إن من أعظم أغراض هذه المجلة دعوة الناس إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم؛ لأنهم لا يمكن أن يستردوا سعادتهم إلا بذلك. قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)، وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).
وقد بدا لنا أن نستفتح هذا الباب بكلام لابن قيم الجوزية، ذكره في أول كتابه إعلام الموقعين قال في الصفحة الثالثة من الجزء الأول:
“ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وسلم على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق. ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال. فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا. فتحوا القلوب بعلمهم بالقرآن والإيمان، وفتحوا القرى بالجهاد بالسيف والسنان. وألقوا إلى التابعين ما نقلوه عن مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا. وقالوا هذا عهد نبينا إلينا، وقد عهدنا إليكم. وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهی وصيته وفرضه عليكم فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم. ثم سلك تابعوا التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد. وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: (ثلة من الأولين وقليل من الأخرين). ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران بن حصين. فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر من مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا، أو تقليدا أو قياسا، فصار لهم الثناء الحسن في العالمين. وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين. ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم. زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال. يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقالت مضاربه. إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا. ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس. ثم خلف من بعدهم خلوف، فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكل إلى ربهم راجعون. جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون. ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون. وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد. وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب. ولسان الحق يتلو عليهم (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) قال الشافعي قدس الله تعالى روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. قال أبو عمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله.
وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى؛ فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد. فقد تضمن هذان الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء. وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء. فإن العلماء هم ورثة الأنبياء. فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه، ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشهر بتضييعه. تالله إنها فتنة عمت فأعمت (1)، ورمت القلوب فأصمت (2). ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير واتخذ لأجلها القرآن مهجورا، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورا. ولما عمت بها البلية، وعظمت بسببها الرزية بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها. ولا يعدون العلم إلا إياها. فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون، ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون. نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل. ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد. فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة، ألا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لها بما لديهم. وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه ولم يحبس نفسه عليهم. فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور. وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله، وينظر كل عبد ما قدمت يداه. ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين، ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين.
تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين: الجزء 2 السنة 1 – رمضان 1365 / غشت 1946