لا حاجة شديدة بالقراء إلى شرح خطر البلشفية، لأنهم كلهم أو جلهم مسلمون. ولا يعقل أن مسلما عاقلا يميل إلى الداء الأحمر العضال العين.
لقد شرح لي المهاجر المجاهد الشيخ الصالح ذو المناقب عمر أزبك نزيل كابل – حين كنت بها في أول سنة 1352 هجرية- من فظائع البلشفية ما تستك منه الآذان. ولولا إجلالي لذلك الشيخ واعتقادي صلاحه وولايته لله لشككت في بعض ذلك، لأن الأمر يصعب عليه أن يعتقد أن الإنسانية تتسفل إلى ذلك الحد.
مهدت بذلك لكلمة رأيت أنه يتحتم علي التعجيل بها – وإن كنت جد مشغول، وغير قادر على الكتابة إلا قليلا – تعليقا على المقال الذي نشرته “الفتح” في جزء 538 بقلم أخينا الأستاذ محمد السعيد الزاهري الجزائري. أنا لا أشك في صدق هذا العالم الجليل واخلاصه، إلا أن من يسكن المستعمرات قد تخفى عليه بعض الأمور، وقد ينصب له المستعمر الخبيث شباك مكره، ويوقعه في الوهم، ويجعل له السم في الدسم.
فأول ما لحظته في ذلك المقال أنه مفرغ في القالب الذي نسمعه كل يوم من الإذاعات الفرنسية وتنشره الصحف الفرنسية والبلشفية من منابذة الجنرال فرانكو بغيظ وحنق شديد مساو لحنق الحزب.
وثالثه، هب أن فرانكو أخذ اثني عشر ألفا ونصفا من المغاربة ووعدهم وعدا جميلا زخرفه – وإن كان العاقل لا يصدق المضنوك في وعوده – فكم أخذ الفرنسيون من أهل الجزائر من الجنود منذ ما ينيف على 100 سنة ولا سيما في الحرب الكبرى؟ وقد شاهدت ذلك بعيني لأني كنت في الجزائر مدة الحرب العظمی. نقول 50 ألفا؟ لا! بل أكثر. نقول 100 ألف؟ لا بل أكثر. ولا يبعد أن يكون أكثر من مليون. وقد فتح الفرنسيون المغرب الأقصى في مدة نحو 25 سنة. وما فتحوه إلا بالجنود الجزائريين وبشيخ الطريقة التجانية السيد محمود التجاني. وكم قتل من الجزائريين المساكين في المغرب؟ شيء لا يحصى.. وكم هلك منهم في جميع الحروب الفرنسية! شيء يفوق العد. أفلیس الفرنسيون أشد عداوة للمغاربة ولسائر المسلمين وأشد ضررا من الاسبانيين سواء أكانوا شعبيين أم شيوعيين؟ بلى والله. ولما كان الحزب الشيوعي الاسباني آلة بيد فرنسا وهي التي تمده بالقوى وتشب هذه النار بالوقود فهو أشد خطرا على المغرب والاسلام من خصمه. إذا فالأليق بالمسلم المقيد المغلول الذي يعيش في المستعمرات هو السكوت، لأنه لا يقدر أن يقول الحق كله كاملا. وحينئذ يتحرف كلامه فيفهم منه القراء خلاف الحقيقة.
ورابعه أني عدت من وجه خاص أن الحزب الاسباني الشيوعی سعی بواسطة الفرنسيين سعيا حثيثا ليأخذ جنودا من المغرب، ففكر عقلاء أهل المغرب ووجدوا أن لا خير لهم في ذلك ولم يصدقوا الحزب الشيوعي في وعده لأنه لدغهم مرة قبل تأسيس الجمهورية في اسبانيا وكذب في وعده. ولم يتم ذلك لأمر آخر وهو أن الفرنسيين وإن كانوا يحبون نصر الشيوعيين الاسبانيين بكل ما لديهم إلا أنهم أيضا لا يحبون أن يفتح للمغاربة باب الوعود ولو كاذبة، ولذلك فشلت تلك الحركة وتواصى عقلاء المغاربة بوجوب الحياد في هذه الحرب وأنهم لا يصلون نارها لا مع هؤلاء ولا مع أولئك.
ولما يئس الفرنسيون من سوق المغاربة أو إغرائهم بنصرة منهم أصدروا قانونا في المغرب حرموا به التجند في الحرب الأسبانية مطلقا.
وخامسه أن قول الأستاذ الزاهري أن حكومة فرانكو عاقبت المجاهدين الذين كانوا مع القائد البطل عبد الكريم الريفي، نتوقف فيه حتى يقوم دليل. وهب أن ذلك كذلك فمن الذي قضى على حركة عبد الكريم القضاء التام؟ أليس هم الفرنسيين؟ لقد حارب عبد الكريم إسبانيا كلها بفئة قليلة محصورا ممنوعا من كل مدد ومئونة سبع سنين، وطرد الاسبانيين من بلاد المغرب وألجأهم إلى ساحل البحر و كادوا يسدون الشواطيء.
وتلقت حكومة فرنسا حركة عبد الكريم في أول الأمر بغاية القبول والاستحسان والتشجيع ولم تكن تظن أنها بالغة ما بلغت، فلما استفحل أمره وحرر الريف واشرأبت إليه أعناق المراكشيين قاطبة وأملوا أن خلاصهم يكون في يده، بادرت الحكومة الفرنسية فنقضت عهدها مع عبد الكريم وبدأته بالهجوم على غرة، ولم تنبذ إليه عهده ولا أنذرته، وتحالفت عليه مع إسبانيا وأنعشت أمل الاسبانيين بعد ما يئسوا، وفي الوقت عينه استصدرت ظهيرا سلطانيا خطب فيه المنافقون من دجاجلة العلماء على المنابر جاء فيه أن عبد الكريم خارجی فاسق خرج على إمامه فإیاکم وإیاه فتجب مقاطعته ومحاربته..، وحاربته بالجنود الجزائريين المكرهين وببعض المأجورين من تونسيين ومراكشيين حتى قضت عليه في سنتين وهو الآن لا يزال أسيرا في يدها.
إن الوجه الذي كان الفرنسيون يأخذون عليه شبان الجزائر في القسم العسكري الذي لا يجب عليه تجنيد بل غصبا وعدوا أفضع من كل فظيع.
ذهبتُ من بلادنا إلى الجزائر في السنة الأولى من سني الحرب الكبرى وكنت في الحداثة لا معرفة لي بالأحكام، فكنت أعتقد ماقرره علماء بلادنا من أن أهل الجزائر كلهم كفار إلا المستضعفين لأنهم رضوا بالحكم الفرنسي ولم يكفهم ذلك حتى أقبلوا يحاربوننا ويفتحون بلادنا للفرنسيين. فلما رأيت كيف كانوا يتخطفون الشبان في الحرب بدأت أشك فيما تلقيته من علمائنا، وشرحه
يطول، ومن جملته أنهم كانوا يكتبون لأمير القبيلة (قائد العرش) بأنهم يريدون منه مائة شاب قوي البنية صحيح، فيكتب لهم أسماء جميع الشبان إلا من دفع رشوة عظيمة، ويركب مع أعوانه خيلهم فيسوقون الشباب والرماح المركبة على البنادق خلف ظهورهم إلى المركز فإن هرب شاب إلى الجبال جاءت لا خيل الله بل خیل الشيطان وساقت أهل بيته من والدين وأطفال مع مواشيهم إلى (بيرو عرب) أي المحكمة العسكرية، وحبسوهم وتركوا مواشيهم أمامهم تهلك جوعا، فالشاء تموء والإبل ترغي والأطفال يبكون والأبوان يلتحيان بین سخرية الجنود. فإذا سمع الشاب أن أهل بيته على تلك الحال لم يتمالك نفسه أن يجيء خاضعا ذليلا ويسلم نفسه ويرى أن الموت خير من أن يفضح جميع أهل بيته ويهلكهم. هذا كله في القسم العسكري في جنوب الجزائر، وأما القسم الشمالي المدني (سيفيل) فإن قانون التجنيد الإجباري شامل له مثل الفرنسيين فكل من بلغ 18 سنة يؤخذ جنديا من دون استثناء حتى الآن وحتی غد. فلماذا نسكت على هذا كله ونتعرض فقط لمن أخذهم فرانكو؟
نحن معشر المراكشيين لا نأمل خيرا من أوربی أبدا. فمنذ أخذ الضعف يساور دولة بني العباس بعد القرنين الأول والثاني للهجرة ونحن في حرب عوان مع الأوربيين، فحاربنا كثير من دول أوربا منهم بريطانيا والبرتغال وفرنسا وإسبانيا، وبقينا مع اسبانيا قرونا طوالا في مد وجزر ولم تقدر أن تمحو استقلالنا وكياننا حتى تألب علينا الأثافي الثلاث فرنسا إلتي محت المغرب (مراکش) المجاهدة من الوجود وسلكتها في قالب الكونغو أو السينغال، فصار الناس حتى الاخوان وياويلتاه يقولون مراكش الاسبانية ومراكش الفرنسية كما يقولون الكنغو الفرنسية والكنغو البلجيكية وثانية الأثافي إسبانيا ولا غرو، وثالثة الأثافي بريطانيا وكان ذلك في السنة النحس 1912.
مراكش حفظت عزها واستقلالها أكثر من ألف سنة ثم ابتلعتها فرنسا بإذن من بريطانيا وأعطت إسبانيا عظما تتلهی به وهي بقعة صغيرة جبلية لا زرع فيها ولا ضرع. فما سلبنا حريتنا واستقلالنا وصيرنا مثلا للآخرين وجعلنا أحاديث إلا فرنسا. فياليتها تركتنا مع اسبانيا كما كنا قرونا طوالا ننال منها وتنال منا.
نحن لا خير لنا أبدا في أن تبقى فرنسا متسلطة مسيطرة على حكومة خائرة ضعيفة في اسبانيا، لأنه مادام الأمر كذلك لا نرجو نشورا ولا حياة. نحن لا نرجو رحمة لا من اسبانيا ولا من فرنسا، ولكن خير لنا أن تكون في اسبانيا حكومة مستقلة قوية لا تقدر فرنسا أن تسخرها. وخير لإسبانيا و العالم أن تكف فرنسا عن إيقاد النار في إسبانيا بإمدادها بوقود الرجال والسلاح وفتح الباب لموسكو تبعث في كل أسبوع ما يزيد على عشر بواخر محملة رجالا وعتادا فترجع تلك السفن محملة أطفالا أيتاما فقدوا آباءهم في الحرب يذهبون إلى أحضان الشيوعية الحمراء الدموية. ذلك كله على مرأى ومسمع من فرنسا وبممالأة منها. والدلائل على هذا وأكثر منه ماثلة لا يجهلها أحد في أوربا.
وسادسها، قال الأستاذ: إن حزب فرانكو يرغمون الجنود المراكشيين على الصلاة، وهل الشيوعيون الإسبانيون وأنصاره الذين يلقونهم في الهاوية من الفرنسيين مسلمون؟ فماذا فعل الفرنسيون بالمغرب ولا سيما في الظهير الذي استصدروه لتنصير بني مازيغ (البرابر) كلهم وهم أكثر من خمسة ملايين وأنفقوا أموال الأوقاف الإسلامية على دعاة النصرانية وتركوا المساجد والمدارس الوقفية خرابا: وقد قرأت للأستاذ الزاهري مقالا يشكو فيه من مساعدة الفرنسيين في الجزائر لدعاة النصرانية إكراها للناس على الدخول فيها.
وسابعها أننا فهمنا اجتماع خمسة آلاف مسلم جزائري للتفكير في أمر مسلمي الريف لأنهم إخوانهم. وإن كان الأمر كما قال تعالى (لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه) والألف السادس كان كما قال الأستاذ من الأوربيين يعني الفرنسيين، فهذا الألف لم نفهم معنى اهتباله واحتفاله واهتمامه بمسلمي الريف. ونخاف أن يكون هذا الألف هو الذي نصب الفخ الجديد وخدع خمسة آلاف مسلم ليجعلهم أعوانه في نشر البروباغندا الشيوعية الفرنسية. والمسلمون ولا سيما من هم تحت قيد الاستعمار يكفي لتغرير ألف منهم. رجل واحد أوربي فكيف إذا كان لكل خمسة واحد يستهويهم!
الحرب الاسبانية شرارة إن دامت تحرق اليابس والأخضر وتأكل مئات الألوف من المسلمين الذين تحت حكم الاستعباد.
والمسئول عنها جميع دول أوربا، والذي تولى كبرها هي حكومة فرنسا وما سقوط الفرنك الاخير واختلال المالية الفرنسية إلا إحدى مرات إيقاد النار في اسبانيا وتوالى الإمداد من فرنسا لأنها مجاورة لأسبانيا.
وفي الختام. نسأل الله أن يلقي بأس أعداء الإسلام بينهم ويكفينا شرهم
تقي الدين الهلالي
(ملحق) والآن بعدما ختمت المقال سمعت من أخبار إذاعة (نیشنل) لندن أن الجنرال فرانكو يتهم فرنسا بأنها تحاول أن تفسد عليه الريف وتخرجه من يده، وأنه بعث إلى الدول يطلب تشكيل لجنة من بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا لتحقق وتفصل بينه وبين الفرنسيين. وهذا يؤكد ما تفرسته من المقال.
مجلة الفتح: العدد 542 ، 12 محرم 1356 – ص: 10 إلی 12