اقترح على أحد أعيان الأساتذة أن أكتب مقالات أدبية لا ترتفع من مستوى الجمهور ليعم نفعها فخطر ببالي الموضوع المشار إليه أعلاه. ورأيت أن أصوغه في شكل مناظرة بين شخصين متناقضين. ثم ترفع المناظرة إلى حكم ترضى حكومته فيفصل بينهما.
المتأنق: منشدا
حسن ثيابك ما استطعت فإنها ** زين الرجال بها تعزو وتكرم
ودع التخشن في الثياب تواضعا ** فالله يعلم ما تُكِن وتكتم
فرثيث ثوبك لا يزيدك رفعة ** عند الإله وأنت عبد مجرم
أتدري أيها المتقشف البارد إلي من تنسب الأبيات التي سمعت؟ إنها تنسب إلى مالك بن أنس إمام دار الهجرة الذي كان كما قال فيه أحد واصفيه.
یأبی الجواب فلا يراجع هيبة ** والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى ** فهو المطاع وليس ذا سلطان
وقد كان هذا الإمام إذا أراد الجلوس لإملاء أحاديث الرسول يلبس أحسن ثيابه ويرجل رأسه ويتطيب فيزداد بذلك مهابة وجمالا في أعين الناس ويكون كلامه أدعى إلى القبول. ولم يزل التجمل بالثياب من شيم أهل الفضل من العلماء والفضلاء وهو عنوان الفضل وآية الظرف والجمال المكتسب للرجال والنساء كما أن التقشف في الثياب مع سعة المال شح مزر ولؤم شائن. وهو عنوان النحوس وآية البؤس ورسول الاحتقار ومبعث الإشمئزاز وجالب النظر الشزر وداعى الخمول وموجب الحرمان والإهمال، وحسبك منه أنه كفران لنعمة اليسار وإظهار للشقاء والاقتصاد وحجاب للفضل والأدب، وخافض للرتب. وقد قيل ثيابك ترفعك قبل جلوسك وعلمك يرفعك بعد جلوسك وربما لم يتوصل ذو الثياب الرثة والأسمال البالية إلى المجالس التي تمكنه من إبداء علمه فيبقى مخفوضا بالمجاورة بعد حرف الخفض وهو التقشف.
وفي الأخبار أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. وحسبك داعيا الى التجمل بالثياب أنها سنة في الجمع والأعياد ولقاء الوفود. وجميع الأمم تهتم بالتأنق فيها وتبذل فيه كرائم الأموال ما عدا المتوحشين من الزنوج ومن في معناهم، أو شرذمة من شذاذ أوربة وأميركة أصيبوا بنوع من الجنون وضرب الحماقة فاستحسنوا العري وأبرزوا سوءاتهم رجالا ونساء أمام الحاضرين فصاروا سخرة للساخرين وضحكة للضاحكين.
و ناهيك أن الله أمر باللباس في الصلاة فقال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) أي عند كل سجود أي صلاة. وأمتن على آدم بالكسوة التي أنعم عليه وعلى زوجه بها في الجنة قال تعالى (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقی، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحی) فجعل العري من الشقاء وجعله مساويا للجوع والظمأ وامتن الله على بني آدم بالثياب فقال تعالى في سورة النحل (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) فجعل الأصواف والأوبار والأشعار يعني وما يصنع منها من الثياب والسرابيل وهي القمصان والدروع من تمام نعمته على عباده وقال تعالى (يا بنی آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم) ثم قال (يا بنی آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسها ليريهما سوءاتهما) فالتعري من فتنة الشيطان والشيطان عدو الإنسان لا يريد له خيرا أبدا ويحكي في القصص الإنكليزي أن ملكا كان له أعداء أرادوا أن ينتقموا منه فأقنعوه أن هناك حائكا يصنع أجمل الثياب ثم أوهموه أنه صنع له ثيابا فاخرة وحملوه على أن يتجرد من ثيابه ويلبسها ففعل فأخذوا يثنون على تلك الثياب وحسنها وأخرجوه للناس عريانا فكذب عيانه وصدق أعداءه وانتقموا منه أعظم انتقام.
ولما وصل المتأنق إلى هذا الحد عيل صبر المتقشف فانبرى له وقد تذمر وتنمر وعبس وبسر وقال إن هذا إلا سحر يؤثر ويلك ما هذا العجر والبجر يا خبث يا غدر لقد تكلمت أكثر من حقك فحق لك أن تسكت وتسمع واعلم أن ريحك لاقت إعصارا. وأن الحق لا يعدم أنصارا.
أما ما أنشدته من الأبيات فليس من كلام الله ولا من كلام الرسول وإنما هو شعر (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون) والشعر كالسحر يظهر القبائح في صور المحاسن كما قال تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) وقال ابن الرومي:
مدح وذم وذات الشيء واحدة ** وذو الذكاء يرى الظلماء كالنور
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ** فإن ذممت فقل قيء الزنابير
وقال في مثل هذه المغالطة
یا مادح الورد لا ينفك عن غلطه ** ألست تبصره في كف ملتقطه
كأنه صرم بغل حين سكرجه ** عند البراز وباقي الروث فی وسطه
فانظر إلى هذا الشيطان الغاوي كيف تحيل وتلطف حتى أظهر الورد وهو سيد الأزهار والرياحين بهذا المظهر القبيح وشبهه هذا التشبيه الخسيس أما نسبة تلك الأبيات إلى مالك بن أنس وصحة رواياتها عنه فدون ذلك خرط القتاد وهب أنه تمثل بها فيمكن أن تحمل محملا حسنا، وأن تفسر بما يليق بصلاحه ومقامه بما لا يتنافى مع الاقتصاد والبعد عن التبذير فيراد بالتحسين التنظيف وتجنب الشهرة والرياء كالتزام لبس الشعر والصوف وترك الكتان والقطن إظهارا للزهد في الدنيا وهذا مذموم.
وأما تنويع أشكال الثياب وأنواعها والتبذير في ذلك إلى حد الافلاس والفتنة فحاشى لله أن يقول به مالك، ولا يقول بذلك إلا هالك. وأما قولك أن التجمل بالثياب من شيمة أهل الفضل والجمال المكتسب الخ… فمن هم أهل الفضل ومن هم أهل الظرف والأدب، إن قصدت بذلك الأغنياء والمترفون والشعراء وأهل المجون فقد أمكنت من نفسك فهؤلاء أهل الفضول وليسوا أهل الفضل، إنما الفضل العلم والتقوى وحسن الخلق فهذا هو اللباس الذي يزين المرء في السماء والأرض عند الله وعند الناس ولله در من قال :
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ** تقلب عريانا ولو كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ** ولا خير فيمن كان لله عاصيا
ونحن نناقشك الآن الحساب، ونسد عليك كل باب، فنقول لك ثانية ما هو الفضل وما معنى (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فما معنى الفضل هنا؟ معناه واضح مما قبله وهو قوله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فالمراد بفضل الله الكتاب والحكمة وتعلمها وتعليمها أما الإكثار من الثياب واكتساب الأموال التي تنفق عليها من حلال وحرام والمباهاة بها والتكبر على الناس والإعجاب والخيلاء فهو ليس من الفضل في شيء، بل هو إلى مساوئ الأخلاق والنذالة أقرب منه إلى الفضل ولا سيما إذا كان هذا المتأنق المتنطع يرى جيرانه يقاسون ألم العري والجوع بل يرى المساكين في الطرق يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء وهو يلبس في كل يوم بدلة بل في الصباح بدلة وفي المساء بدلة وللأكل بدلة ولحضور مجلس الشراب واللهو بدلة فهذا أبعد شيء عن الفضل ولا يرضى به إلا من لا خلاق له.
وأما قولك أن الاقتصاد في الثياب يوجب النظر الشزر والخمول والحرمان إلى آخر هذيانك فإنما يوجب ذلك عند أمثالك ممن ينخدعون بالظواهر ويخالون السراب شرابا وهؤلاء لا عبرة بهم وليسوا ممن يقتدی بهم أو يهتدى بسيرتهم، لأنهم مرضى العقول، وحسبك داء أن تجهل حقيقة نفسك وتصدق وهمك فتعتقد أنك حين تلبس خرقا مزخرفة قد صرت أعظم مما كنت قبل لبسها. وحسبك هذا حماقة وجهلا وسخفا. ولله در أبی العلاء المعري حيث يقول:
فإن كان في لبس الفتى شرف له ** فما السيف إلا غمده والحمائل
ولعمري إن مثل هذا التفكير العقيم والعقل السقيم إنما يليق بالأطفال ومن في معناهم من الحمقى والمغفلين، وإن قولك أن التجمل بالثياب سنة في الجمع والأعياد ولقاء الوفود فهي كلمة حق أريد بها باطل. وأنا أجعل بيني وبينك حكما صاحب هذه السنة وهو الشارع الأعظم صلوات الله وسلامه عليه. ومعلوم من سيرته أنه كان مقتصدا في الثياب حتى أنه كثيرا ما يصيب ثوبه شي فيغسل ويخرج بثوبه وفيه بقع الغسل، لأنه ليس له ثوب غيره، وكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسمه الشريف. فالتجمل للجمعة والأعياد ولقاء الوفود يمكن أن يكون ببدلتين من النسيج الرخيص الثمن إحداهما للجمعة والعيد والأخرى لسائر الأيام.
وهاتان البدلتان يمكن أن تكونا من النسيج المسمى أميركان وهو متين لين إذا حوفظ على نظافته كان جميلا فيفوز الإنسان بالعمل بالسنة مع الاقتصاد والبعد عن الإسراف والتبذير والتضييق والتقتير عاملا بقوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) وقال تعالى (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا) وقال تعالى في الثناء على عباده الذين اصطفاهم (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).
فهذا هو التجمل الموافق لسنة الرسول وأصحابه وهم أهل الفضل والنبل لا الجبارون المتكبرون المختالون. قال تعالى: (إن الله لا يحب من كان مختالا فخور) وقد جاء في الحديث الصحيح (إن من جر ثوبه خيلاء فهو في النار) وأما قولك إن جميع الأمم تهتم بالتأنق في الثياب وتبذل في ذلك كرائم الأموال ما عدا المتوحشين من الزنوج ومن في معناهم فجوابك من وجهين: الأول أن لكل أمة قدوة هو المثل الأعلى عندها به تقتدي وباتباعه تهتدي. ونحن معشر المسلمين قدوتنا في جميع أمورنا هو الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه. وقد علمت كيف كانوا يقتصدون في الثياب ويجتنبون الخيلاء، فدع الأمم الأخرى فليست لنا بقدوة. وما أحسن قول الشاعر:
وكل أناس يتبعون إمامهم ** وأنت لأهل المكرمات إمام
فلا حاجة بنا إلى الاقتداء بالأمم الأجنبية. الثاني أننا لا نسلم أن أهل العلم والفضل من الأمم الأخرى يتنطعون في الثياب ويجعلون همتهم في كثرتها وتنوعها ولا نظن أنه يفعل ذلك إلا سفهاؤهم وأهل الكبر والجبروت. والعاقل يربأ بنفسه أن يقتدي بهولاء ولو كانوا من أمته فكيف إذا كانوا من الأجانب.
وأما حديثك عن جماعة من أهل أوربا وأميركا اختاروا العري مذهبا ورضوه مسلكا فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، فنحن لا نقول بقولهم ولا نقتدي بهم لأننا مسلمون وستر العورة عندنا فرض من الدين ومن أخل به فهو فاسق من أهل الكبائر ومع ذلك فإن جرائم المترفين على الإنسانية أعظم وأدهى وأمر من جرائم العراة لأن هؤلاء العراة لم يضروا إلا أنفسهم ولم يأخذوا نصيبا من أموال الأمة فيبذروه فی تنويع البدلات والتأنق للسهرات والتزيين للمآدب والحفلات، بل وفروا على الأمة قسما من مالها وكفوها مئونتهم. ولم نر أحدا منهم يتكبر على الناس بعريه ويحتقرهم بعدما يبتز أموالهم وينفقها في الخرق كما يفعل المتأنقون المترفون. فإن هؤلاء قد فتنوا بتأنقهم فتنة عظيمة، فصار الواحد منهم إذا رأی علی مترف آخر بدلة تخالف في اللون أو الخياطة ما عنده أصابه الجنون. وإن كان عنده عشر بدلات فلا يقر له قرار ولا يهدأ له بال حتى يلبس مثلها ولو بالدين أو باخذ الرشوة أو النهب والسرقة. ثم إذا لبسها احتقر الناس وتكبر عليهم. وأي فساد أعظم من هذا؟ وناهيك به مرضا في النفوس وداء في الأفكار.
فلا يغرنك من في الناس يفعله ** فالناس في غفلة عن واضح السنن
يغمى على المرء في أيام محنته ** حتی يری حسنا ما ليس بالحسن
فهذا المسكين جمع بين مصيبتين، مصيبة في عقله حين توهم أنه بلبس هذه البدلة وبالتحلي بهذه الخرقة يكون أحسن منه قبل ذلك وتعلو منزلته ويكبر في نفسه ويصغر من سواه ممن لم يحصل عليها. ومصيبة في ماله، فربما أفضى به الأمر إلى الإفلاس ثم إلى السجن، وكان النبی صلی الله عليه وسلم پستعپذ من غلبة الدين.
ويقال إن الدَّين هم بالليل ومذلة بالنهار، فلا خير في تأنق يفضي بالإنسان إلى هذه الحال ومصيبة في أخلاقه وهي كبره واحتقاره للناس وإعجابه بنفسه.
وأما احتجاجك للتأنق بما جاء في القرآن والسنن من وجوب ستر العورة في الصلاة وفي خارجها، فهو من المغالطات ونحن لا نقول بكشف العورة حتى يكون ذلك حجة علينا. ولم يقل الله تعالى يا بني آدم البسوا لكل صلاة بدلة من الحرير وأفخر المنسوجات مزركشة مزخرفة فمتى ستر المصلى عورته ويكفي في سترها ثوب واحد فقد عمل بالآية وأما آية النحل التي كثرت بها الكلام وسودت بها بياض الصحيفة فهي حجة لنا، وهي أيضا حجة عليك لأن قوله تعالى (سرابيل تقيكم الحر) يبين لنا لماذا يلبس الناس الثياب لتقيهم الحر والبرد ولتستر عورتهم، وما زاد على ذلك فهو فضول وتبذير يفضي إلى التنافس في الثياب وهذا يفضي إلى ارتكاب الجرائم الضارة للعقل والمال والخلق كما تقدم.
ولو أن أمة من الأمم التي يكثر فيها التأنق في الثياب والتنافس فيه اقتصرت على ما يقيها الحر والبرد ويستر عوراتها وجمعت ما زاد على ذلك لاجتمع منه مال كثير إن أنفقته على فقرائها سد عوزهم وإن أنفقته في توسيع معايشها أرغد عيشها وأشبع جياعها وإن أنفقته في الدفاع عن نفسها زادها قوة إلى قوتها. ولو ذهبنا نحسب هذا الفضل من المال في أمة واحدة لبلغ ملايين الدنانير. وأما آية الأعراف فهي حجة عليك أيضا لأن قوله تعالى (لباسا يواري سوآتكم) هو حجة لنا في أن اللباس إنما يقصد منه ستر العورة واتقاء الحر والبرد، وما زاد على ذلك إسراف وتبذير وفساد وتضييع للمال الذي به قوام الحياة، وتضييعه من أعظم السيئات وفي الحديث الصحيح (إن الله نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال و کره لكم منعا وهات ووأد البنات وعقوق الأمهات). وأما إشارتك إلى القصة الإنكليزية، فسبحان الذي أنطقك بها وكم من كلمة قالت لصاحبها دعني فنحن نسأك عن هذا الملك وما سبب كشفه لعودته هل هو حب التقشف في اللباس أو حب التأنق فيه؟!!
وقد حكمت على نفسك بنفسك، وجدعت بكفك ما رق أنفك فكفیتنا مئونة الرد عليك وقد ظهر بذلك ما في كلامك من التناقض والتمويه ودحضت حجتك، فدونك هذا الجواب الذي فيه الحكمة وفصل الخطاب وإن عدتم عدنا.
إن عادت العقرب عدنا لها ** وكانت النعل لها حاضرة
الدكتور تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين