بقلم الأستاذ العلامة السيد محمد تقي الدين الهلالى المدرس بجامعة بُنْ الألمانية
نصح لي طبيب بوجوب إجراء قدح (عملية) في عيني، فدخلت مستشفى العيون التابع لجامعة بُنْ وأقمت فيه أربعين يوما، ولم تكن لي هناك سلوة كآلة راديو أخذتها معي، فكنت أسمع الأخبار والعزف من مختلف الأرجاء بمختلف اللغات؛ وذلك من دلائل قدرة الله وألطافه ونعمه على عباده، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
وبينما أنا أتنقل من محطة إلى أخرى ذات ليلة – وهي ليلة الأربعاء 10 فبراير المنصرم ۔ سمعت صوتا ضعيفا جدا من بين لغط الأصوات الأوربية وصخبهم وضجيجهم، وفي الحين قبل أن أفهم عنه شيئا خطر ببالي أنه صوت عربي، ولكني توهمت أنه من إحدى محطات شمال إفريقية (أنقذها الله مما هي فيه، وردها إلى قدسها وعزها وطهرها من رجس الظالمين) وما لبثت أن تحققت أنه صوت مصرى. نعم هو صوت مصري، ولا يوجد اليوم صوت عربي يمكن سماعه هنا غيره. صوت مصرى أول ما اتضح لي منه قوله تعالى (وثلث ورباع) بمد رباع إشباعا بصوت شجي. فاعترتني حالة لا أقدر أن أصفها هنا: اقشعر جلدي، ولان قلبي، وطابت نفسي، وتلذذت بسماعه لذة تفوق الوصف. وكان يجيء دونه صوت فرنسي يكدر الصفو، فقلت له: اسكت! اسكت! أسكتك الله، وأنا لا أشعر أنه لا يسمعني وصرت كلي آذانا صاغية، ووضعت أذني على محل الصوت استمر يقرأ (يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير. ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم. يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم) ثم انقطع، وكان يأتي معه صوت يترجرج كصوت القطار إذا كان مسرعا. وكم تطلبته بعد ذلك وراقبته ساعات طويلة فلم أظفر به حتى الآن. فإن قلت وعلام هذا التلهف كله؟ ألست تحفظ القرآن، ويمكنك أن تقرأ منه ما تريد؟ أقول: نعم، ولكن أحب أن أسمعه من غيري. كيف والنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه أمر أبي بن كعب أن يتلو له القرآن، وأخبره أن الله أمره أن يسمعه منه. فقال أبي: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري. أو كما قال. ومر النبي بدار أبي موسى الأشعري فسمعه يقرأ القرآن فوقف يستمع ثم قال: لقد أوتي هذا مزمارا من مزامر آل داود. ثم لما جاءه أبو موسى أخبره بذلك، فقال أبو موسى “لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا” وهذا كله والإنسان في بلد إسلامي يسمع القرآن كل يوم، فكيف إذا كان غريبا تحيط به أصوات الأعاجم من كل جانب، وبينما هو كذلك اذ سمع فجأة صوتا عربيا يترنم بتلك الآيات؟
وحدثني يا أسعد عنهم فزدتني *** غراما، فزدني من حديثك يا سعد
ولكن سعدا ضن علي بحديثه، وأبى أن يزيدني. و من ذلك الحين عزمت على أني متى قدرت على الكتابة أكتب إلى الفتح كلمة في هذا المعنى. وها أنذا أفعل.
لا أظن أني أنا وحدي أتلهف على سماع القرآن من بين المسلمين المقيمين في أوربا، بل وغير المسلمين أيضا، فقد أخبرت رجلا كان في الغرفة المجاورة لي بذلك فقال لي: ليتك أخبرتني حين سمعته، وسألني عن الموضع الذي سمعت فيه القرآن من دائرة الآلة حتى إذا رجع الى بيته يجتهد لعله يسمعه. وهنا في ألمانيا طلبة اللغة العربية والعلوم الاسلامية -وفي مقدمتها القرآن- يودون بلهفة أن يسمعوا القرآن، ويحبون أن يسمعوا الخطب العربية ويستفيدوا منها. وطلبة هذه العلوم ليسوا قليلا، ففي هذه الجامعة – جامعة بُن – وحدها أكثر من عشرين؛ بل ربما بلغوا ثلاثين ما بين أستاذ وطالب، كلهم يشتغلون بالعلوم العربية (1) ولكن لا يوجد من بين هذه الأصوات صوت عربي يسمع هنا. وكان يجب أن يكون…
لم تبلغ أمة من أمم الضاد – أقال الله عثارها – من التمدن اليوم ما بلغت مصر زادها الله بسطة وقوة. نحن نحب أن نسمع صوتا عربيا ليعلم هؤلاء أن بين الأمم العربية من تقدر أن تسمع صوتها عاليا يقرع الآذان.
هذه إذاعات أوربا تعج بأصوات التعليم والدعاية السياسية والدينية أيضا. ولعل بعض من في الشرق يشك إذا أخبرته أن إذاعات أوربا تبث في كل أسبوع مقدارا من أصوات النواقيس وأصوات المصلين مع آلة الأرغن والصلوات القسيسية الطويلة. الكنيسة لها نصيب غير قليل في الاذاعة. ومن شك في هذا فليستمع إلى إذاعات انكلترا وفرنسا وألمانيا فإن شكه يزول في الحين.
فلماذا لا يجب أن تكون هناك إذاعات عربية وإسلامية ؟ أليس عجبا أن كل أمة أوربية – وإن صغر شأنها ـ تسمع صوتها عاليا، والأمم العربية أو المتكلمة بالعربية كلها يضرب على آذانها وتنام؟ كنت في البصرة أسمع الدعاية الإيطالية من محطة باری بالعربية، وها أنا ذا أسمعها هنا، ومحطات إيطاليا تلقي دروسا لتعليم الإيطالية بلغات مختلفة، بالانكليزية والفرنسية، وتبث دعایتها بلغات كثيرة جدا. فلم لا يستفيق المسلمون ويعملون ليضربوا بسهم، ولو ضئيلا.
لقد كنت مخطئا اذ توهمت أن ذلك الصوت العربی آتيا من قبل شمال إفريقية. وكيف يكون ذلك وأهلها قد افترسهم سبع الاستعمار الخبيث، وأخمد أنفاسهم، ومحا أثرهم وأمات ذكرهم!
يجب على محبي القرآن أن يُسمعوا العالم ألفاظه، وأن يفهموهم معانيه. إن القرآن في أوربا يفسر للطلبة المستشرقين تفسيرا محرفا باطلا مضلا مملوءا بالكيد والدس والطعن. فالأساتذة دائما يخوضون في تاريخ النزول وأسبابه، وأكثرهم يجهل المعنى الأولي للآيات فيقسمون الآيات المكية إلى ثلاثة أقسام، والمدنية كذلك يالحدس والتخمين ويقولون مثلا: الآية الفلانية أخذها محمد من التوراة آية من آية كذا عدد كذا وكذا، والآية الفلانية من الانجيل، والآية الفلانية من أساطير كانت شائعة عند العرب، والدليل على ذلك قول شاعر جاهلی كذا وكذا. هذا هو تفسير القرآن عندم ، فإلی متى ينام أهله عنه؟ وأما المضلون المتفرنجون الذين يزعمون أن أهل أوربا تركوا أديانهم فسنتعرض لبيان كذبهم في كلمة أخرى، وبالله التوفيق.
18 ذي الحجة 1355
بن (ألمانيا)
محمد تقي الدين الهلالي
(الفتح) – نظن أنه قد آن الأوان لتقوية محطة الاذاعة في القاهرة، وإيصال صوتها إلى ما وراء البحار، فإن ذلك دعاية لمصر أعظم أثرا وأعلى قدرا مما يمكن أن نتصوره. والتضحية التي تبذلها في هذا السبيل تعوض أضعافا مضاعفة بتذكیر سراة العالم بمصر وتحريك نفوسهم للسياحة فيها. ونحن على يقين أن أقوى الدعايات وأرخصها لاجتذاب السياح إلى مصر إسماع صوتها في الليل والنهار في كل أفق ولا سيما في الآفاق البعيدة من القارة الامريكية. وهذه الحقيقة لا يرتاب في صحتها أحد من ولاة الأمور المسكين.
(1) في كل جامعة من جامعات ألمانيا توجد كلية العلوم العربية والإسلامية
مجلة الفتح: العدد 541 – 5 محرم 1356 – ص: من 6 إلی 7