إن كثيرا من الناشئة والشبان والكهول الذين لم يدرسوا الناحية الروحية من هذه الأمة، هذا على فرض أنهم درسوا الوجهة المادية منها وما أخالهم بهذه أيضا إلا جاهلين، نصبوا أنفسهم للإصلاح وظنوا أن الطرق والأساليب التي استعملها مصلحو فرنسة أو ألمانية أو إيطالية هي نفسها التي يجب اتباعها لتطهير نفوس شعب كالشعب المغربي وإصلاحه وتأهيله لتأدية واجباته في هذه الحياة. فضلوا ضلالا بعيدا وخابوا خيبة تامة أو ناقصة على قدر توغلهم في الضلال والجهل بأحوال الأمة. إن معظم الأمم الأوربية قد عطلت النفوس وأهملت قواها إهمالا كليا فاستراحت من شرورها وحرمت من خبراتها. فنفوسهم كآلات جديدة كاملة العدة للعمل ولكنها معطلة لا تستعمل، أو كخيل فارهة قوية قد تركت وشأنها فلم تدرب على سباق ولا حرث ولا دراس ولا غير ذلك.
أما نفوس أمتنا فليست كذلك؛ لأن الإسلام حين طلع نوره حرك نفوس أسلافهم إلى الخير واستغل قواها أيما استغلال. وذلك سر تفوق الأمة الإسلامية وطيها المسافات وسرعة تقدمها في جميع ميادين الرقي وظهورها على الأمم المادية كالروم والفرس. فلما نسيت هداية الإسلام بقيت نفوس المسلمين متحركة فانعكست حركاتها حين أخذت تسير على غير علم ولا هدى. ومع انعكاس حركاتها انعكست ءاثارها وتبدلت ثمارها الطيبة اليانعة الزقوم والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع وقد استغل الدجاجلة والمشعوذين هذه الحركة النفسية لحسابهم فزادوا النفوس مرضا وانحرافا عن الجادة وضلالا. وقد أثر فساد النفوس على الأبدان فبطلت قواها وأصيبت هي أيضا بأمراض قتالة. وكأني بك تقول حسبك فلسفة فقد صدعت رؤوسنا فاضرب لنا أمثالا نفهم ما تقول فأقول: دونك الأمثال. وأقدم بين يديها مثلا جديدا طريا:
جاءت امرأة تستفتیني في مسألة. فقالت: إن عندي حفيدة لي: ابنة بنتي، لها من العمر سبع سنين. وقد ربيتها منذ صغرها أي: مذ فطمت عن الرضاعة. وكان زوجي يحبها كثيرا مع أنها ليست حفيدته ويكرمها. وقد توفي زوجي منذ شهرين. ومع ذلك لا أريد أن أردها إلى أمها وأبيها لأنها ألفتني وألفتها. إلا أن فيها عادة قبيحة. وكم ضربتها عليها لتتركها فلم تفعل. فقلت لها: وما هي هذه العادة؛ فقالت: إنها تحرق أضراسها أي تصوت بها إذا كانت نائمة. فقلت لها: ليس لك حق أن تضربيها على هذه العادة؛ لأنها فوق طاقتها، وليست باختيارها. وكثير من الأطفال يفعلون ذلك. فقات لي: إن الناس قالوا لي أن هذه العادة هي سبب موت زوجي فهي التي قتلته. أي والله قتلته المشئومة وإن استمرت في هذه العادة فستلحقني به. وقد نصح لي الناس أن أملأ فمها رملا أو ملحا كلما حرقت أسنانها. ولكن إلى الآن لم أفعل؛ لأني كلما هممت بذلك أخذتني الشفقة عليها. أما الضرب فأنا اضربها كثيرا وأحك فمها. وكانت البارحة نائمة فسمعت صريف أسنانها فأصابني غيظ شديد. وقات لها: یا كافرة یا مشئومة، قتلت زوجي فلم يكفك وتريدين الآن أن تلحقيني به. وأخذت فمها فحككته بيدي حتى سال الدم منه. والآن إن كنت تقدر على كتابة عوذة (حرز) لها لترك هذه العادة فاكتب لها.
فلما سمعت هذه الحكاية العجيبة تأسفت كثيرا وعاودني الحزن على هذه الأمة البائسة وتجدد علي الغم. وكلمتها كلاما طويلا وأقنعتها بأن موت زوجها لا علاقة له بأسنان الطفلة البتة. وأن ما حدثوها به هو حديث خرافة. وأنها قد كسبت إثما عظيما بضربها. ولو ملأت فمها رملا أو ملحا لماتت وكانت هي قاتلة النفس التي حرم الله عمدا. بل كانت وائدة وابنة ابنتها موءودة نتجتها الجاهلية المتأخرة.
وكم أمة سودانية اتهمت بالسحر ظلما وعدوانا فضربت حتى ماتت أو كادت وناهيك بخرافة حل المعقود وعقد المحلول الشائعة في بلادنا شيوعا عظيما. فكم من رجل تزوج بامرأة فاعتراه ضعف بسبب الحياء أو غيره فاعتقد أن فقيها قد أحكم عقده. فذهب يلتمس حل العقدة من سحرة الفقهاء فبقي مدة من الزمان. فإما أن يزول ما طرأ عليه من الضعف فيعتقد أن السحر هو الذي نفعه. وإما أن يطول به الأمر فتقلق المرأة فيضطر إلى طلاقها ويضيع في ماله الذي أنفقه عليها.
ولم يبق العقد محصورا في قوة الباه بل تعداها إلى ما يسمونه تثقيف السرقة. فأغلب الناس إذا سرق له متاع أو دابة يبادر إلى الساحر فيدفع له مالا ليثقف المسروق أي يمنع السارق من التصرف فيه. فيبقى في مكانه حتى يوجد أو يضطر السارق إلى رده. فقد انتقلت إدارة الشرطة إلى بيت الفقيه. بل أصحاب هذه العقيدة لا يبالون بالشرطة ولا بالحكومة والعسس والحرس؛ لأن هؤلاء في نظرهم لا يتصرفون إلا تصرفا ظاهريا كتصرف السارق، وربما كانوا مشاركين للسارق. فخبر منهم قوة السحر التي تتسلط على المسروق أينما كان وتحبسه. وقد أخبرني رجل أنه ترك التجارة منذ زمان طويل بسبب السحرة. قال: وقد أوتيت خبرة في البيع والشراء ولم أزل اتعاطي هذه المهنة منذ الصبا، حتی أني كنت في صباي ذا دكان وكنت لا أقدر على إدخال المفتاح في القفل إلا إذا وقفت على رؤوس أصابع قدمي لصغر جسمي، وكنت في ذلك نجيبا. وفي ذات يوم ثقف السحرة حانوتي فبقيت من الصبح إلى المساء لم أبع شيئا. والناس يمرون علي فيشترون حاجاتهم من جيرانې وكأنهم لا يبصرون حانوتي: فسلمت أن الحانوت مسحور. وأنني لن أقدر على بيع شيء بعد. فبعت الحانوت بما فيه وتركت التجارة. وكم من مرض قاتل يصيب أحدهم فلا يعالجه بالطب بل يذهب إلى الفقيه ليكتب له. ولو عرض عليه العلاج مجانا لفر منه غاية الفرار لفساد نفسه بالخرافات. ولنا عودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله.
تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين: الجزء 2 السنة 1 – رمضان 1365 / غشت 1946