كانت البارحة – وهي ليلة 12 من شهر ربيع الأول الجاري – ليلة ساهرة في الأحياء التي يسكنها المسلمون في جميع أنحاء المدينة، وقد زينت الشوارع والبيوت بسطور ودوائر أنوار الكهرباء المختلفة الألوان، واحتفل الناس في البيوت احتفالات عظيمة وباتوا طول ليلهم ينشدون المدائح النبوية إلى قرب الفجر. وكان الحي الذي أنا نازل به كل أهله مسلمون فمنعتني أصواتهم من النوم فبت ساهرا مثلهم.
فلما أصبحنا رأينا أمرا عجبا: رأيت الشوارع غاصة والجماهير يسيرون فيها وينشدون الأناشيد، بعضهم راكبون في مركبات، وغالبهم يمشون على الأقدام وقد ارتفع عجيجهم إلى السماء، وقد لبسوا أحسن ثيابهم وهم في جذل عظيم وحماسة شديدة.
ووافق ذلك يوم الجمعة فخرجت لصلاة الجمعة قاصدا محلة بْهِنْدِي بازار لأركب الترام إلى المسجد فرأيت عربات الترام والمركبات والسيارات واقفة والفضاء الواسع الذي في بهندی بازار غاص بالجماهير رافعين أعلامهم وقد رسم في كل منها نجمة وهلال وتلك علامة الرايات الإسلامية في نظر العثمانيين المنقرضين – ومن يقتدی بهم. فقصدت مسجد أهل الحديث وأديت الفريضة، فاجتمع إلى جماعة وأظهروا أسفهم من هذه الاحتفالات المبتدعة وقالوا: إن هولاء الجهلة جهلوا الإسلام ضحكة وسخريا في نظر غير المسلمين فتكلمت في البدع عامة وفي هذه البدعة خاصة وبينت قبحها وأنه لا بدعة في الدين حسنة بكلام مختصر، ثم قلت لهم: ولكن ينبغي لكم أن تنبهوا إلى أن هذه قوة عظيمة لا يستهان بها، لأن هؤلاء الجماهير وإن أخطئوا في عملهم هذا طريق السلف فإنهم لم يقوموا بهذه المظاهرة الباهرة إلا محبة في دين الإسلام وتعظيما للنبي عليه الصلاة والسلام على مبلغ علمهم، فلو وجدت هذه الحماسة علماء ناصحين – ولم تخل منهم البلاد بحمد الله وإن كانوا قليلا – يوجهون هذه القوة إلى الطرق النافعة والأسباب التي تعلي شأن الإسلام لاستفاد الإسلام من وراء ذات فوائد لا يستهان بها، وتذكرت كلمة حكيمة قالها أحد الأمراء الجزائريين بل أوحدهم حين اجتمعت به سنة 1345 هـ فقلت له : كيف برجی لأهل شمال أفريقية نجاح مع غلبة الجهل والخرافات؟ فقال لي: كيف حماستهم و عصبيتهم دينهم وقوميتهم (وهو يعلم ذلك طبعا) فقلت: فيهم حماسة وعصبية على جهل. فقال لي: أنه لم يوجد ولن توجد أمة كلها علماء وحكماء، وليس عموم العلم والحكمة شرطا في نهوض الأمم وإنما يشترطان في القادة والرؤساء فقط، وأما الإمامة فيكفي أن يكون فيهم حماسة وغيرة.
فمتى كثر العلماء الصالحون في أمة قادوها إلى الفلاح و بلغوا بها أوج الرقي. ثم قلت الإخوان الحاضرين أرايتكم لو أن أحد الزنادقة المفسدين اعترض هذه الجماهير فدعاهم إلى لبس البرنيطة وإبدال الأحد بالجمعة والسفور والزواج المدني والميراث السويسري وتبديل الحروف العربية بالإفرنجية والأسماء الإسلامية بالإفرنجية بماذا يجيبونه؟ فقالوا كلهم: لا يجيبونه بغير الضرب بالنعال حتى يموت تحت الضرب كالعقرب. فقلت: ألم يتحقق فيكم ماقلته لكم آنفا أن هذه المظاهرات وإن ساءتنا من جهة فإنها تسرنا من جهة أخرى، إذ يمكننا أن ننتفع بها إذا استعملنا الحكمة في الدعوة والإرشاد. ثم قلت لهم: إن الغيرة الإسلامية والحماسة الدينية لا تزال قوية في هذه البلاد والحمد لله: مع كون المسلمين فيها أقلية على حين أن بعض الأقطار أهله كلهم إلا قليلا وحكومته ينتسبون إلى الإسلام ومع ذلك يكتب بعضهم في الكتب والجرائد شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه والطعن في القرآن ويبقى آمنا مطمئنا لا يصاب بأدنى عقاب لا من الحكومة ولا من الأمة، على حين أن بعض المصلحين انتقد أعمال رئيس الأتراك مع ظهور فسادها وعظيم قبحها فعاقبته حكومة ذلك القطر أشد عقاب. فاحمدوا الله على حالكم واجتهدوا في إرشاد إخوانكم بالتي هي أحسن.
فاستحسنوا هذا الكلام ووقع منهم موقع القبول.
ولم يزل الناس يجوبون أنحاء مدينة بمباي أفواجا كل فوج فيه فئام من الناس ينشدون المدائح. نسأل الله أن يصلح حال المسلمين ويرشدهم إلى ما فيه فلاحهم.
بومباي : ۱۲ ربیع الاول سنة ۱۳۹۹
محمد تقي الهلالي
مجلة الفتح: العدد 213 – 26 ربیع الاول 1349 – ص: 7