لم يزل ملوك المغرب من عهد مؤسس الدولة المغربية المجيدة المجدد الفاتح ادريس بن عبد الله قدس الله روحه متمسكين بالعقيدة السلفية، متجنبين للبدع، ناصرين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا في فترات طغت في بعضها بدعة الخوارج فامتد لهيبها إلى بعض أرجاء المغرب، وطغت في بعضها بدعة العبيديين المتلقبين بالفاطميين. فدولة الإدريسین قدس الله أرواحهما كانت متمسكة بالسنة تمسكا كاملا في الأصول والفروع. ولم يحفظ التاريخ لها خروجا عن ذلك ولو قيد شعرة. ودولة الملثمين كانت متمسكة بالسنة في الأصول والعقائد، حتى أن علماءها أجمعوا على إحراق كتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي فأحرقت نسخه في المغرب والأندلس؛ لأنهم وجدوا فيه الخوض في علم الكلام الذي ذمه أئمة السلف كمالك والشافعي وسفيان ابن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم، وحذروا منه ومن أجله وحكموا عليهم بالعقاب الشديد، ولا سيما وقد وجدوا في الإحياء ما أنكره عليه علماء الإسلام. وهو قوله «ليس في الإمكان أبدع مما كان إذ؛ لو كان ادخره لكان ظلما ينافي العدل».
ومعنى هذا الكلام أن الله لا يقدر أن يخلق العالم على حال أفضل مما هو عليه؛ لأنه لو كان يقدر فلم يفعل لكان ظلما لا يتفق مع العدل. ونسي أبو حامد أنه إذا لم يقدر على ذلك فقد نسب إليه العجز وهو لا يقل عن الظلم قبحا إن لم يكن شر منه وقد كان. ولا عبرة بما يعتذر به بعض المتهوسين من كون هذا الكلام مدسوسا على أبي حامد؛ لأنه ثابت في جميع نسخ الإحياء من زمان المؤلف إلى يومنا هذا. وقد انتشر الكتاب في حياة مؤلفه في المشارق والمغرب، فلو كان ذلك مدسوسا لبلغه، ولو بلغه لأنكره ورجع عنه وأمر بمحوه من كتابه.
ومن الخرافات التي تنزه عنها المقالات من العجائز ما زعموا أن أبا حامد حين بلغه أن أهل المغرب أحرقوا كتابه دعا على دولة المرابطين بالهلاك وكان محمد المهدي بن تومرت حاضرا مجلسه، فقال: يا سيدي ادع الله أن يجعل هلاكهم على يدي، فدعا أبو حامد بذلك. ومن يعلل انقراض الدول بمثل هذه العلة الواهية فقد توغل في الجهل وخرج عن زمرة العقلاء، فلا يصلح لحمل أمانة العلم وتأديتها بالدرس والتأليف. وقد ذكر هذا الخبر لسان الدين ابن الخطيب في الحلل الموشية ولا أظن أنه كان يعتقد ذلك، وإنما ذكره ليلم بجميع ما قيل في المسألة. وكثيرا ما يفعل ذلك بعض المؤرخين من المسلمين والأوربيين ايضا؛ فتواريخهم محشوة بذلك اعتمادا منهم على أن العالم لا يخفى علیه فساد تلك الأقوال.
هكذا كان المرابطون في العقائد، وكان المغرب في عهدهم طاهر العقيدة لا تغره نزغات هوس المتكلمين وخصوماتهم فيما نهى السلف عنه، وهو على ذلك، تافه لا يسمن ولا يغني من جوع، وذلك كاختلافهم في الاسم هل هو عين المسمى أو غير المسمى، واختلافهم في كلام الله تعالى كيف هو. وكان المغرب طاهرا من ذرائع الشرك كالقباب والأعياد القبورية والمواسم وسوق الهدي إليها وذبحه لها وما يقع في ذلك من المنكرات التي تقشعر منها الجلود.
وكان المغرب سالما من الطرائق القدد التي فرقته وجعلته أحزابا وشيعا واستولى رؤساؤها على عقول أهله فذهبوا بدينهم ودولتهم ودنياهم، إلا أن المرابطين كانوا مقصرين في تحقيق الاتباع، فبلغ التقليد والتمذهب وتوليد الفروع في زمنهم مبلغا لم يبلغه من قبل؛ فهذه ناحية الضعف التي كانت فيهم من الوجهة الدينية.
وأما الموحدون فقد اعتنوا بناحية مهمة من السلفية، وهي تحقيق الاتباع الذي هو العمل بمقتضى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا في ذلك إلى أن أحرق عبد المؤمن بن علي كتب الفروع (1) وأصدر أمره إلى القضاة والمفتين في طول مملكته وعرضها، وكانت ممتدة من أقصى سوس جنوبا إلى طليطلة من بلاد الأندلس شمالا. ومن المحيط الاطلانطيقي غربا إلى طرابلس شرقا، أصدر أمره إليهم ألا يفتوا إلا بالقرءان والحديث ولا يقضوا إلا بهما، ولا يدرسوا في المدارس والمساجد سواهما. قال صاحب الاستقصا رحمه الله عقب حكايته عن عبد المؤمن إحراق كتب الفروع: “فجزاه الله خيرا” وبذلك تعرف أن المغرب لم يخل قط من العلماء الناصرين للسلفية حتى في هذا الزمان؛ فإن صاحب الاستقصا رحمه الله توفي حوالي سنة 1326 هـ وأما العقائد فقد أفسدها ابن تومرت وأتباعه؛ فإنهم وجدوا المغرب، آمنا مطمئنا على العقيدة السلفية الخاصة، وذلك أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من حديثه، فجاءهم هذا الرجل بالعجر والبجر، وفتنهم في دينهم، وأخذ يعلمهم العقيدة الفلسفية المنسوبة بالباطل لأبي الحسن الأشعري؛ لكنها منسوبة بحق إلى الفرقة الثانية من أتباعه. وسيأتي بسط الكلام على الفرقتين في الأجزاء التالية من مجلتنا إن شاء الله تعالى.
فألف ابن تومرت عقيدة بالعربية، ومثلها بالبربرية على نحو كتب الكلام المتأخرة كالسنوسيات والجوهرة وإضاءة الدجنة وغيرها، وأوجب على الناس معرفة تلك الكتب، وحكم على من لم يعرفها بالكفر وإن كان يعتقد ما ثبت في القرءان والحديث ومضى عليه السلف من الصحابة والتابعين. فكانت فتنة عمياء أصيب بها المغرب ولا يزال إلى الآن بتخبط في ظلماتها.
وقد اتبع السعديون فيما أعلم تلك العقيدة التومرتية ولم ينتبه أحد من الملوك إلى فسادها حتى جاء سيدي محمد بن عبد الله بن اسماعیل رحمهم الله، وهو ملك علماء هذه الدولة وعالم ملوكها، فكان يجمع العلماء ويدارسهم الكتب فبدا له فساد العقيدة التومرتية فأعلن رجوعه عنها. وقد كان سروري عظيما حين قرأت الكتاب الذي ألفه هذا الملك العالم وجعله محاذيا لرسالة ابن أبي زيد القيرواني؛ فإنه قال في أوله: محمد بن عبد الله المالكي مذهبا الحنبلي عقيدة، فلما قرأت لفظ الحنبلي عقيدة بدت لي فيها معان واسعة يستغرق بسطها مجلدا كاملا.
وعلمت أن هذا الإمام اهتدى بدقيق علمه ونفوذ بصیرته وواسع اطلاعه إلى ما أصاب العقيدة المغربية على يد ابن تومرت فعزم على إصلاحها، وبدأ بنفسه فلم يرض أن يقول الأشعري عقيدة كما يقوله المؤلفون المغاربة الذين جاءوا بعد ابن تومرت؛ بل انتسب إلى أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة الصابر على المحنة، الذي حفظ الله به عقيدة أهل السنة من الزيغ الذي هم المأمون العباسي أن يدخله عليها. فإن قلت: وهل كان أبو الحسن الأشعري ضالا في عقيدته حتى رغب هذا الملك العالم عن الانتساب إليه وخالف ما هو شائع ذائع في علماء مملكته في وقته وقبله بكثير؟ فالجواب أن أبا الحسن رحمه الله كان ضالا في العقيدة، ثم اهتدى إلى عقيدة السلف ءاخر الأمر كما بينه في كتابه “الإبانة في أصول الديانة”، طبع في حيدر أباد دكر، بالهند وبينه كذلك في كتابه “مقالات الإسلاميين”، طبع في اسطنبول وبينه الإمام ابن عساكر في كتابه “تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري” طبع في دمشق. وقد انتسب أبو الحسن الأشعري نفسه إلى أحمد بن حنبل في كتاب الإبانة. ولما كان الاشعرية فرقتين: إحداهما تتبع أبا الحسن الأشعري في عقيدته التي رجع إليها ومات عليها، والأخرى تتبع عقيدته الأولى التي رجع عنها، وكلتاهما تنسبان إليه. امتنع الإمام محمد بن عبد الله العلوي رحمه الله من الانتساب إلى أبي الحسن الأشعري وانتسب إلى أحمد بن حنبل حتى لا يظن به أنه من الفرقة الأشعرية الثانية.
وهذا الكتاب الذي ألفه هذا الإمام محاديا به رسالة ابن أبي زيد القيرواني طبعه معهد الجنرال فرانكو بتطوان فلینظره من شاء، ثم اقتفى أثره في اتباع السنة ابنه مولاي سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل فكان ناصرا للسنة ولأهلها، قامعا للبدعة وذويها. وأفضل دليل على ذلك خطبته الشهيرة التي ألفها من إنشائه البليغ رحمه الله وأمر الخطباء في أنحاء مملكته أن يخطبوا بها وينشروها في الناس.
وقد طبعها علماء فاس ورفعوها إلى جلالة السلطان سيدي محمد بن يوسف أيده الله بنصره و المومنین وكان ذلك في 17 محرم سنة 1362 هـ، فاهتبل نصره الله بالأمر أيما اهتبال، وأمر بإبطال البدع الظاهرة انتصارا لسنة جده الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسيرة سلفه الأدنى الإمام محمد بن عبد الله وابنه الإمام سليمان بن محمد ومن سلك سبيلهما. وقد رأينا أن نحلي هذا المقال بنقل كلمات مباركات من خطبة المولى سلیمان قدس الله روحه. قال:
“واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون، وافترقوا أوزاعا وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا، فيما هو حرام كتابا وسنة وإجماعا وتسموا فقراء، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) وكل ذلك بدعة شنيعة، ومضلة فظيعة، ونسبة وضيعة وسنة مخالفة لأحكام الشريعة وتلبيس وضلال، وتدلیس شیطان وخبال. زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأقواتا. وتصدى أهل البدع من عیساوة وجلالة، وغيرهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة. صاروا يترقبون للهوهم الساعات، وتزاحم على حبال الشيطان وعصيه منهم الجماعات. وكل ذلك حرام ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع. فأنشدكم الله عباد الله! هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه سيد الشهداء موسما؟ وهل فعل سید هذه الأمة أبو بكر لسيد الرسل صلى الله عليه وعلى جميع الصحابة والآل موسما؟ وهل تصدى لذلك أحد من التابعين رضي الله عنهم أجمعين؟ ثم أنشدكم الله هل زخرفت على عهد رسول الله المساجد؟ أم زوقت أضرحة الصحابة والتابعين الأماجد؟ كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفة أضرحة الصالحين وغير ذلك من أنواع الابتداع، حسبنا الاقتداء والاتباع (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون). وهذه المقالة قالها الجاحدون، هیهات هيهات لما توعدون. وقد رد الله مقالهم، ووبخهم وما أقالهم. فالعاقل من اقتدى بأبائه المهتدين، وأهل الصلاح والدين. (خير القرون قرني (2). و بالضرورة أنه لن يأتی آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها)” انتھی المقصود نقله منها. وهي كلها غرر ودرر.
وقد تواترت الأخبار عن جلالة السلطان المؤيد بالله سيدي محمد بن يوسف بلغه الله في هذه الأمة المنی، وأزال عنها العناء أنه سالك في اتباع السنة سبيل أسلافه الصالحين وأنه أیده الله شدید سدید في قمع الدجاجلة المبتدعين. وقد ذهبت في هذه الأيام للسلام على صاحب السمو الخليفة المعظم مولاي الحسن ابن المهدي أيده الله وأدام توفيقه، فأخذ سموه يحادثني محادثة الأخ لأخيه على عادته الجميلة في التواضع ولين الجنب وكرم الأخلاق إلى أن جرى ذكر الإصلاح الديني والسلفية، فأفاض القول في ذلك بحماسة وارتياح متبرئا من المبتدعين عادلا غير عاذر للعلماء المدلسين الذين يجارون أهل الجهل والهوى ويكتمون ما علمهم الله لأغراض خسيسة، وأطماع دنيئة يخافون فواتها.
ووجدته حفظه الله متتبعا لحركة الإصلاح والوعظ والإرشاد في هذه المنطقة الخليفية وفي المنطقة السلطانية كذلك لا يخفى عليه من ذلك دقيق ولا جليل. ثم قال لي حفظه الله إني اعتقد أن أفضل طريق إلى الإصلاح الروحي في بلادنا هو الدعوة والوعظ لتمكن الجهل وغلبته على أكثر الأمة. ولا غرابة في ارتياح هذا الأمير الكريم إلى إحياء السنة وإماتة البدعة. فهو أكرمه الله بالمكان الذي لا يخفى من إصابة الرأي ودقة النظر وحب الخير لرعيته. ولا يستغرب انتصار جلالة السلطان وسمو خليفته المعظم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف الصالح إلا جاهل بقدرهما وبما كان عليه سلفهما. نسأله تعالى أن ينصر الإسلام على أيديهما كما نصره على أيدي أسلافهما وأن يعيد لهذه الأمة المغربية عزها ومجدها
ءامین ءامین لا أرضى بواحدة *** حتى أضيف لها ءالاف ءامينا
تقي الدين الهلالي
مجلة لسان الدين: الجزء 2 السنة 1 – رمضان 1365 / غشت 1946 – ص: 12
————————-
(1) لما كانت سنة خمسين وخمسمائة أمر عبد المؤمن بن علي بتحریق كتب الفروع، ورد الناس إلى قراءة كتب الحديث واستنباط الأحكام منها وكتب بذلك إلى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس والعدوة فجزاه الله خيرا اهـ. من كتاب الاستقصا.
(2) حديث صحيح متفق عليه ولفظه (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الخ.)