ان بغيا من البصرة قضت – على ما قال عارفو حالها – شطر عمرها في البغاء والشطر الآخر في رئاسة المواخير وجمعت من المهنتين أموالا طائلة فصارت ملاكة وماتت وهي مباشرة لمهنتها الأخيرة، فاحتمل أصدقاؤها جنازتها إلى بلد الزبير لتدفن في مقبرة الحسن البصري رضي الله عنه، وشيع جنازتها 27 سيارة كثير منها كانت مشحونة بتلميذاتها البغايا برا بأمهن العطوف ومربيتهن الرءوف ودفنت على حين غفلة من أهل الزبير في المقبرة المذكورة عند قبر السيد طالب باشا النقيب وقبر السيد محمد بركات وغيرهما من قبور الأشراف، ولا غرابة في ذلك فالموت واللحد واحد والله ولي الحساب ولكن الغرابة فما يأتي: لما على أشراف الزبير بدفنها هنالك ساءهم ذلك ولكنهم سكتوا لفوات فرصة المنع ولم يظنوا أنه يترتب على دفنها شيء آخر. فأول المفاسد التي ترتبت على ذلك اجتماع البغايا عند قبرها وإقامة المآتم عنده وإحراق الطيب والنوح والرقص وما إلى ذاك من مجيء المتفرجين من السفهاء والمستفسرين، فازداد الناس استياء وصاروا يوجسون من وجود هذا القبر شرا مستطيرا لم يروا مثله في بلدهم إذ لا يزال بحمد الله طاهرا من العهر الرسمي الجهري.
ذلك أن سكان الزبير من أهل نجد کلهم إلا النادر الطارئ حملهم على سكنى هذا البلد البعيد من جميع المرافق الحيوية حتى الماء العذب فليس فيه زراعة ولا شجر ولا ثمر إلا السموم تلمح الوجوه وإنما سكنوه منذ عدة قرون ليبتعدوا عن الاختلاط بمدينة البصرة والمدن تجمع ماطاب وخبث ولا توافق طبائعهم العربية النجدية ودينهم المتين النقي وإن لم يبق على ما كان عليه، فحرموا أنفسهم من التمتع بماء دجلة والفرات وظل البصرة الظليل وهوائها القريب من الاعتدال وفواکهها وثمارها وأسواقها تفضيلا لراحة القلب على راحة الجسم. ولكن هذا القبر المشؤوم أراد أن يغير الوضعية في بلدهم ويكون فاتحة شر ولا سيما بعد ما عزم أنصار المومس على بناء قبرها والكتابة عليه وتشیید قبة فخمة كقبة الحسن البصري والزبير ابن العوام وأنس، ويكون لهذه القبة سادن. وحينئذ على العفاف والأخلاق والغيرة ألف سلام,
فلما شرع العملة في بناء القبر رأى أهل الغيرة والدين أنه لم يبق مجال للسكوت فأوفدوا وفدا بعد وفد إلى حضرة مدير الناحية، وأعلموه بأنهم لا يقبلون بناء على قبر تلك المومس لا قبة ولا غيرها. وبينوا له النتائج السيئة الملموسة من هذا العمل فوعدهم خيرا وأمر رئيس البلدية بإيقاف العمل حتى ينظر فيه فأوقف أياما ثم عاد العملة إلى البناء، وكان أهل البلد قد عقدوا اجتماعات في المساجد لم يبق إلا من حضرها من العلماء والعامة وأجمعوا على بذل كل مرتخص وغال في سبيل منع هذه البدعة السيئة التي تجمع مفاسد لا تحصی مخالفة الشرع في البناء على القبور ولو كانت قبور الصالحين وبناء مأوى للمومسات والفسقة وعار على أهل الزبير دائم ولكن العلماء والأشراف لم يزالوا يسكنون العامة وقد بلغ بها التهيج مبلغه وأرادوا مرارا نبش القبر وحرقه، ووعدوهم بأن الحكومة ستتخذ التدابير التي ترضيهم, فطال بهم المطال ورأوا القبر يبنی وخافوا فوات الفرصة فعصوا وتمردوا فلما كان يوم الثلاثاء آخر المحرم سنة 1350 هـ نادى مناد في السوق أن أغلقوا الدكاكين وانطلقوا إلى الماخور الذي يبنى بجوار الحسن البصري في بلدكم، انطلقوا إلى هدم بناء الرذيلة فثار الناس وأغلقت الدكاكين، وفي نحو 10 دقائق اجتمع خلق عظیم وصاروا يهرعون إلى المقبرة فوصلوا إلى القبر وانهالوا على العملة ضربا حتى أجروا دماءهم وشرعوا في نقض البناء ثم في نبش القبر ولهم جلبة عظيمة وأصواتهم تبلغ عنان السماء، واجتمع الشبان وارتجل لهم أحد الشعراء رجزا نبطيا مهیجا فصاروا يرقصون به ويموج بعضهم في بعض جيئة وذهابا حول القبر والنباشون جادون.
فجاء رئيس البلدية بريد منعهم فانهالوا عليه ضربا ومزقوا ثيابه، وجاء 7 من الشرطة ومدير الناحية وكانوا مثال السياسة الحميدة والرأي السدید فرأوا أن التعرض لهؤلاء الغوغاء لا تحمد عقباه. فترکوهم وماهم عليه فتم نبش القبر في أسرع وقت وأخرجوا التابوت الذى فيه جثة المذكورة، ومن حضر من الاشراف لم يستطيعوا أن ينبسوا ببنت شفة لأن كل من أبدى أدنى معارضة يصب عليه وابل من الضرب واللكم والبصاق واللعن والقذف، وهموا بإحراق التابوت المحتوي على الجثة فبادر أحد الأشراف وأقنع الغوغاء بأنه سيأتي بسيارته الخصوصية ويحمل التابوت ويذهب به إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم ولا يعودون يرونه٫ فاقتنعوا فجاء بسیارته وحمله وذهب به إلى البصرة ومعه نفر من الشرطة فأوصله إلى البصرة ليلا، فلما كان الصباح وأخبرت البغايا بما وقع لقبر رئيستهن أجمعن على أن يقمن باحتفال جديد بدفن تابوتها في بقعة أخرى وطلبن من مدير الشرطة في البصرة تسليم التابوت إليهن فقال لهن أن أولاد الهالكة طلبوا أن يحملوه إلى النجف ليدفن هنالك، فما سمع هذا النبأ مجتهد الشيعة وعالمهم السيد مهدي القزويني حتى أبرق إلى النجف يأمرهم أن لا يقبلوا دفنها عندهم بعدما نبش قبرها أهل الزبير لأن ذلك يكون سبة عليهم فأبرقوا إلى إدارة الشرطة في البصرة بأنهم لا يقبلون دفتها في بلدهم، فدفنت أخيرا بالبصرة وانتهت هذه القضية بسلام، وهي كما يقال في العامية “العيطة حامية والميت فار” وكان موقف حضرة مدير الناحية ومدير الشرطة ومعاونه موقفا حميدا يذكر فيشكر.
ولولا أن الله وفقهم ذلك لحدثت فتنة عظيمة تخسر فيها الأمة نفوسا عزيزة بلا فائدة، وفي هذه الواقعة عبرة للبغايا والفسقة فعسى أن يعتبروا بها ويرعووا عن جحيم فسقهم إلى حظيرة الطهارة والسعادة في الحياة والممات.
الزبير ٢ صفر ١٥٣٠هـ
محمد تقي الدين الهلالي
أستاذ اللغة العربية بندوة العلماء بالهند
صحيفة الفتح: العدد 256 – 9 صفر 1350 – ص: 6 إلی 7