكر المولد، ذكرا سنيا، مطابقا لما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون من الأئمة المجتهدون، ومن اتبعهم بإحسان، فأما إذا كانت الذكرى بإنشاد الأغاني وتوزيع الحلو وإحراق الشموع المصنوعة بالمسك والعنبر، وعود الطيب والأنوار الكهربائية الملونة في هذا الزمان وإنشاد القصائد وإلقاء الخطب، دون إحياء سنة ولا إماتة بدعة، ولا إقامة شريعة، فإن فاعل ذلك أبعد من أن يؤدي شيئا من حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم.
خاتمة :
رأيت أن أختم هذا المقال الذي كتبته نصيحة خالصة للشعب المغربي عامة ولجلالة ملكه المحبوب أبي محمد الحسن الثاني أطال الله بقاءه وأيده بنصره وبالمؤمنين، ووفقه لإحياء سنة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم وإقامة شريعته، وما أجدره بذلك، ثم هو بعد ذلك نصيحة لجميع المسلمين، أردت أن أختمه بنقل كلام إمامين من أئمة أهل السنة، في حكم الاحتفال بالمولد.
كلام الإمام أبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي الشهير بابن الحاج المتوفى بالقاهرة سنة 732 عن بضع و80 سنة.
قال في المدخل ج 2 ص 2 ما نصه: ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد وقد احتوى على بدع ومحرمات جملة، فمن ذلك استعمالهم المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة (العوادة باللغة المغربية) وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع، ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة، في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه، فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم، الذي فضله الله تعالى، وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم على ربه عز وجل اهـ.
وقد أطال رحمه الله في ذلك فنكتفي بهذا القدر.
كلام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728. قال في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم ما نصه:
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع، من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم، عيدا، مع اختلاف الناس في مولده، فان هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا، أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا اشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجي لهم بالمثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة الظاهرة التي لم تشرع وما يصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها، كما جاء في الحديث (ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم) اهـ.
توضيح لكلام هذا الإمام
قوله: “والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع”، ظاهره فيه إشكال، لأن الثواب على المحبة واضح، أما الاجتهاد المفضي إلى إحداث البدع، ففي ثوب الثواب من أجله نظر، لأن وجوب الاتباع وترك الابتداع، مع العلم بكمال الدين قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ونصيحته لأمته وحرصه على ما يقربهم إلى الله، ثم كون أصحابه خير الناس من بعده، وخير الناس من بعدهم التابعون، وخيرهم من بعدهم تابعوا التابعين، ولو كان في إقامة المولد خير، لسبقونا إليه، يمنع حصول الأجر، للمجتهد اجتهادا، يفضي إلى البدعة لأنه مبني على المخالفة للنصوص لا على أساس مشروع. يوضح ذلك أن الشيخ رحمه الله صرح بأن البدعة لا ثواب عليها سواء أكانت بدعة المولد أو غيرها.. إذا، يكون المراد أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم والاجتهاد في تعظيمه فيهما ثواب عظيم فإذا أفضى الاجتهاد إلى إحداث بدعة المولد، وما أشبهه فليكف المجتهد، وليحذر من ارتكاب البدعة، فليس فيها إلا الإثم، قال الشاطبي في الاعتصام: “قال مالك رحمه الله: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم) وما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا”.
قال محمد تقي الدين، وهذه قاعدة عظيمة استنبطها مالك رحمه الله من كتاب الله تعالى، لو سار عليها المسلمون لكانوا على صراط مستقيم، خصوصا في هذا الزمان، الذي كثرت فيه الفتن وقبض فيه العلم بقبض العلماء فلم يبق منهم إلا قليل، ثلة من الأولين وثلة من الآخرين. ولذلك اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، ولا نجاة لخاصة ولا عامة، إلا بالاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
مجلة دعوة الحق – العدد 127-128 – ربيع الأول 1390هـ – مايو 1970م